حازم حسين

ارتباك شريف أم انتظام مشبوه.. ورقة بكين وأسئلة مشروعة عن الانقسام الفلسطينى

الخميس، 25 يوليو 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ذهب الأشقاءُ إلى بكين خصومًا وعادوا أصدقاء، هذا ما أسفرت عنه أحدثُ جولات الحوار الفلسطينى الرامية لإنهاء سبعة عشر عامًا من الانقسام. والأخبارُ الواردة من الصين إيجابيّة؛ إنما السوابقُ كلُّها ترفعُ مناسيبَ الشكِّ بقدر ما تُثير الأسى. فالطبيعىُّ أن تستقلَّ الدُّوَل أوَّلاً؛ ثمّ تنحرف البوصلة بمُكوِّناتها الداخلية نحو الاستقطاب وصراعات السلطة، بينما ما فعلته الفصائل فى الأرض المُحتلَّة أنهم عكسوا الآية، وأشهروا بنادقهم فى وجوه بعضهم، قبل أن تتحرَّر الأرض أو يكتملَ كيانُهم القانونىُّ والمُؤسسىُّ فوقها. وكلُّ مُنازلةٍ لا تصبُّ فى صالح المشروع الوطنى؛ إنما هى صورةٌ فجَّة عن التواطؤ مع العدوِّ، أو التصويب الرخيص على الذات.


لا شىءَ يُسعد إسرائيل قدرَ أن تصيرَ خصومتُها بين النهر والبحر ثلاثيّةَ الأطراف، فلا يعودُ الصدامُ بين قاتلٍ ومُناضلٍ فقط؛ بل أجندات مُتضادّة تخصمُ كلُّ واحدةٍ فيها من الأُخرى، فتزدهر الدعائيَّةُ السهلة عن غياب الشريك، وانحسار المشروع، وضبابيَّة آفاقه الحاضرة والمُستقبليّة. وقد اختبرَ الضحايا أثرَ ما أحدثوه بأيديهم فى جبهتهم الواحدة، وفَاقَ للأسف ما أحدثته أيادى الاحتلال حجمًا ونوعًا. إذ على امتداد أربعة عقودٍ تقريبًا منذ الانتفاضة الأولى/ أطفال الحجارة، ينقسمُ خطُّ الزمن لكُتلتين شِبه مُتساويتين: الأُولى فيها مدريد وأوسلو وانتفاضة الأقصى وتمكين مُنظَّمة التحرير من حضورها الشرعى على بقعةٍ من الجغرافيا السليبة، والثانية عنوانُها الفُرقة والاقتتال الداخلى ومُعاونة اليمين التوراتى القومى على القضيِّة وناسها، وصولاً إلى الغرق الكامل اليوم فى أمواج «طوفان الأقصى» وما ترشّح عنها، بمُقامرةِ المقاومة غير المحسوبة وجنون الصهاينة غير المُفاجئ. ولكلِّ مرحلةٍ مواجعُها وأحزانُها بالطبع؛ إنما الحسابُ الدقيق والمراجعةُ الجادة يكشفان عن انحدارٍ عميق من سيِّئٍ لأسوأ، وأنَّ القضية ما تحرَّكت عن مَواضعها؛ ولو حدث فإنه للخلف لا للأمام.


أتقن «عرفات» لُعبةَ الانتقال بين الساحات والأدوات، وكان مُجِيدًا فى ركوب السياسة كما فى السير تحت ظلِّ السلاح. ولأنه استوعبَ حقيقةَ الظرف، وتوازنات المنطقة، وضرورةَ الانخراط فى التجربة لتطويرها من داخلها، آلَ إلى غير ما ابتدأ به. صداماتُه المُبكِّرة اتَّخذت طابعًا إقليميًّا هائجًا، وكان على حرفٍ من الرحيل برصاصةٍ أُردنيَّة أو لبنانية، وبعدها أعادَ ضَبطَ رُؤيته وخطابه، وهَندَسَ المُنظَّمة وأجنحتَها، وطاف العالم خطيبًا ومُفاوضًا، من منصَّة الأُمَم المُتّحدة إلى التوقيع فى حديقة البيت الأبيض. والخلاصةُ؛ أنه عاد صديقًا للحاضنة العربية، واستعاد موطئَ قَدمٍ فى الضفَّة مع رايةٍ وصِفةٍ شرعيّة، وأدار مرافقَ السُّلطة وتقاطُعاتها مع فصائل القتال بدقَّةٍ واعتدال. وغادر أخيرًا كما يحدثُ فى مواكب الشهداء، وقد صارت القضيّةُ فى بيتها، والنضالُ مُتَّضحَ المعالم ومُحدَّدَ الاتجاه.


الخلفاءُ على تركة الرجل أمسكوا بخرائطه وساروا فى طريقٍ مُعاكِسة. لم يكُن «عباس» بتاريخه الطويل على قدرِ اللحظة، ولا «حماس» بمرجعيّتها الأُصوليّة وعواطفها المُلتهبة، استوعبَتْ أهميّةَ أنْ تظلَّ الحِزمةُ مُتضامَّة معًا؛ مهما بدت أعوادُها نحيلةً وهَشَّة. وكان المفروض أن تلعبَ الصناديقُ الديمقراطيّة دورًا فى تثبيت واقع الأرض، والحفاظ على ما وصلت إليه الأقدام بالدبلوماسية والقوَّة. لكنَّ انسحاب كاريزما «أبو عمار» من المشهد أغرت الجميعَ بأدوار البطولة، وأحدثت شرخًا ما كان يصحُّ أن يضربَ الأساسات؛ ولم يكتمل عمرانُ البيت أصلاً. هكذا صارت الانتخاباتُ لعنةَ فلسطين، لا حجرًا فى مدماك الضَّبْط والتأصيل الشعبيِّين لواجهتها القياديَّة. وأقصى ما كانت تحتاجُه أن يُختَم على أوراقِ مُمثِّليها بقَبول الناس؛ فيصير التصويت عنوانًا على مشروعيَّة الشارع بعدما تحقَّق طَرَفٌ من شرعيَّة الاعتراف الدولى. والغريمُ الجارحُ كان يعرفُ طابعَ الخطوة وأثرَها المُزعج لسرديّته؛ فما قصَّرَ ولا توانى عن إذكاء النار والاستثمار فى الفوضى.


لم يكُن ياسر عرفات جبانًا أو مُهادِنًا؛ إنما فَطِنَ مُبكِّرًا لخطورة أن يجتمع الساسةُ والمُسلَّحون فى غرفةٍ واحدة. والبديل لديه أن يشغلَ ظاهرَ الصورة، مُستفيدًا من أدوات المُقاومة، وداعمًا لها من وراء ستار؛ فيصيرُ بإمكانه أن يصرفَ فائضَ القوَّة لحساب السياسة، وأن يبرأَ من الوَصْم بمُجافاة أُطر الدبلوماسية والقانون. ولطالما استماتَتْ إسرائيلُ فى رَبط السلطة بالفصائل، وحبّرت عرائضَ طويلة عن إسناده للكتائب المُسلَّحة، واحتياله عليها بتوقيف العناصر على باب المَخفر وإخراجهم من بابٍ آخر، وصولاً إلى اتِّهامه بالمسؤولية عن سفينة الأسلحة الشهيرة على شواطئ غزة، ما أفضى إلى مُحاصرته فى مقرِّ المُقاطعة، وتسميمه، وحرمانه من فرصة الموت تحت سماء الوطن الضائع. وإن كان خليفتُه قد سعى لتكرار الحِيلة؛ فإنه لم يكُن مُقنعًا فى القول والممارسة، ولا مَحميًّا بخلفيّةٍ ميدانية تردعُ التهجُّم وتُقوِّض المُزايدات. أمَّا الحماسيون؛ فاعتبروا أنهم كانوا مسجونين فى هالة القائد الراحل، وقد تحرَّروا بمقتله، وآنَ لهم أن يستعيروا مقعدَه. ولعلَّهم دُفِعُوا لهذا بتوجيهاتٍ تنظيميّة، أو وفقَ أجنداتٍ إقليمية «فوق فلسطينية».


الاحتلالُ أتعبته التجربةُ القديمة، ولم يكن مُستعِدًّا للاستمرار فيها، أو إعادة إنتاجها وإنْ على وجهٍ أردأ وأقلّ جدّية. واتَتْه الفرصةُ مع نتائج الانتخابات، واستعجال «حماس» للتمكين والهيمنة؛ ولو باقتطاع غزَّة وإبعادها عن مجالها الحيوىِّ فى الضفّة الغربية. وهكذا رحَّبت تل أبيب بالانقلاب على السلطة، وغذَّت أطماعَ الحركة، واستثمرت فى الانقسام بكلِّ السُّبل الكفيلة بتعميقه وإدامته. قُدِّمتْ تسهيلاتٌ إغرائيّة غير مسبوقة فى مرحلته الأُولى، وغُضَّ الطَّرفُ عن إحكام السيطرة على القطاع؛ بل لعبَ نتنياهو دورًا فى تعزيز صورة القسَّاميِّين شعبيًّا عبر «صفقة شاليط»، التى أخرجت أكثر من 1000 سجينٍ منهم يحيى السنوار نفسُه، ووسَّطَ الأمريكيِّين لتدبير ملجأ بديلٍ لقيادات الخارج، بعد انقلابهم على بشَّار الأسد ومُغادرة دمشق، ثم توسَّط بالأصالة لإتاحة تمويلٍ شهرىٍّ ضخمٍ عبر إحدى العواصم العربية، كان خازنُ الدولارات يهبطُ فى مطاراته، وتمرُّ الحقائب من معابره بانتشاءٍ وترحاب. وما أحسَّ المُناضلون بالفخِّ ولا نشطت قرونُ استشعارهم؛ بل اعتبروها على الأرجحِ فُرصةً ذهبيّة ممَّا يقعُ عارضًا ولا يتكرَّر كثيرًا.


استفحلَ الشِّقاقُ بين جناحَى الدولة، وحدث المُرادُ تمامًا. كان نتنياهو ينظرُ للشَّرخ الحادث فى جدار القضيَّة باعتباره أحدَ إنجازاته البارزة، ويعتبرُ «حماس» ذُخرًا استراتيجيًّا لإسرائيل؛ على ما صرَّح به مرَّاتٍ عديدة. المعنى أنَّ الأصوليّة الصهيونية تخدُمها الأُصوليَّات المُضادّة، وقد لا تكونُ مُتواطئًا مع العدوِّ؛ إنما تُؤازرُه بالعداوة السائلةِ غير النظاميّة، بأكثر ممَّا تُحاربه وتُزعجه وتخصمُ من أرصدته.. وكلَّما انقضت الأيَّامُ على هذا الاختلال، تباعدتْ الضِّفافُ وانحسرَ الماء. عقدان تقريبًا ما اضطُرَّ الاحتلالُ فيهما للجلوس إلى مائدةٍ جادّة، ولا قطعَ التزامًا حتى يتكبَّدَ أعباءَ تجاوزه، أو نتربَّحُ نحنُ من تداعيات الالتفاف عليه. تُرِكَت المسألةُ فى العراء تمامًا، فكأنها صارت قضيَّةً دون جَسدٍ أو صاحب. والحال أنَّه تفرَّغ لمواسم الضغط والحصار على طريقته المُعتادة فى «جَزِّ العُشب» كل عدَّة سنوات: مرَّةً ضد حماس وحدَها، وثانيةً على «الجهاد» فى حيادٍ حماسىٍّ مُثير، وثالثةً ضدَّهما معًا. تناسَلتْ الحروبُ من أرحامِ بعضها تِباعًا، بخسائرَ ماديَّةٍ دائمة، ومن دون مكاسب؛ ولو معنويّةً عابرة.


غَفَلَ الأقربون، واستشعر البعيدون فداحةَ المِحنة وخِفَّة النزوات والانحيازات. نَشَطَت القاهرةُ سريعًا على محور التوفيق بين المُتنازعين، وهذّبت بوساطاتها طريق الشوك من الضفَّة للقطاع، أو العكس، كما استضافت عديدًا من جولات الحوار دون كَلَلٍ أو ملل. وكان أوّل اختراقٍ مُهمٍّ بتوقيع وثيقة الوِفاق الوطنىِّ صيفَ العام 2011. كانت مصرُ فى القلب من مخاض «25 يناير» وفوضاها الواسعة، ولم تغفَلْ عن فلسطين وعِلّتِها المُوجِبة للتداوى العاجل؛ لكنَّ المرضى أنكروا وتهرَّبوا من العلاج. ومن وَقتِها لم تنقطِعْ اللقاءات، وآخرها فى العلمين الجديدة قبل ثلاثة أشهر من طوفان الأقصى، وقد دخل آخرون على الخطِّ قبل الحرب وبعد اندلاعها، فاستضافت موسكو أكثر من جولةٍ أحدثها فى فبراير الماضى، واحتضنت بكين محاولةً سابقة فى أبريل، قبل أن تُعلِنَ أخيرًا عن وثيقتها الجديدة تحت عنوان «إنهاء الانقسام وتعزيز الوحدة الوطنية».


انعقدت الطاولةُ الطازجةُ بين 21 و23 يوليو. حضر مُمثِّلو 14 فصيلاً، ووقَّعوا جميعًا على الورقة النهائية مُتعهِّدين بإنفاذ بنودها ودفعِ المُصالحة قُدُمًا. وقد قاد محمود العالول وَفدَ «فتح»، بينما قلَّصَت «حماس» تمثيلَها إلى موسى أبو مرزوق، بعدما كان مُقرَّرًا أن يحضُر إسماعيل هنيَّة على رأس فريق الحركة. المُهمّ أنَّ الخُلاصات كلَّها جاءت منطقيَّة وقابلة للتحقيق، وكُلّها تقع تحت بند الإلحاح، عبر ثلاثة مساراتٍ تبدأ بوَقف إطلاق النار وتكثيف المُساعدات لقطاع غزة، ثمَّ حَوكمة المسار فى المرحلة الثانية ما بعد الحرب بمبدأ الحُكم الوطنىِّ للأراضى المُحتلّة على الجانبين، مع بدء عملية إعادة الإعمار وتوفير الدَّعم الدولىِّ لحكومةِ وحدةٍ وطنيَّة مُؤقَّتة، تكونُ واسعةَ التمثيل وتُمارسُ إدارةً فعّالة، وأخيرًا العمل على الوصول للعضوية الكاملة فى الأُمَم المُتَّحدة والسَّير إلى «حلِّ الدولتين»، ودعم إقامة مُؤتمرٍ دولىٍّ للسلام يُثمرُ خارطةَ طريقٍ وجدولاً زمنيًّا واضحًا وموقوتًا.


الجولةُ الصينيَّة حضرَها سفراءُ عِدّة دُوَلٍ أو مُمثِّلون عنهم، على رأسهم مصر وروسيا والجزائر، وبينهم الأردن والسعودية وسوريا وقطر ولبنان، والثلاثة الأُوَلى كانت نشطةً على خطِّ بناء التوافق، أمَّا البقيَّةُ فإنَّ لها صِلةً مُباشرةً بالقضية وتقاطُعاتها الداخلية والإقليمية.. كأنَّ «بكين» أرادت لمشهدها الأخير أن يكون تجميعًا لمُداولات العقدين الماضيين، وأقربَ إلى إقامةِ الحُجَّة على الخصوم بالإجماع. وفيما يخصُّ العقبات الخارجيَّة المُعطِّلة لترميم البيت الفلسطينى؛ فربما يكون لبنان الرسمىُّ عاجزًا عن ترويض حزب الله، كرأسِ حَربةِ الميليشيَّات الشيعية السارحة فى المنطقة؛ لكنَّ الصين لها اتِّصالٌ وطيد مع إيران، وكذلك روسيا، وثمَّة اتّفاقٌ للسعودية معها منذ الربيع الماضى، ما يفيدُ بإمكانية القفز على الفجوة الباقية من جِهة الممانعة؛ لا سيما بعدما اعترض المُرشد عَلَنًا على حديث الهُدنة، فى رسالته على هامش ذكرى الخمينى قبل أسابيع، وكانت مُلاحظتُه الصريحةُ ممّا أربكَ «حماس» وأعادها لأجواء الاضطراب؛ بعدما رحَّبت سابقًا باقتراح الرئيس الأمريكى جو بايدن لوَقف الحرب وترسيم الملامح الافتتاحيّة لليوم التالى.


فُتِحَت جراحُ فلسطين عن آخرها فى النكبة الأُولى، واليوم نقفُ على نكبةٍ ثانية بعد قُرابة ثمانية عُقود. أُهدِرَ وقتٌ طويلٌ فى دوَّامة البحث عن الحياة؛ لكنَّ أكثرَه صعوبةً ما أهدرَه الضحايا تطوُّعًا تحت أقدام الجُناة. وجميلٌ أن يتلاقى الأشقّاءُ اليوم، ولو كان انفصالُهم غريبًا من الأصل؛ لكنَّ الأجملَ والأهمَّ أن تلتئمَ الكسورُ القديمة على نحوٍ سليم، لئلَّا تتجدَّد المواجعُ والعثرات بعد زمنٍ بعيدٍ أو قريب. والأولويّةُ التى تسبقُ المُصالحةَ؛ أن نعرف لماذا كان الخصام، وعلى أىِّ أرضٍ تفجّرت بواعثُه، ومَنْ المسؤولُ عن افتتاحه والاستثمار فيه كلَّ تلك السنوات. هل ذابت الخلافاتُ تمامًا، أم هى استجابةُ الضرورة التى قد تتبدَّل لو تبدَّلت الأحوال؟! صحيحٌ أنَّ وجيعةَ غزّة غير مسبوقة؛ لكنَّ المواجعَ السالفة كان فيها ما يكفى للرجوع عن الصلابة والمُكابرة. فما الذى غاب قَبْلاً ويتوافرُ الآن للاطمئنان إلى نجاعة الاتفاق، وألَّا تذروه الرياح كما فى كلِّ المحاولات السالفة؟!
ما كان ظاهرًا أنَّ «حماس» لا تُقرُّ لمُنظّمة التحرير بتمثيلها للقضية والشعب، كما لا تقبلُ السلطةُ أن تُنازعَها الحركةُ ذات الامتدادات الخارجية فيما ترى أنها حازتْه بالنضال، ثمَّ بالاعتراف القانونى. يتطلَّبُ الأمرُ أن يعود الرئيس عباس وفريقُه من طريق النفى والإلغاء؛ إنّما قبل ذلك يتعيَّن أن يعترفَ الحماسيِّون بأنهم لا ينوبون عن القضية بمفردهم، ولو كانوا يطلبون السلاحَ حصرًا فليسوا مالكيه وحدَهم، ولو يتطلَّعون إلى السياسة فأوَّل طريقِها الانخراط فى ميثاقيَّة التحرير والالتزام بشروطها، ومعرفة أنَّ طَفوَهم على سطح الجدول قد يُعكِّره، بعدما تمكَّن العدوّ من تشويههم، وتكفَّلوا بمُعاونته عبر الارتباط بتيّار الشيعة وأذرعهم السوداء. عناصرُ الاتّفاق واحدة ولا تقبلُ الخلاف: فلسطين أوَّلاً، والغاية الوحيدة استيلاد الدولة من العَدَم الثقيل، وكلُّ ما يخدمُ الأجندةَ الوطنيّةَ مُرحَّب به، وما يتربَّح على حسابها يقعُ وجوبًا فى موقعٍ لا يختلفُ عن الصهاينة إطلاقًا؛ أكان من الإخوان أم بازغًا من تحت عمامةٍ صفويّة سوداء. ولا سبيلَ للجَمع بين الوطنيّة الخالصة والصِّبغة الأُمَميّة المُحمَّلة برواسب الأيديولوجيا وسرديّة الوَقف الإسلامى. فإمَّا أن تكونَ الفصائلُ عَونًا للمشروع أو خنجرًا فى خاصرته؛ ويستحيلُ الجمعُ بين المسارين معًا.


صِدقُ النوايا أهمُّ من إعلانها، وقد أطعمَتْنا الفصائلُ والحركات كثيرًا من أوهام النقاوة وجِديّة السعى إلى الالتئام. أجندةُ حماس المُعلَنة فى 2017 ما تزال حبرًا على ورق، وجُملةُ الخروج على مُنظَّمة التحرير أعلى صوتًا من عبارات مُهادنتها والدخول تحت مَظلَّتها. ولأجل إثبات أنها مُقاربةٌ نقيّة من المُناورات وألاعيب سرقة الوقت؛ فالواجبُ أن تُعيدَ الحركةُ صياغةَ أجندتها على وجهِ الاستعجال، وتتقبّل الثوابتَ الراسخة فى برنامج السلطة الوطنية، والحاجة لفترةٍ انتقالية لا تكون فيها طرفًا من الحُكم أو مُنافسًا عليه، بينما يتعيَّن على الطرف الآخر أن يعترف بالعوار، وأن يجبُرَ القصورَ الشديد فى مرافقه بالهيكلة وإعادة البناء، ولِتَكُن حكومة تكنوقراط وفاقيّة أوّلاً، ورُؤية مرحليّة لإدارة المشهد المُحتدم فى الضفَّة والقطاع، ثمَّ انتخابات تمثيليّة لاحقة على أيَّة صورةٍ مُمكنة، ولو إلكترونيا أو فى المنافى، والمعيارُ الوحيد فيها أن تطلُعَ الأجنداتُ من طين فلسطين، وتُثمرَ فى صوامعها حصرًا؛ لا إلى حليفٍ سياسى أو شريكٍ أيديولوجى؛ ولو سَوَّد خُطَبًا مُنمَّقةً وزلزل المنابرَ بالشعارات.. يجب ألَّا تكون الوقفةُ الناعمة تحايُلاً على الأزمة، أو شفرةً دقيقة لتقطيع الوقت بمُخاتلةٍ مقصودة. إذا كُنَّا مأمورين بطَلَب العلم ولو فى الصين؛ فلا غضاضةَ فى أن تأتى المُصالحاتُ أيضًا من هُناك. والتحدِّى أنَّ ما أفسدَه الطامعون فى القُرب، قد لا يُحصِّلونه من أقاصى الأرض. العُقدةُ فى فلسطين، وكذلك حلولها؛ وعلى كلِّ بندقيّةٍ أن تتحسَّس ذخيرتَها وزنادَها ومرمى رصاصاتها؛ فالارتباكُ على إيقاع القضيَّة أفضلُ وأشرفُ من الانتظام على إيقاعات أعاديها وتُجَّارها، فما بالك لو اجتمع الارتباك بالشُبهة وغاب الشرف والانتظام؟! إنه امتحانٌ عملىٌّ لكلِّ ما يُثار بصخبٍ دون أن يتجاوز حناجرَ قائليه، والحقُّ أنّه لا معنى للأقوال طالما تصبُّ الأفعالُ دَومًا فى خزّانٍ آخر.










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة