يبدو التوقيع على إعلان بكين من قبل الفصائل الفلسطينية، خطوة جيدة وهامة على طريق المصالحة، وذلك شريطة إدراك كافة الأطراف لمحورية التعاطي بإيجابية، مع خيار إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة، خاصة مع المكاسب الكبيرة التي تحققت خلال الأشهر الماضية، من رحم العدوان على غزة، بدءً من التوافقات الدولية الكبيرة التي تحققت في القاهرة، حول ثوابت القضية الفلسطينية مرورا باستقطاب العديد من القوى الإقليمية، لدعم القضية، على غرار جنوب أفريقيا والتي اتخذت موقفا داعما عبر اللجوء إلى القضاء الدولي، بالإضافة إلى حكم محكمة العدل الدولية بعدم شرعية الاحتلال، وحتى سلسلة الاعترافات المتتالية بالدولة الفلسطينية، والتي أضفت حالة من الزخم غير المسبوق لحقوق الفلسطينيين، خاصة وأنها جاءت من دول محسوبة على المعسكر الموالي لإسرائيل.
وبالنظر إلى المكاسب التي تحققت، نجد أنها ارتبطت في معظمها بعنصرين رئيسيين من عناصر قيام الدولة، وهما الشعب، والذي كان أحد أهم المستهدفين خلال العدوان على غزة، عبر الدعوات المشبوهة التي أطلقها الاحتلال لتهجير سكان غزة، بينما يبقى العنصر الآخر متمثلا في الأرض، والتي سعت إسرائيل إلى تفتيتها، عبر دعوات أخرى بفصل القطاع عن الضفة، وهي الدعوات التي دحضتها مصر، وحشدت العالم من ورائها لرفضها، باعتبارها جزء لا يتجزأ من ثوابت القضية الفلسطينية، وأي إخلال بها يمثل انتهاكا صريحا للشرعية الدولية، والقائمة في الأساس على حل الدولتين وتأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
إلا أن العنصر الثالث، والمرتبط بقيام الدولة، يدور حول السلطة الحاكمة، وهو العنصر الذي ينبغي أن يكون فيه أصحاب القضية هم حائط الصد الأول في الدفاع عنه، حيث يبقى الانقسام وحالة الصراع على السلطة في اللحظة الراهنة، بمثابة التحدي الأكبر الذي يواجه حلم بناء الدولة المستقلة، وبالتالي تقويض كل المكاسب المذكورة، التي ارتبطت بالعنصرين الأولين، وهو ما يعكس ضرورة جدية العمل الفلسطيني، على تحقيق الوحدة، في المستقبل القريب، والتي قد تشهد العديد من مراحل التفاوض، لا تقتصر على مجرد الوضع في غزة، وإنما سوف تمتد إلى مفاوضات الحل النهائي، في ضوء الرغبة الملحة في إنهاء القضية التي طال أمدها بصورة كبيرة.
وهنا تبدو أهمية إعلان بكين، والذي يمثل في جوهره نقلة مهمة، حال إنجاحه من قبل الفلسطينيين أنفسهم، على العديد من المسارات، ربما ابرزها فيما يتعلق بمستقبل القضية، على النحو سالف الذكر، بينما يرتبط في مسار آخر، في خروج القضية عن إطار الهيمنة المحدودة، والتي استمرت لسنوات طويلة تحت رعاية أمريكية أحادية، ربما فرضتها طبيعة النظام الدولي، وغياب قوى بديلة، يمكنها تحقيق قدر من التوازن، خلال المراحل المختلفة من المفاوضات، في ضوء الانحياز الصارخ لواشنطن لطرف بعينه على حساب الطرف الآخر، وهو ما يبدو في دخول الصين على خط الأزمة، من بوابة الإعلان الذي يهدف في الأساس إلى تعزيز الجبهة الفلسطينية الداخلية، من أجل تأهيلها للدخول في مراحل صعبة من المفاوضات في المستقبل بشأن قضيتهم الرئيسية.
والحديث عن دخول بكين على خط المصالحة الفلسطينية، يدفع نحو الالتفات إلى حقيقة هامة، وهي أن ثمة تغيير كبير في طبيعة الدور الذي يمكن أن تؤديه القوى الدولية في القضية المركزية في منطقة الشرق الأوسط، لا يقتصر فقط على الببعد المرتبط بتعددية الأدوار، على خلفية صعود قوى مؤثرة يمكنها القيام بدور في القضايا الدولية الكبرى، وإنما أيضا بأهمية الدور الذي تلعبه القوى الإقليمية الرئيسية في القضايا المرتبطة بمناطقها الجغرافية، وهو ما يبدو في توقيت دخول الصين على خط أزمة الانقسام الفلسطيني، حيث جاءت بعد جولات عدة من المفاوضات، التي ساهمت في الوصول إلى أرضيات مشتركة يمكن الانطلاق منها نحو توحيد الصف الفلسطيني.
ربما كانت أبرز الجولات التفاوضية، من وجهة نظري، تلك التي عقدت في مدينة العلمين الجديدة، في العام الماضي، ربما بسبب توقيت انعقادها والذي استبق العدوان على غزة بأسابيع قليلة، حيث كانت بمثابة محاولة مصرية مهمة لتهيئة بيئة الحوار، أمام أطراف المعادلة الفلسطينية، من أجل الوصول إلى أكبر قدر من التوافقات التي من شأنها إنهاء الانقسام، وهو ما يعكس قراءة متأنية للمشهد الإقليمي من قبل الدولة المصرية، وإدراكا بضرورة تحقيق المصالحة، حتى يمكن للداخل الفلسطيني مجابهة التحديات التي سوف تواجهه، وهو ما بدا بعد ذلك، ليس فقط في العدوان الغاشم على غزة، وإنما أيضا في محاولات الاحتلال المستميتة لتصفية القضية الفلسطينية، عبر دعواته المشبوهة.
ولعل الجديد في دخول الصين على خط القضية الفلسطينية، يتجسد في كونه ليس نتيجة استدعاء مباشر من أحد أطراف الصراع، على غرار الدور الأمريكي، والذي كان الملاذ الوحيد لإسرائيل طيلة عقود من الزمن، وإنما كان بمثابة نتيجة لعملية بناء، أرستها القوى الإقليمية المؤثرة، وعلى رأسها مصر، بالإضافة إلى الحاجة الملحة إلى وجود قوى أخرى، تحمل موقفا معتدلا من شأنه تحقيق قدر من التوازن في ضوء انحياز الوسيط، ورغبته في إطالة أمد الصراع، في ضوء الرؤية الأمريكية القائمة في الأساس على ارتباط نفوذها في منطقة الشرق الأوسط باستمرار القضية الفلسطينية.
وهنا يمكننا القول بأن الدور الصيني خطوة إيجابية في إطار القضية برمتها، في ضوء الأهمية الكبيرة التي تحظى بها دوليا، ليس فقط كأحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، وإنما أيضا في ظل الصعود الكبير في دورها الدولي، وموقفها المعتدل تجاه القضية، ولكن تبقى الكرة في النهاية في ملعب الفصائل الفلسطينية، والتي تبقى أمام اختيار القضية أو مصالحها الضيقة.