"أنا مستعد دائما للمجازفة بأن أكون مملاً حتى أتيقن أن أفكاري واضحة"، آدم سميث، 1723 - 1790 عالم الاقتصاد الإنجليزي الشهير، فلا مانع من أن تكرر أفكارك وعباراتك وتعيد ترتيب الأوراق مرة أخرى، من أجل الاطمئنان لفهم الجميع، وخلق حالة من الوعي العام، والتواصل الفعال، تضمن أننا نتحرك للأمام بطريقة أفضل، وبصورة منظمة، وجميعنا على مستوى متقارب من الفهم والإدراك.
الاقتصاد الحقيقي القوي لأي دولة في العالم يبدأ من نقطة أساسية، وهى الفرق بين ما تنتجه هذه الدولة وما تحتاج إليه، فكلما كانت كفة الميزان ناحية الإنتاج أرجح، كان ذلك مؤشرا على حيوية الاقتصاد، وكلما كانت إلى الاستهلاك والاستيراد من الخارج أرجح، كلما كان الاقتصاد يعاني فجوات بين الحين والآخر، وتقلبات صعوداً وهبوطاً، تحكمها فلسفة الإدارة، ومستوى ما لديها من رؤية نحو سد هذه الفجوات، سواء بحلول مؤقتة، أو خطط طويلة الأجل.
الوضع في مصر ومنذ سنوات بعيدة يشير إلى أننا دائماً نحتاج إلى الآخر بصورة أكبر من احتياجه إلينا، وهذا يعود إلى سبب بسيط وهو أن صادرات مصر إلى العالم أقل بكثير من وارداتها، كما تشير الأرقام المتاحة من الجهاز المركزي للتعبئة العامة للإحصاء، فالصادرات تصل إلى حوالي 53 مليار دولار سنوياً، بينما الواردات حوالي 83.2 مليار دولار، أي أن هناك فجوة بين الرقمين حوالي 37% لصالح الواردات من الخارج، وهذا بالضرورة يتطلب موارد من النقد الأجنبي لآبد للحكومة أن توفرها، خاصة أن جزء من هذه الواردات "ضرورية" مثل السلع الغذائية، والمنتجات البترولية، والأدوية و المستحضرات الطبية.
نعم تحتل المنتجات البترولية المرتبة الأولى من واردات مصر الخارجية، وتشكل رقماً ضخما 7.4 مليار دولار سنوياً، يليها المواد الأولية الخاصة بصناعة الحديد والصلب بقيمة 4.2 مليار دولار، ثم القمح أهم محصول استراتيجي يدخل في غذاء المصريين بقيمة 3.8 مليار دولار، والذرة والأعلاف بقيمة 2.5 مليار دولار، ثم الأدوية بقيمة 3.6 مليار دولار، وأرقام عديدة، لكن ما ذكرته تفصيلا يقع في قائمة الأولويات الضرورية التي لا يمكن الاستغناء عنها.
سبب الفجوات بين الصادرات والواردات ليس بالضرورة نتيجة تراجع التخطيط أو تكاسل الحكومة أو طبيعة الأجندة التي تحدد أولوياتها خلال هذه المرحلة أو تلك، لكن تحكمها العديد من الأمور والعوامل المؤثرة، مثل ندرة الموارد، كما هو الحال في البترول أو الحديد أو الخامات والعناصر المخبوءة في باطن الأرض، وقد تظهر في دول معينة بكميات وفيرة، وتختفي من غيرها.
هناك أيضا عامل حاسم يزيد الفجوة بين الصادرات والواردات، يأتي نتيجة زيادرة الاستهلاك ارتباطا بزيادة عدد السكان وثبات أو تراجع الرقعة الزراعية، ثم يأتي بعد ذلك العامل الأهم المرتبط بضعف الإنتاج الصناعي، وعدم القدرة على الابتكار وخلق منتجات لها جودة معتبرة قادرة على المنافسة في الأسواق المفتوحة، وعدم وجود صناعات رئيسية تصبح عنوانا لتفوق صناعي أو تجاري معتبر، ليظل الموضوع قاصراً على صناعات تقدم أرقاماً مشتتة، ونسباً ضعيفة لا تليق باقتصاد يسعى لمضاعفة أرقام صادراته.
القراءة البسيطة للصادرات المصرية إلى الخارج تشير إلى أنها تتركز في الغاز المسال، والأسمدة، والملابس الجاهزة، والمنتجات الزراعية، والمواد الخام مثل الأسمنت والجبس والزجاج والمواد البلاستيكية، لذلك لا توجد صناعة أو زراعة أو منتج معين تتحكم مصر في تصديره، كما هو الحال في القمح الروسي، أو الأرز الصيني، أو الزيت الأوكراني، بل أغلبها مواد خام، يعاد تصنيعها بعد التصدير، ثم نستوردها في صورة منتجات، نتيجة غياب دورة التصنيع الكامل بعدد من القطاعات الإنتاجية.
أظن أن الحلول تبدأ من السطور التي كتبها آدم سميث، قبل نحو ثلاثة قرون، في مؤلفه الرائع "ثروة الأمم"، عندما قال: "نحن لا ننتظر غذاءنا أو عشاءنا من طيب خاطر الجزار أو الخباز، لكن من اهتمامهم بمصالحهم الخاصة"، نعم في عالم الاقتصاد الكل لا يعرف إلا مصلحته الخاصة، وكذلك الدول يجب أن تركز جهودها وتغلب المصلحة دائماً، حتى نصل جميعا إلى نقاط اتفاق وحدود واضحة، لذلك يجب أن تركز الدولة على التوسع في صناعات بعينها، وتقدم الدعم الكامل لها، وهنا أستحضر نموذج بنجلاديش، بعيداً عن أزمتها السياسية الأخيرة والاحتجاجات الطلابية التي تشهدها هذه الأيام، فقد وصلت صادراتها من قطاع الملابس الجاهزة لنحو 34 مليار دولار سنوياً، وصارت ثاني أكبر مصدر للملابس الجاهزة في العالم بعد الصين، التي تتربع على قمة صادرات الملابس في العالم برقم إجمالي يزيد عن 176 مليار دولار، وفقا لأرقام منظمة التجارة العالمية في عام 2021، لكن النموذج البنجالي الأقرب إلى مصر، باعتبارها دولة نامية تتلمس طريقها نحو حياة أفضل لمواطنيها، وتعاني مشكلة سكانية، فقد تجاوز العدد 174 مليون نسمة.
ما المانع أن تدخل مصر حلبة المنافسة في مجال الملابس الجاهزة، وتزيد صادرات هذا القطاع إلى رقم معتبر من إجمالي الصادرات المصرية، خاصة أن العمالة متوسطة ومنخفضة التكاليف موجودة، وكذلك القطن والغزل والمنسوجات وما يرتبط بهذه الصناعة موجود، وهناك خبرات مهمة ومتراكمة في هذا المجال، فبدلا من 2.1 مليار دولار صادرات سنوية لمصر من الملابس الجاهزة، يمكن أن نخطط ليصبح هذا الرقم 20 مليار دولار، وبذلك نتحول لرقم مؤثر في هذه الصناعة حول العالم، فالتخطيط المستقبلي يجب أن يمتد للصناعات كثيفة العمالة، التي توفر العملة الصعبة، وتخلق ملايين فرص العمل.
تعتبر مصر ضمن أكثر دول العالم إنتاجاً للأسمدة الفوسفاتية، وتحتل المرتبة الثامنة تقريبا، بحجم إنتاج يصل إلى 4.8 مليون طن متري، بينما الصين في المرتبة الأولى بـ 90 مليون طن، وتصل صادراتنا من الأسمدة نحو 2.7 مليار دولار سنوياً، بينما لو قدمنا الدعم لهذه الصناعة وتوسعنا فيها، وفتحنا المجال لها، فقد نصل إلى حجم صادرات يزيد عن 10 مليارات دولار سنويا، فلو تم إيلاء هذه الصناعة إلى جانب الملابس الجاهزة الأهمية المطلوبة، والتحرك فيها للوصول إلى الأرقام التصديرية المذكورة، فقد نصل إلى معادلة تندمل فيها جراح الاقتصاد.
أتصور أن الفرصة الحقيقية أمام الاقتصاد المصري تكمن في التوسع بالصناعات التي يمكن تطويرها كمياً، والاتجاه نحو تصنيع المواد الخام، بدلا من استيرادها مرة أخرى بأضعاف سعرها، وتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار فيها.