حتى لا نصادر على المستقبل والحاضر، كل حدث أيا كان يخضع لمناقشات وجدل، خاصة إذا كان حدثا ضخما له تأثيراته المتعددة وباتجاهات مختلفة، وبمناسبة شهر يوليو، جرت العادة على أن هذا الشهر يكون مناسبة لأنواع من المناقشات، وهذا حتى قبل عصر التكنولوجيا والإنترنت ومواقع التواصل، والحقيقة أن مواقع التواصل كاشفة وليست منشئة لأنواع من المناقشات التى تدخل ضمن «النظرية الألتراسية» حيث ينحاز كل «ألتراس» لفريقه بصرف النظر عن العقل والمنطق، والواقع أن ثورة 23 يوليو واجهت على مدى أكثر من خمسين عاما، حملات تجاوزت فى كثير من الأحيان العقل والمنطق، سياسيا وإعلاميا، وهناك أرشيف يمكن الرجوع إليه، فى السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، وفى صحف وطنية معارضة أو مؤيدة، وصل الأمر لتوجيه اتهامات غير موثقة وادعاءات ثبت بالدليل أنها غير حقيقية، وبعض هذه الاتهامات صدرت من قبل كتاب ومعلقين كانوا يشكلون نماذج وعقليات وأساتذة لأجيال، بالرغم من أنهم لم يستندوا إلى العقل أو التوثيق أو المنطق، لعل أبرز هذه الحملات ما كتبه الأستاذ الراحل جلال الدين الحمامصى متهما عبدالناصر فى ذمته، وهى اتهامات كانت غريبة وأثبتت لجان التحقيق كذبها وتهافتها، وبدت حملة غريبة فى هدفها وموادها، وأقرب لحملة انتقام أكثر منها حملة موضوعية.
ولم يكن غياب المنطق عن هذه الاتهامات، ينفى وجود انتقادات وأخطاء لدى الثورة وجمال عبدالناصر، لكن الانتقادات كلها تتعلق بأخطاء الاختيارات أو تجاوزات وملفات الحريات والديمقراطية وغيرها، وهى أخطاء أدت لأزمات وكوارث أحيانا، لكنها تدخل فى سياقات واضحة، بينما ما يتعلق بذمة جمال عبدالناصر أو بياض صفحته فهو أمر واضح، وحتى ما حققه بعض أبنائه أو أقاربه بعد رحيل ناصر فقد تحقق فى عصر تال وبعد سنوات.
كانت أغرب حملة ضد 23 يوليو تركزت فى توجيه اتهامات للسد العالى، الذى كان أعظم إنجازات عبدالناصر السياسية والاقتصادية، والهندسية، فقد قامت حملة موسعة من قبل الإخوان، وأيضا من حزب الوفد فى الثمانينيات تشكك فى السد العالى وتنفى أنه مشروع عظيم، بل وتطالب بهدمه لأنه منع عنا السردين الأخضر، والمفارقة أن الرد جاء من السد العالى نفسه، فقد عاشت أفريقيا جفافا غير مسبوق خلال الفترة من الثمانينيات إلى التسعينيات، ووفر السد العالى لمصر مخزونا من المياه، والأغرب أن فيضانات ضخمة ضربت النيل فى نهاية التسعينيات وصمد السد العالى وحمى البلاد، وحتى الآن لا يزال السد أحد أهم مشروعات القرن العشرين الهندسية، ولا يزال قادرا على تنظيم وتخزين المياه وحماية البلاد من التغيرات المناخية، وبالتالى فقد كان رد السد العالى على خصوم عبدالناصر عمليا، سواء ما وفره من كهرباء فى عقوده الأولى كانت تغطى إنارة وصناعة، كانت تكفى السكان وقتها، أو صموده خلال عقود شاهدا على مشروعات عظيمة.
والواقع أن الحملات ضد جمال عبدالناصر، كانت تبدو منطقية من قبل الإقطاع أو طبقات أطاح ناصر بمصالحهم وأحلامهم، لكن الحملات بدت غير منطقية من قبل فئات استفادت مباشرة من الإصلاح الزراعى أو مجانية التعليم والعلاج، فقد أتاحت الثورة للطبقات الوسطى الصغيرة والفلاحين والفقراء حق تعليم أبنائهم، وعلاجهم وترقيتهم اجتماعيا، والمفارقة ان أبناء الفقراء ممن حصلوا على حقهم فى التعليم بتفوقهم، هم من احتكروا هذا وبعضهم أطاح بتكافؤ الفرص، وحرم آخرين منه.
وبالتالى فإن ثورة يوليو أحدثت أثرا فى مصر والإقليم والعالم، ولا يزال بعد 72 عاما يمثل موضوعا للمناقشة، بل إن جمال عبدالناصر الذى رحل قبل 54 عاما لا يزال يثير الجدل، وهناك فرق بين جدل منطقى، وبين انتقام وكراهية، يمثلهما تنظيم الإخوان، أو فئات لا تعرف سوى الكراهية، واصلت حملاتها طوال أكثر من خمسة عقود.
الحديث عن ثورة يوليو ومكانها فى التاريخ لا يحتاج إلى التشنج والاستقطاب والرؤى الجاهزة، ومن ردود الأفعال من أصحاب الرؤى المسبقة، لكن الحقيقة أن الثورة وأى ثورة لا يمكن تقييمها بظروف اليوم، ولا يمكن استنساخها أو استعادتها، وفى حالة ثورة 23 يوليو وجمال عبدالناصر، تجاوز تأثيرها مصر والعالم العربى وأفريقيا، وفى توازنات القوة بالعالم، بعض التفاصيل تظهر نتائجها بعد عقود، وهو ما ينطبق على كل مراحل التاريخ.
اليوم السابع
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة