منذ سنوات قليلة مررت بمدينة العلمين الجديدة، كانت مجرد إنشاءات و"ماكيت" فى الخيال، صورة يتلقفها الوجدان لعلها تُغير تفاصيل الصورة القديمة التى أكاد أُجزم أننى كنت أسمع فيها صرير الريح، كان المكان مرادفا للموت، كان نفيًا للمنطق والحياة الإنسانية، كان مجرد أطلال نمر بها فنفتح أجفاننا عن آخرها ونكتفى بقراءة السلام، نمشى بحذر لأننا نخشى الألغام والأشباح والخرافات.
حين مررت بالإنشاءات شعرت بأن رائحة الماضى لم تعد هى الغالبة، ثمة متنفس جديد يعد بحياة جديدة، تمنيتها حياة حقيقية يغتسل بها كل العابرين بالود والإنسانية التى هددتها الحرب العالمية الثانية ووصلت هنا على أرض مصرية، فى منطقة العلمين التى حملت اسمها المعركة الحاسمة لنهاية الحرب بين دول الحلفاء ودول المحور، مررت كذلك بمتحف العلمين العسكرى والمقابر التى دُفن فيها آلاف الجنود والضباط الذين قتلوا خلال معركة العلمين، والشاهدة على الخراب الإنسانى حينذاك.
اليوم هنا فى العلمين الجديدة حياة مختلفة، مكان تحول من مقبرة وأطلال وخرائب إلى فضاء متسع يثير الفضول والأسئلة التى تسعى وراء نَفَس جديد، منطق مختلف يعنيه جوهر الإنسانية.. إنها فعلًا العلمين الجديدة، ليست ابنة الحروب واستطرادها العجائبى وتاريخ سجالها الشهير بين الحياة والموت. وعليها الآن بعدما بلغت حدًا من تاريخها المليء بالألغام والمآسى أن تكون من القوة التى لا تُبارى، فى ترسيخها الجديد ثقافيًا وفنيًا وسياحيًا، وأن ترتقى بعراقتها التاريخية لتضيف جمالًا إبداعيًا إلى جمالها الطبيعى، إنها إذًا لا تتنافس مع مدن أخرى، إنما وهذا هو الأهم أنها تتنافس مع ماضيها عينه. التحدى سمة هذه المدينة وهذه المنطقة، تحدّ فى أوانه، هنا زمن المراهنات الذى لا يكتفى بالإبهار الشكلى فقط، أو الارتكاز على فكرة الريادة المصرية وحدها، إنما الأمر يحتاج دائمًا الأفكار الخلاَقة وتحفيز كل خلية إبداعية وتوسيع الهوامش الثقافية، فإن تراكم الجمال والإدهاش يصنع التاريخ الجديد.
هنا أيضًا أتذكر الفيلم الشهير "المريض الانجليزي" الذى يحكى عن المنكوب المجرى الملتاع الذى يركض فى الصحراء الغربية بمصر بين هاويتين: الحب والحرب، ويرقد على سرير فى إيطاليا عند حافة اللاشيء، لا موت ولا حياة، خلف أبواب ماضيه المتناثر كرمل الصحراء، مسكون بأشباحه وليس لديه أمل فى غد يعرف جيدًا أنه لن يأت. الفيلم الحاصل على نصيب كبير من جوائز أوسكار عام 1996، بعد أن رُشح لاثنتى عشرة جائزة فاز بتسع منها فى حفل توزيع الـ"أوسكار التاسع والستون بتاريخ 24 مارس، 1997: أفضل فيلم، أفضل مخرج لأنتونى منجيلا، أفضل ممثلة فى دور مساعد لجولييت بينوش، أفضل مخرج فنى وديكور لستيوارت كريج وستيفانى مكميلان، أفضل تصوير سينمائى لجون سيل، أفضل مونتاج لوالتر مورك، أفضل موسيقى لجابريال يارد، أفضل صوت لوالتر مورك ومارك برجر وديفيد باركر وكريستوفر نيومان، أفضل تصميم أزياء لآن روث.. تم تصوير الفيلم الذى تم تصويره فى الصحراء التونسية بدلًا من الصحراء المصرية وهى الموقع الأصلى لأحداث الفيلم، الدلالة التى نستخلصها من ذلك أنه أن الآوان فى إطار التجديد والتغير النوعى، فتح الأفق لتصوير الأفلام الأجنبية فى مصر، فهذا بدوره سيفتح أبواب للعمل والدخل والترويج السياحى أيضًا.
دلالات أخرى يمكن استخلاصها من فيلم يتدرج ما بين الانبهار وإثارة الحماسة والأسئلة مثل "المريض الانجليزي"، لكن هل هذه الدلالات لها علاقة بالحرب العالمية الثانية، كحدث تاريخى فاصل فى سيرة الإنسانية؟ أم أنها تخص فقط حالة بطله وقصة حبه التى جاءته كالبرق والصاعقة؛ لترسم مسارًا غريبًا لنهايته، ذلك المريض الذى نفهم على مدار الأحداث أنه ليس انجليزيًا، بل مجريًا يدعى الكونت لازلو دو ألماشى، وإن كان "رالف فينيس" الممثل الذى جسده انجليزيًا، وكذلك كل من زميليه كريستين سكوت توماس وكولين فيرث والمخرج وكاتب السيناريو أنتونى مينجلا، بينما كاتب الرواية المأخوذ عنها الفيلم بنفس الاسم هو السيرلانكى مايكل أوناتجى، هذا غير الفرنسية جولييت بينوش والأمريكى ويليم دافو وغيرهم من فريق الفيلم خارج الدائرة الانجليزية؟!
الحق يُقال أن الفيلم الذى إنضم إلى قائمة أفلام تحولت إلى ظاهرة مع القبول الجماهيرى الكبير نحوها، بما يساوى حجم الرومانسية العصية على التحقق فى الواقع، كان له مجاله ليعدل من حركة الأحاسيس فى ثنائية الحب والحرب، فتتوزع الدلالات عند "المستحيل"، التيمة التى تتحرك على إثرها الأحداث، بطريقة أشبه بالفخ الذى لا مفر منه، يورطنا الفيلم فى حكايته المعقدة إلى حد التشابك من خلال قصتى حب، الأولى بين "لازلو وكاثرين"، تغزل خيوطها فى مصر على أعتاب الحرب العالمية الثانية وقدومها عبر الصحراء المشتركة بين مصر وليبيا، والثانية بين "هانا وكيب" تنتهى فى إيطاليا مع نهايات الحرب، حيث يبحث الفيلم عن إجابات لا يحصل عليها فى هذه النسخة الشاعرية المثيرة من الرواية الشهيرة التى كتبها مايكل أونداتجى، تُرجمت لأكثر من ثلاثمائة لغة وفازت بجائزة البوكر عام 1992.
كما أن الدلالات تُشير إلى البؤس الإنسانى الذى لم ينج منه أحدًا، فى لحظة قاسية مفتوحة على الحرب وما يستتبعها من شتى الاحتمالات، يكون فيها الموت حبًا يساوى الموت قصفًا وحرقًا، ينقسم السيناريو بين ما يحدث فى إيطاليا وما حدث فى مصر، بين الحاضر والماضى الذى نعود له من خلال (فلاش باك) تتشابك فيها الأحداث بدرجة كبيرة، تكاد تفقد فيها الخط الرفيع بين ما حدث فى الأمس وما يحدث اليوم، فى مصر؛ فى الحياة الاجتماعية المحمومة فى القاهرة، حيث يدرك الجميع أن الحرب قادمة، يلتقى الجغرافى والمستكشف المجرى "كونت لازلو دى ألماشي" بالزوجين البريطانيين "كاثرين وجيفرى كليفتون"، ينجذب إليها ويتابعها بكل الوسائل، ويبدو أنها أيضاً شعرت بانجذاب رغم بعض المقاومة والمواجهة: "لماذا تتبعني؟، فى نهاية المطاف يجدون أنفسهم جميعًا فى الصحراء، جزءًا من رحلة استكشافية ويعلقون فى عاصفة رملية، ثم يذهب جيفرى فى مهمة عمل غامضة (يتبين لنا فيما بعد أنها جاسوسية)، فتبقى كريستين مع لازلو الذى قاوم مشاعر حبه تجاهها، لكنهما يقتربان من بعضهما فى تسلسل رومانسى مذهل، وتنشأ بينهما علاقة بقدر ما تعذبهما لأنها فى الظلام، بقدر شغفهما بالاستمرار فيها.
تتطور الأحداث وتموت حبيبته وحين يعود بجثتها فى الطائرة الألمانية يقصفها الانجليز ويسقطونها، بينما يسعفه البدو قبل أن يتولى الصليب الأحمر نقله إلى أوروبا إذ يأخذونه إلى إيطاليا، يسألونه عن جنسيته، فيجيب: أنا رجل محترق!! إنها الإجابة التى تختصر الإنسانية فى أكثر صورها قسوة، فأية جنسية يمكن أن يهتم بها رجل ضاعت ملامحه وتلاشى جلده الذى يغطى لحمه وعظامه، أية جنسية يمكن أن يفخر بها فى عالم لم يحترم بشريته وحضوره الآدمى وأهدر جسده كنفاية لا معنى لها ولا نفع منها؟
تركت الحرب أثرها الرهيب كعبء كبير على الروح يكاد يثقبها، الخوف صياد يلاحق طريدته بشراسة، كما نلحظ ما يحدث مع الممرضة "هانا" فى الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، بينما هى تهتم بالمريض المجهول الذى دمرته الحروق ظاهريًا وداخليًا، يحاول أن يلملم تدريجيًا شتات روحه المبعثرة ويتذكر ماضيه على فراش احتضاره.. يصل الخوف إلى أقصى مداه حين تنهار "هانا" باكية، لأنها تخون شرف مهنتها كممرضة وتستجيب لرغبة لازلو فى الانتحار، فتحقنته بكميات كبيرة من المورفين بعد ما تعاطفت مع حالته كـ مُشوه لا أمل له فى الحياة، ويحمل مشهد النهاية تقاطعًا بين موت كاثرين حبيبته وجسدها الذى يحمله إلى الطائرة، وموته الهاديء بالمورفين بينما تقرأ له هانا من كتابه القديم.
الموت تسلية الحرب وهو دلالة أخرى قدمها الفيلم كبارقة تكشف لعبة الحرب التى تبتلع الخائفين، وتغوى القتلة فى العبث المشترك بين كل الجيوش المتحاربة، فيبدو القتل هنا كأنه غريزة متفق عليها فى هذه الصحراء الغربية، لم يستغلها الفيلم جيدًا ليُبين ما شهدته من معارك شرسة فى الحرب العالمية الثانية، تواجهت فيها قوات دول الحلفاء بقيادة بريطانيا وقوات دول المحور بقيادة ألمانيا فى محيط العَلمين (غرب الإسكندرية)، لم يقترب الفيلم من هذه التفاصيل كما فعلت أفلام أخرى كانت العلمين مثلًا موضوعًا فيها، سواء أفلام وثائقية مثل"انتصار الصحراء"، يعتبره كثيرون أول فيلم أجنبى يرصد معركة العلمين، أنتجته وزارة الإعلام البريطانية، عام 1943، بعد عام واحد فقط من وقوع المعركة، حاز على جائزة أوسكار، أو فيلم روائى مثل "ثعلب الصحراء: قصة رومل"، يحكى قصة السنوات الأخيرة فى حياة القائد الألمانى الشهير إرفين رومل، أو حتى فيلم مثل فيلم "العلمين" (1953) إخراج فريد إف سيارز، الذى لعب فيه الممثل بينى روبن شخصية سائق مصرى يعمل فى خدمة الضابط الألمانى، وأفلام أخرى صنعت من الحدث وثيقة، أما "المريض الانجليزي" فقد اهتم بقصص الحب التى عقدتها الحرب وجعلتها فى مصاف المستحيل.
فى مقاله "كان وراء فيلم سيوة عام 1937 ومن مراجع المريض الإنجليزى"، المنشور فى صحيفة "المصرى اليوم" بتاريخ 8-7-2016، أكد الناقد سمير فريد أن الفيلم استفاد من أحمد حسانين باشا، وقد تبدى له ذلك بعد مشاهدته فى مكتبة الكونجرس فى نيويورك لفيلم صامت أنتج عام 1937، كأول فيلم صُور فى واحة سيوة، وأن أحمد حسنين كان أحد مراجع فيلم المريض الانجليزى، يقول: (كانت أول محاولة لاكتشاف الصحراء الغربية هى التى قام بها الرحالة الألمانى رولفس عام 1879، ولكن الرحلة لم تتم لشكوك سكان الواحات فى مقاصده واختلف الأمر عام 1921، ورحبوا بأول رحالة مصرى جاء إليهم ذلك العام، وهو أحمد حسنين، والذى قام برحلة ثانية عام 1923 حتى أطلقت عليه الصحافة المصرية "رجل الصحراء"... الباشا كان وراء تصوير أول فيلم صور فى سيوة عام 1937 فى الصحراء التى اكتشفها، وإن لم يذكر اسمه فى عناوين الفيلم، وفى نهاية رواية المريض الإنجليزى يشير مؤلفها مايكل أونداتجى إلى أنه اقتبس من مقال أحمد حسنين بك "عبر الكفرة إلى دارفور" المنشور بالإنجليزية عام 1924 فى وصف العواصف الرملية، وأنه استفاد منه لاستحضار صحراء الثلاثينيات).
إذًا فـ"المريض الانجليزي" لم يُصنع كى يوثق تاريخًا، لم يقدم رواية تاريخية عن الحرب، كما أنه لم يعيد تفسير الواقع والتاريخ الاجتماعى، بل صنع تاريخه بنفسه وعلى طريقته الباذخة والمفعمة بالحيوية، إضافة إلى العمق والسمت الانفعالى والعاطفى لدى شخوصه، ولا شك فى أن نزعته هذه التى اتسمت بالسخاء وحظيت بحب غالبية الجماهير، جعلته أسطورة للحب المستحيل كما أسلفت، تتحرك بمعانيها الرومانسية والقيمية، وينحسر عنها الزمان كأنه يخفف القول عن مآس القتل والدم التى إفترشت الصحراء الغربية، فالتاريخ يذكر أن هناك بالفعل رحالة وجغرافى مجرى شهير هو الكونت المجرى لازلو إدوارد الماشى (1895 – 1951)؛ جاء إلى مصر طيار محارب، ومهندس سيارات، وسائق سيارات سباق مرموق، وصائد أسود، مغامر من النوع الثقيل حقق فتوحاته الاكتشافية فى صحرائها الغربية، قاده القدر إلى شمال افريقيا وتحديدًا إلى روميل الباحث عن أية معلومات خاصة بالحلفاء فى مصر، كما تقول الكاتبة المصرية أمينة خيرى فى مقالها المنشور بصحيفة الحياة: " روّج لها المريض الانكليزى وعاشت قصص الجاسوسية الكبرى: مصر الأخرى فى رحلة الجلف الكبير"، حيث نعرف أن "ألماشي" نجح فى رحلاته الاستكشافية فى العثور على رسوم على أحجار كهفين، اعتبرت بمثابة دليل على وجود آثار للحياة فى عصور ما قبل التاريخ فى منطقة الجلف الكبير، كما فى كهف السباحين الذى ترك فيه حبيبته كما ورد فى الفيلم، بالإضافة إلى كم هائل من المعلومات الخاصة بالصحارى المصرية، لعبت دورًا رئيسيًا فى عملية تجسس سرية أثناء الحرب العالمية الثانية، فقد اختلط "ألماشي" بالصحراء حتى أطلق عليه البدو لقب "أبو رملة"، كما ساهم فى تأسيس قطاع الطيران المدنى بمصـر عبر إقامة برامج تدريبية بأول مطار مدنى مصـرى سُمى باسمه مطار "ألماشي" الذى حُرف فيما بعد إلى "ألماظة"، هذا غير إكتشافه فى رحلته على ضفاف النيل من مصر إلى السودان قبيلة "المَجَراب".
هذه جوانب ما لم يتعمق فيها الفيلم الذى لم يلق كشافاته التنويرية سوى على قصة حب هى فى أغلب الأحوال تخيلية، استلزمت الكثير من الأحداث الوهمية لإبراز تفاصيلها التى جعلت من الحرب والجاسوسية والاكتشافات الجغرافية المثيرة، مجرد هامش ضيق بينما تهيأ فضاء الفيلم فى أغلبه للحالة العاطفية، ما يجعل مشاهدته الأولية تبدأ بربع عين ثم بنصف عين، إلى عين حشرية كاملة، لا تلبث أن تكتشف بعض الهنات التى خضعت للتصورات الغربية النمطية عن الشرق، تلك التصورات الذهنية عن أجواء ما بين المتعة والغرائز وبين الرجعية والتخلف، إذ وفق هذه الصورة فإن التصوير فى أى صحراء لن يشكل فارقًا، لذلك فقد تم تصوير الفيلم فى صحراء تونس على اعتبار أنها الصحراء الغربية فى مصر، وصورت الأحداث فى صحراء عين الجمال، وفى سوق الحدادين بمدينة صفاقس وكذلك فى السفارة الإنجليزية فى تونس وفى مدينة المهدية.
نخرج من هواجس الفيلم إلى وهج الموسيقى والتنوع الفنى والثقافى والرياضى أيضًا وظهور نجوم مصر مع جمهورها الغفير فى العلمين الجديدة، هذه الحالة التى تُسلط نوعًا من الأمل على أرواح الناس، ويجعلهم يزفرون الإيقاع البليد والثقيل الذى يحاوطنا جميعًا فى خضمّ القلق من حروب عالمية جديد، لأجل إقتناص هذه اللحظة من الأمل والثقة فى إسترجاع جزءًا من الروح الحية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة