د. إبراهيم نجم

مؤتمر الإفتاء العالمي والواقع الدولي المتأزم

الإثنين، 22 يوليو 2024 10:35 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لا يخفى أن الوضع العالمي يمر بواحدة من أكثر حالته تأزمًا في التاريخ الإنساني، فالصراع والتوتر أصبح سمة رئيسة للعلاقات البشرية، ويكفي في هذا الصدد أن نستعرض في عقولنا عدد الصراعات الأهلية والدولية المستعرة في اللحظة الراهنة، وحتى التي انتهت ولم تتم تسويتها وما زال الخوف يسيطر على الجميع من انفجارها ما بين لحظة وأخرى، فضلًا عن التوتر القائم والمستمر بين العديد من القوى العالمية والتي نعيش في كل فترة شبح اندلاع نزاع مسلح مدمر بينها.

كل تلك الشواهد تؤكد أن منطق تحكيم القوة في تصاعد مستمر، وأنه على الرغم من النداءات المتزايدة والمستمرة بضرورة إقامة سلام عالمي حقيقي، فإننا ما زلنا نتوجس في كل لحظة من نشوب نزاع جديد بجانب النزاعات القائمة بالفعل.
وعلى الرغم من تلك الصورة التي تبدو قاتمة فإننا ما زلنا على يقين من أن البشر في مجملهم حتى المتورطين في نزاعات وصراعات مسلحة يرتكز في صميم قناعتهم أن الملاذ الحقيقي لن يكون أبدًا إلا في إرساء سلام شامل يكفل الطمأنينة والاستقرار والإنتاج.
ولكن إذا كنَّا على يقين من أن الرغبة في السلام هي ما تنطوي عليه النفس البشرية، فلماذا يكون خيار الصراع هو أقرب الخيارات كما نراه اليوم؟

ولعل الإجابة على ذلك السؤال تتعلق في الأساس بمحركات تلك الصراعات، والدوافع التي تقف وراءها، فالأهداف الاقتصادية والرغبة في بسط النفوذ والهيمنة كانت حاضرة في الكثير من الصراعات، إلا أن الكثير من الأزمات العالمية عبر التاريخ، والتي راح ضحيتها ملايين البشر، حرَّكتها دوافع لفئات حاولت دومًا أدلجة تلك الصراعات، وإعطاءها طابعًا يضمن اشتعالها واستمرارها.

فأدلجة الصراعات البشرية وإضفاء الطابع العقدي والديني عليها ظاهرة تاريخية قديمة، واستراتيجية مستهلكة في إدارة الصراعات على هيئة معادلات صفرية تضمن تأبيد الصراع حتى الخسارة التامة أو الانتصار التام، وهو ما يجعل من الصراع ظاهرة مستمرة متجددة لا يمكن أن تتوقف؛ ولذلك فإن فك الارتباط بين البعد الأيديولوجي وبين الصراعات الدائرة، والوقوف على أسبابها الحقيقية يساعد بشكل مباشر في تفكيك تلك الصراعات، ومناقشة فكرة الحرب والسلام من خلال أسس المصالح والمشتركات الإنسانية.

وانطلاقًا من تلك النقطة نؤكد أن الخطاب الديني ومكوناته وطبيعته تساهم بشكل كبير في بناء السلام العالمي والحدِّ من الاحتقان والصراع، وأننا يمكننا من خلال ذلك الخطاب قطع مسافات كبيرة على طريق السلام الشامل.

إننا -ونحن نرى ضرورة تفعيل قيمة السلام الشامل من المنظور الإسلامي- نستند إلى شمولية الشريعة الإسلامية وتأصيلها بما يضمن تحقيق ذلك السلام المنشود من خلال مجموعة من القيم الرئيسية التي تضمن كافة الحقوق الإنسانية والعناية بها والمحافظة عليها، وليس كما يحاول البعض إبعاد الشريعة عن هذا المضمار مدَّعين أن بناء الحقوق والحريات منتج غربي خاص وخالص للحضارة الأوربية الحديثة، وأن ذلك البناء يعد ابنًا شرعيًّا لفلاسفة القرن السابع عشر والثامن عشر، بل وتطرف آخرون فذهبوا إلى أن قيم الحرية والمساواة التي تبنَّاها الغرب هي بناء أجنبي عن البناء القيمي الإسلامي! حتى إن ذلك الطرح الغريب قد دفع البعض إلى التسرع في محاولات منه لبذل الوسع والجهد للتنظير والتأسيس لنظرية حقوقية إسلامية يثبت من خلالها أن تلك النظرية والرؤية لا تفتقر إلى الانسجام أو التماهي مع مخرجات الثقافة الغربية الحديثة، وما تولد عنها من بناء متكامل لقضايا الحقوق والحريات.

لقد امتلك الإسلام رؤية شاملة ومتكاملة فيما يخص قضايا الحقوق والحريات، وانطلقت تلك الرؤية من التأصيل للكرامة الإنسانية، وأن الإنسان يستحق كافة حقوقه من حيث كونه إنسانًا بغير أي وصف زائد على تلك الإنسانية، فقال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، وقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70].

كما أن المصدر الإلهي للحقوق الإنسانية في الإسلام انعكس على ضبط التناول الحقوقي في الشريعة، وساهم في علاج المعضلة التي عانت منها الإعلانات والمواثيق المتكررة، وهي رعاية الخصوصيات الثقافية والدينية أثناء تطبيق الحقوق الإنسانية، وأزال كافة الإشكالات المتعلقة بذلك المنزلق الخطير الذي تسبب فيه فهم الإطلاق.

وخلاصة الأمر أن ظاهرة الصراع الإنساني بجذوره التاريخية مهما وصلت إليه من التشابك والتعقيد يمكن تقويضها بشكل كبير بناءً على فلسفة الشريعة الإسلامية ومنظورها لقيمة (السلام) بوصفها الأصل الإنساني المشترك الذي يجب العودة له والتمسك به.

وتلك الفلسفة الإسلامية يجب أن تُفعَّل وأن نجد انعكاساتها على هذا الوضع العالمي المتأزم، ويجب أن يكون للفتوى دورها في هذا الصدد لكونها أكثر أدوات الخطاب الديني الإسلامي مرونة وقدرة على الربط المباشر بين الواقع العالمي وبين الحكم الشرعي.

ومن ثم جاء مؤتمر الأمانة التاسع ليلقي الضوء على علاقة الفتوى الوثيقة بالقيم الحقوقية الإنسانية بمفهومها الشامل، وعلى قدرتها على المساهمة في خدمة البشرية بقطع النظر عن أصولهم الدينية والعرقية، وكيف يمكن للفتوى أن تؤسِّس لبناء سلام عالمي قوي انطلاقًا من احترام المواثيق والاتفاقيات والقوانين الدولية، واحترام التعددية الثقافية ومواجهة العولمة الفكرية والثقافية، وتعزيز ثقافة الحوار بين كافة الأطياف والثقافات.
والله من وراء القصد.










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة