اثنتان وسبعون سنة مرَّت على الحدث، وما زال قادرًا على إثارة الجدل وتفجير التساؤلات. تلك طبيعةُ الأحداث الحَيّة والارتحالات المفصليَّة فى الزمن؛ أنها تُمثِّل قطيعةً كُبرى عمَّا قبلها، وتأسيسًا مُغايرًا لسياقاتٍ غير ما أبلاه التكرار، وينقسمُ الناسُ فيها وعليها بين مُؤيِّدٍ ومُعارض. لو كانت 23 يوليو 1952 مشهدًا عاديًّا؛ لانْقَضَت حكايتُه وطمرتها التحوُّلاتُ اللاحقة. لكنها تتجاوزُ الصيرورةَ التقليدية للزمن فى شأن انبعاث الفواعل السياسيَّة وانطفائها؛ بأثر ما أحدثته فى وقتها، وما يمتدُّ منها إلى الراهن المَعيش، كما بقَدر ما رمَّمتْه من فجوات التاريخ وفتحته فى جدار الحاضر والمستقبل. والذين أطلقوا شرارتَها ما انطلقوا إلَّا من حلمٍ وطنىٍّ خالص، فيه الكثير من تعقيدات الواقع الردىء قبله، وأكثر منه على جناح الأمانى التى بدت عَصيّةً بكلِّ الحسابات العقلية والمنطقية. شبابٌ فى أوَّل العُمر تكفَّلوا بإصلاح ما جناه الشيوخ؛ فإذ هُم يُصيبون حينًا ويرتبكون أحيانًا، كعادة الأمور العظيمة حالَ استيلادها على غير هوى الدراما الثقيلة وتصاريفها المُعقَّدة. كانت الخطوةُ فى جوهرها إزاحةً عميقة فى نطاق الوعى، واستقراءَ فريقٍ ناهض من الأُمَّة المصرية لفكرة الهُويَّة، وطبقاتها العميقة والمُستجَدَّة، وسعيًا للخروج من من حالةٍ استنفدت إمكانات بقائها، إلى براحٍ ربما لم تتوافر خرائطُه الكاملة حينَها. إنه التمرُّد المكبوت فى صدور المصريين، وقد عجزت النُّخبةُ المُؤدلَجة عن تحصيله، وبدا الشارع تائهًا بين رغبته فيه وانقطاعه عن أدواته؛ فكان أنْ تصدَّى الضباط خُضر الأعواد للمسألة؛ بحُكم المقدرة الظرفيّة وواجب الضرورة القاهرة.
لم تكُن الثورةُ فِعلاً غائبًا عن أجندة المصريين فى تاريخهم الطويل. انتفض الصعايدة فى زمن الأُمويِّين وقُمِعوا، وثار البشموريِّون فى شمال الدلتا، وتكرَّرت الهَبَّة ضد الفاطميين، واشتعلت القاهرة مرَّتين ضد الحملة الفرنسية. غضبةُ عرابى التى لُوِّثَت بصفة «الهوجة» كانت عملاً ثوريًّا ولو بمطالب فئويّة، احتضنَه الوعىُ الجمعىُّ، ووثَّق التآمُرَ عليه بمقولته الخالدة «الوِلْس كَسَر عرابى». أمَّا الاستفاقةُ العارمة فى مارس 1919 فكانت تلخيصًا لكلِّ ما فاتها، وسعيًا لتعويض قرونٍ من سحق الأُمَّة المصرية تحت سنابك الآتين برًّا وبحرًا من الشرق والشمال. ما كانت الأزمةُ فى الناس؛ إنما فى الظروف الكاسرة، والعواصف التى طالما عارضت إرادتَهم وانتصرت عليها. ما جعلَ الانقلابَ الثورىَّ أو الإصلاحى على الدولة المُستَلَبَة من خارجها غايةً عزيزة، تكاد أن تكون مُستحيلةً تمامًا، ولعلَّ هذا ما دفع سعد زغلول والوفديين إلى صَرف الاحتجاج لجهة السياسة، والسعى لتحسين شروط التجربة من داخلها، قبل أن تقضى العقودُ الثلاثة التالية، بكلِّ ما فيها من تفاصيل وخروقات، بأنَّ ما تعذَّر إنجازه من الشارع، لا يقلُّ استعصاءً على الإنجاز من مقاعد السلطة المُكبَّلة بقيود الاحتلال ونزوات القصر.
لم تكن حركةُ الجيش نتوءًا على خط الزمن النفسى للمصريين، وإن كسرت مسار المواقيت الاعتيادية؛ بل كانت التطوُّرَ لكلِّ ما سبقها من فعاليات الغضب والاحتجاج. والحال أنَّ التركيبةَ التى اعتمدها الأُسرةُ العَلَويَّة نفضت الغُبارَ عن المجتمع فى جانب، وأثقلته بالأعباء والمُثبِّطات فى جوانب أخرى. لقد أسَّس محمد على مشروعَه على قاعدةٍ وظيفيّة مُحدَّدة، عمادُها الطموح فى إعادة إنتاج نُسخةٍ مُحدَّثة من الدولة العثمانية، لها صِفة الإمبراطورية العائلية وديناميكية المَلَكيَّات الأُوروبية الخارجة من ظلام العصور الوسطى، وميدان الصراع بين عروش الحُكَّام وصولجانات الكنائس. هكذا يُمكن أن نرُدَّ له الفضلَ فى جلاء الهُويّة المصرية، وأنه رسَّم معالم حضورها فى بيئتها الفسيحة تحت ظلٍّ جامع؛ لكنه ما حفّز فيها الشعورَ الوطنىَّ إلَّا بقدر ما يحتاجه منها لإحراز الغايات الشخصية. وعلى هذا المعنى؛ كان التعليمُ أداةً لقَولبة الفائض البشرى بنزرٍ يسير، وهَندَسته فى مصفوفةٍ بيروقراطيّة يحتاجها المعمارُ الجديد، وكان الجيشُ محورَ الارتكاز وعمودَ الخيمة، حتى مع تواضع حُضور المصريِّين فى مستوياته القيادية، وإبقائهم بعيدًا من الإمساك بمفاتيح الخبرة والقرار. نَشَطَت البعثاتُ العِلميّة على قدر الاحتياج، ولمهامّ تقنيّة مُخطَّطة بالتزامٍ صارم، وما تمرَّد البيروقراطيون أو سعوا لتَوسعة الحظيرة وتحسين شروط الإقامة. الجُنديّة وحدها كانت تسمحُ بترقية المآخذ حتى تصير اعتراضات؛ ربما لأنهم فى امتحانٍ وُجودىٍّ مع الموت، وليسوا على حال الرخاوة والسكون التى عاشتها طبقةُ المدنيِّين الجُدد. عرابى كان إفرازًا لديناميكيّاتٍ عسكرية سابقة عليه، وضبَّاط يوليو كانوا امتدادًا لهذا الإفراز.
جَرَت الثقافةُ فى شرايين المجتمع؛ لكنَّ الفاعليَّة ظلَّت غائبةً عنه. وما حدث بأثر ثورة 1919 أقربُ إلى الاحتواء من التدرُّج الصاعد؛ لأنه ما أثمر بعدها أفضلَ ممَّا كان فى زمنها الأوَّل. كُتِبَ دستورٌ جيد ثمَّ انقلَب عليه الملك، وحاز الوفدُ الأغلبيَّةَ طوالَ الوقت تقريبًا لكنّه ما حكم سوى أقلِّ من تسع سنوات، وأبرم النحَّاسُ اتفاقيّة 1936 قبل أن يُضطرّ هو نفسه لنَقضها. والمرَّة الوحيدة التى رضخ فيها التاجُ لمُمثِّل الشارع دون احتيالٍ أو مُناكفةٍ كانت على إيقاع تدفُّق المُجنزرات وهدير الدبَّابات فى مُحيط قصر عابدين. ربما انتهت صلاحيةُ العلويِّين فِعليًّا بعودة سعد زغلول ورفاقه من المنفى؛ لكنَّ القصر نجح مع الإنجليز فى شراء الوقت لاحقًا. وبانتهاء الحرب العالمية الثانية بدا أنَّ «فاروق» أهال التراب على تجربة العائلة، واستنزف كاملَ الرصيد وفُرصَ البقاء؛ إذ لم يجد حلولاً وقتها إلَّا أن يستبدلَ احتلالاً باحتلال، وأن يغيظَ لندن باسترضاء برلين. انحبسَ البُخارُ طويلاً فى إناء الضغط الضيِّق، وكانت كلُّ الشواهد تُبشِّر بانفجارٍ عظيم، أو بانفجاراتٍ مُتسلسلةً يُسلِّم أحدُها للآخر. حادث الإسماعيلية كان واحدًا، وحريق القاهرة بعده، والمنحنى الهابط كان مُتّجهًا بالضرورة لما هو أسوأ.
كانت مصرُ طرفًا فى الحرب الكونية بشكلٍ أو بآخر، وبينما اجتمع الرابحون والخاسرون لتصفية المسألة وتوزيع التركة، لم نكن معهم. بالمعنى المادى، أو ما يخصُّ حضور الملف المصرى والإقليم بكامله على طاولة العالم الجديد. دفعنا الثمنَ فى تقسيم فلسطين، ثمَّ فى حرب النكبة وخسائرها الثقيلة، وكان ضروريًّا أن نستدركَ على ما فات، وأن نُعيدَ القسمةَ بمنطقٍ جديد. هكذا يبدو تحرُّك الضبَّاط فى يوليو أقربَ إلى دخولٍ خشن على النظام الدولى الناشئ، وبأثرٍ رجعى، ومن أجل الانخراط فى مسيرة ترسيم الكُرة الأرضيَّة بمُحدِّداتٍ غير ما تسيّدتها قرونًا، ولم يعُد صالحًا أن يدخُلَ الآخرون فى القرن العشرين بالحديد والنار، ونظلّ فى عصورنا الوسطى كفاصلةٍ فى جُملةٍ لا تخصّنا. صحيح أنّ أيًّا من هذا ربما لم يدُر فى أذهان الثوَّار صغيرى الأعمار والرُّتَب العسكرية؛ إنما ما ساروا باتجاهه، أو دفعتهم الظروف إليه لاحقًا، قدَّم المُقاربةَ العملية لتلك المسألة من زوايا التحرُّر، واستنهاض الهِمَم، وبناء مشروعٍ وطنىٍّ يُشبه عصرَه، وإسناد المظلومين فى الإقليم وخارجه، وصولاً إلى تدشين جبهةٍ واسعة من أصحاب المظالم وخفيضى الأصوات.
لعبت «يوليو» دورًا حيويًّا فى انتشال مصر من وهدتها؛ لكنها تُظلَمُ إنْ حُصِرَت فى المسافة من السودان للمُتوسِّط، ومن الضلع الليبى إلى خطِّ النار فى فلسطين المُحتلَّة. كان العالمُ النائمُ يستيقظ فى آسيا وأمريكا اللاتينية، بينما يحتاجُ الأفارقة والعربُ إلى مُؤذِّن عَفىٍّ يقفُ على ناصية الجغرافيا؛ ليُوقظ ما ضاع منهم فى أضابير التاريخ. كَسَرتْ القاهرةُ أغلالَها ثمَّ عَاوَنَت مُحيطَها، من المغرب العربى إلى شبه الجزيرة وأعماق أفريقيا والحديقة الخلفيَّة للولايات المتحدة. دفعت أثمانًا باهظة، ولم يخلُ وفاضُها من مكاسب، وحتى ما يُحسَبُ عليها من إخفاقاتٍ كان مُثمرًا فى جَردة الحساب الأخيرة. لقد ذهبت إلى اليمن لكَبح الرجعيَّة الإماميَّة المدعومة من رجعيَّاتٍ إقليميّة رديفة للاستعمار، وعلى ثِقَل ما تكبَّدته؛ فما غادرت جبال صعدة وعدن وصنعاء إلّا وكانت قد مكَّنت النظامَ الجمهورى، وأخرجت الإنجليز، وقوَّضت ذيولهم فى المنطقة، وفرَضَت هيمنتَها على باب المندب؛ ليصير البحرُ الأحمر بحيرةً مصريّة مُغلقة كالبردويل وقارون وغيرهما. تمرَّدت على لُعبة الفرز النفعىِّ وسطوة التحالفات الإجبارية، وقاومت بتجربة «عدم الانحياز» ما هبَّ على الدنيا من عواصف الناتو ثمَّ وارسو وحلف بغداد.
أخفقت فى قليلٍ أو كثير؛ لكنها الإخفاقات التى سدَّدنا أضعافَها فى زمن العلويِّين والاحتلال، وفى كلِّ مناخٍ استتباعىٍّ سابقٍ، فرضته علينا ظروفٌ طارئة وإراداتٌ عابرة للحدود. ما كانت المسألةُ إلَّا حلمًا بريئًا، يعرفُ الذين تكحَّلت عيونُهم به أنه قاسٍ وخطير وغير وردىٍّ، وأنَّ ما فى يدِهم من إمكاناته أقلّ ممَّا فى أيدى الخصوم، بينما الكوابيسُ التى عشناها طويلاً تفرضُ المُحاولة على الأقل. إنّه الخروج من المُستنقَع؛ ولا يصحُّ فيه اللوم أنه لم يكُن إلى الجنة وبساتينها الفسيحة مُباشرةً.. لقد منحَ «الضبّاط الأحرار» برنامجَهم صِفة «الحركة المُباركة»، وما ادَّعوا أنه أجندةٌ مُعدَّة سَلفًا للتغيير الشامل على مُرتكزاتٍ بنيويّة مُعيَّنة. عنوانُ الثورة منحَه لهم طه حسين بالتنظير، واعتمده الشارع عمليًّا بالاحتضان والمُؤازرة. والفكرة هنا تتجاوزُ الضبطَ الاصطلاحىَّ، إلى ما يتصوَّره الفاعلون فى المشهد عن المسار، وما رآه الناس فيه. مهما كان الحدثُ مُفاجئًا وصادمًا وجليلاً؛ فإنه لن يلقى قبولاً عريضًا ومُستمرًّا من الحاضنة الشعبية دون تشارُكٍ حقيقىٍّ فى مُنطلقاته وأهدافه المُعلَنة. والجماهيريّة الحاشدة التى رافقت عبد الناصر من بروزه إلى مقبرته لم تكن وهمًا ولا تخييلاً، كما لا يصحُّ الاستسهال فى تفسيرها بالبروباجندا والدعايات المُوجَّهة. هذا من عوار الفهم وخِفَّة التعالى النُّخبَوى البائس.
لم تكُن التجربةُ الليبرالية التى يتغنَّى بها أراملُ المَلَكيَّة مثاليّةً بأية صورة؛ بل لم تكُن اعتلالاتُها عند حدودٍ مقبولة للتعايش الطويل، ناهيك عن الضبط والتحسين. كان الفقرُ عميقًا ومُستشريًا، وقوانين الانتخابات مُقوَّضة بشروطٍ لا تُفسح الطريق لغير البرجوازيّة ومُلحقاتها. أمَّا فى الممارسة فلم يخلُ المجال من استغلالٍ للجهل، وتوظيف الرِّشَى والألاعيب لتغييب إرادة الناس أو حَرفها عن المسار القويم. الضرورةُ أنتجت يوليو، وحمَّلتها بكلِّ الأمراض القديمة أيضًا، مع ما أفرزته من عِلَلٍ جديدة أحدثَها تقليبُ التُّربة، ومُفارقة الراسخ والمُستقرّ. كان البقاءُ فى اللعبة بشروطها العتيقة نسخةً رديئة لانتحار الأُمَم بالتكلُّس والجُمود، وباعتياد القُبح المُهَندَس بعنايةٍ؛ لمُجرَّد أنه يتلبَّس قناعًا أرستقراطيًّا جميلاً، ويحترفُ إعادة تكييف الوعود مع الحوادث كلَّما مضى القطار ولم تأتِ المحطَّات المُبَشَّر بها. الثوَّار هُنا، مدنيِّين كانوا أم عسكريِّين، إنما لعبوا فى خطِّ الزمن، وأدخلوا على السيناريو ما لم يكُن فيه أصلاً، ولا كانت تقودُ إليه خطوطُ الدراما المُمتدَّة بين قصر الملك وقُصور الحاشية. والحقيقة أنَّ النُّخبةَ المدنية كلَّها تقريبًا؛ وبكلِّ محمولها الوطنى واستيعابها لوجيعة العوام ونكباتهم؛ قد صاروا مع مزايا الاقتراب من العَرش بين زُمرته الرديفة وأدواته المُخلصة، بأكثر مما يُخلصون للشارع أو يخوضون معاركَه بسَويَّةٍ وتجرُّدٍ كاملين.
خاضت الثورةُ الوليدةُ صراعًا مريرًا مع تيَّاراتٍ عِدّة. إنها بالمعنى الحركىِّ كانت قفزةً تقدُّميّة؛ بعيدًا من الدلالة الأيديولوجية لنكهة اليسار التى غلَّفَت خطابَها لاحقًا، وتصاعدت طوال عقد الستينيَّات. هكذا تواطأت عليها الرجعيَّاتُ كلُّها وإن دون اتّفاق: عبيد القصر لن يرتاحوا بالضرورة لأىِّ سياقٍ يتجاوزهم، والإقطاعيِّون فُوجئوا بتعاقُداتٍ جديدة تخلو من شروط الاستعباد وعلاقات العمل المُختلَّة، والأُصوليّة الإخوانيّة التى لعبت مع الملك والاحتلال بالتساوى، ساءها أن تتبخَّر أحلامُ التمكين وانتزاع السلطة من بوَّابة الجيش. إنهم جميعًا الأقليّةُ الأعلى صوتًا، بينما الأغلبيَّةُ الصامتة استحسَنَت بصمتٍ أوَّلاً، ثمَّ عندما نطقت زعمَ الآخرون أنَّ الضبَّاط أنطقوها بما لا تُريد.. كان المُتسلّطون القُدامى يُهدرون حضورَ الكُتلة الغالبة من الجمهور بإزاحتهم عن المشهد بقيودٍ ناعمة، وترتيباتٍ مُنسَّقة بعناية بين طبقات من المُنتفعين، وعندما تيسَّرت لهم إطلالةٌ من البرواز العام؛ سَعَى الأوصياءُ لإسدال غلالةٍ استعلائيَّة عليهم. الخَلَلُ ناشئٌ هُنا عن قياسٍ خاطئ؛ إذ اتُّخِذَت أدبيَّاتُ التنظيم السياسى الغربىِّ مرجعيَّةً لتقييم الحدث ووضعيَّة الجيش فيه؛ بينما بُنِيَت الدولةُ الحديثةُ أصلاً على أكتاف العسكرية التى أرساها محمد على، ولم تتوافر القاعدةُ المدنيَّة القادرة على قيادة مشروعٍ تحرُّرىٍّ وتأصيلىٍّ للدولة فى ضوء الهُويَّة والمرجعيات الوطنية. ما كان لدينا روسو وفولتير ومونتسكيو؛ ليتعشَّم الرومانسيِّون فى ظِلٍّ من الثورة الفرنسية؛ ناهيك عن أنَّ اكتمال مشروع الأخيرة أُنجِزَ فِعليًّا بصعود بونابرت، أى أنَّ الرصيدَ المعرفىَّ العميق لم يكُن كافيًا دون ظهيرٍ مادىٍّ صُلب.
يوليو، وعلى أىِّ صِفةٍ أراد لها المُحبِّون والكارهون، أنجزت كثيرًا فى السياسة والاقتصاد والعدالة الاجتماعية. فجَّرت طاقات البلد، وصوَّبت بعض مساراته، وأعادت ضَبط الصورة بعدما كان المتنُ للأقليَّة، وحُبِسَت الأغلبيَّةُ فى الهامش البعيد. ربما تُؤخَذُ عليها أشياء فى تفتيت المِلْكِيَّة الزراعية، أو التوسُّع الكَمّىِّ فى التعليم على حساب الكَيْف، وغيرهما ممَّا يُساق ويقبلُ النقاش. وقد يزيدُ المُناوئون بتحميلها فواتير الهزائم اللاحقة؛ رغم حقيقة أنها نشأت فى الغالب عن استهدافاتٍ خارجيّة مقصودة، ما كان سيمنعُها غيابُ ناصر أو بقاء فاروق. بعيدًا من كلِّ ذلك؛ كان إنجازها الأكبر أنها أخرجت مصر من تحت الرماد القديم، وخلقَتْها على الوجه الذى كان يجبُ أن تكونَه. إنها الضرورةُ التى ما كان يصحُّ التقاعسُ عنها، وقد أكمَلَت فُروضَها الأُولى بانضباطٍ ظاهرٍ ووتيرةٍ مُتسارعة، ثمَّ تعثَّرت فيما تلاها، ويجوز الخلاف فى حدود العثرة ومُستواها. والحقّ أنَّ أخطاءَ التجربة لا تنفى أهمّيَّتَها ووجوبَها، بالضبط كاحتمال أن يتأخَّر الشفاءُ مع العلاج؛ دون أن يكون ذلك مُبرِّرًا للانصراف عن التداوى.. الذكرى اليوم رياضة عقليّة فيما بين التاريخ والجغرافيا؛ وليست للجدل الفارغ أو البكاء على الأطلال. المُناسبةُ فى عَودِها السنوىِّ الدائم تذكيرٌ بلمحاتٍ مُهمّة فى زمنها، واستلهامٌ لمُقتضيات التصدّى للمسؤولية بحَقِّها، واحتمال ما يترتَّب عليها دون تفلسفٌ رخيص أو مُحاكماتٍ للماضى بوعى الحاضر. البقاءُ فى حيِّز التنظير يُراكِمُ الكلام ولا يُحرِّكُ الأقدام؛ والحال أنَّ «يوليو» تحرّكت كثيرًا فى الزمان والمكان، وما زال خصومُها يبكون على أطلالٍ دَارِسة، كأنهم ما غادروا قبوَ الملك، ولا لوّحوا وداعًا لدبَّابات الاحتلال.