ظل السباق السياسى على مدى عقود قائما على ثنائيات، العمال والمحافظين فى بريطانيا، اليسار ويمين الوسط فى أوروبا، ومع السنوات الأخيرة بدأت المعادلة تختلف، وتتجه أكثر نحو المزيد من التطرف، وتطيح بالطبقة السياسية التى يمكن تصنيفها بأنها الوسط، فى كل من اليسار واليمين.. ثم إن السنوات الأخيرة ومع تدفق المهاجرين على أوروبا نتيجة الصراعات والحروب الأهلية، أفرزت ردة فعل يمينية ضد الهجرة والأجانب، تحمل بعضها توجهات عنصرية، ظهر هذا فى انتخابات الاتحاد الأوروبى، يونيو الماضى، حيث حققت الأحزاب المنتمية إلى «أقصى اليمين» فوزا كبيرا فى انتخابات البرلمان الأوروبى متقدمة فى فرنسا وإيطاليا والنمسا، وثانية فى ألمانيا وهولندا، فى فرنسا غامر الرئيس الفرنسى بحل الجمعية العمومية وإجراء انتخابات تقدم اليمين فى مرحلتها الأولى، و فاز فيها حزب «التجمع الوطنى» اليمينى، الأمر الذى دفع أحزابا يسارية متنوعة للتحالف، وبينما كانت البلاد تترقب مدّا يمينيا متطرفا فى الدورة الثانية من الانتخابات، نجح تحالف «الجبهة الشعبية» المؤلف من أحزاب متباينة، ومتعارضة أحيانا بين اليسار الراديكالى والشيوعيين والاشتراكيين والبيئيين.
حصلت الجبهة الشعبية الجديدة - التى توحد الأحزاب اليسارية - على أكثر المقاعد بواقع 182 مقعدا، وحصل حزب الوسط الذى يتزعمه الرئيس إيمانويل ماكرون على 163 مقعدا، وفى المركز الثالث والأخير حصل حزب الاتحاد الوطنى اليمينى المتطرف وحلفاؤه على 143 مقعدا، وهو الحزب الذى أثار مخاوف وما زال معبرا عن تحولات وتصاعد اليمين، مقابل تراجع النخب التقليدية للسياسة، انعكاسا لتمرد جماهيرى على التيارات التقليدية التى نشأت ما بعد الحرب العالمية الثانية وسادت طوال مرحلة الحرب الباردة.
ورغم فوز حزب العمال فى بريطانيا وإطاحة المحافظين، فإن بريطانيا التى غادرت الاتحاد الأوروبى فى بريكست، فتحت المجال لتيارات أوروبية، إما تطالب بمغادرة الاتحاد الأوربى، أو تريد تعديل شروط الاتحاد والقواعد التى قام عليها، وظهر اليمين الأوروبى رافضا للهجرة وقواعد التنقل والعمل، خاصة فى الدول التى ترى نفسها أكثر تميزا أو ثراءً وتقدما، فالغرب الأوروبى السابق ما زال يرفض الاختلاط مع الشرق السابق، وهذا الشرق أيضا يحمل هواجس ومخاوف.
هذا الاستقطاب ظهر فى المواقف من الحرب الروسية الأوكرانية، وبقيت المجر مثلا ترفض السير خلف الولايات المتحدة فى معاداة روسيا، وكثيرا ما عارض فيكتور أوربان - الذى تولت بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبى - ما يسميها «نخب بروكسل»، واتهم الاتحاد الأوروبى مؤخرا بتأجيج الحرب فى أوكرانيا، وتعهدت المجر باستغلال رئاستها للاتحاد الأوروبى للدفع باتجاه «رؤيتها لأوروبا» تحت شعار «لنجعل أوروبا عظيمة مرة أخرى»، مرددة الشعار الذى أطلقه حليف أوربان الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب فى الولايات المتحدة، ترامب الذى يرى نفسه أقرب للفوز بالرئاسة، بعد تنحى جو بايدن عن الترشح، واستمراره لنهاية مدته الرئاسية، ولا تزال نائبته كاميلا هاريس من دون حسم ديمقراطى لترشيحها، هى أو غيرها من المرشحين فى مواجهة ترامب الذى مثل تحولا وتغييرا فى مواجهة المؤسسة، وتم اتهام الروس بمساندته، والتدخل فى الانتخابات، بينما ترامب اتهم الديمقراطيين بالتزوير ضده، ويحمل خصومات مع كثير من الإعلام الأمريكى، متهما إياه بالتضليل، بل وحتى مواقع التواصل أطاحت بحسابات ترامب بعد خسارته فى الانتخابات.
الشاهد أن التحولات التى يشهدها العالم خلال عقدين، تكاد تسير على العكس من وعود العولمة، التى تصاعدت فى تسعينيات القرن العشرين، ووعدت برخاء وتوزيع عادل للتنمية فى حال انضم العالم الثالث إلى الأول والثانى، لكن وحدة أوروبا نفسها أصبحت محل شك، والعالم يتجه إلى القطرية والعرقية مع صعود اليمين، ورغبات فى مغادرة الاتحاد الأوروبى الذى ظل حلما، وأصبح هاجسا، بعد سنوات شهد العالم وما زال المزيد من التحولات نحو فردية وصراع واحتكارات وأنانية اقتصادية عكستها فترة كورونا، ولا تزال تتصاعد لتهدم وعود العولمة.