وليد فكرى

من رأس أوزيريس إلى رأس الحسين..

السبت، 27 يوليو 2024 01:30 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

فى المقال السابق، تناولت تلك العلاقة المميزة والمثيرة للتأمل بين المصريين و«العائلات المقدسة»، من عائلة أوزيريس، فعائلة السيد المسيح عليه السلام، وصولًا لآل البيت النبوى الشريف.


ثمة تشابه تاريخى إضافى بين المكونات الثلاثة - «المصرى القديم، والقبطى المسيحى، والعربى الإسلامى» - فى الثقافة الدينية الشعبية للمصريين، هو ما أرجو أن تسمحوا لى بوصفه بـ«الرؤوس المقدسة».


فإن كنا نعلم أن رأس الإمام الحسين قد وجد مستقره فى المشهد الحسينى بالقاهرة، فإن كلا من الثقافتين المصرية القديمة والقبطية المسيحية قد ارتبطت كذلك برأس مقدس.


فلنعد بالزمن لعصر الحضارة المصرية القديمة، فى مدينة أبيدوس «غرب البلينا بمحافظة سوهاج حاليًا»، اعتاد المصريون القدماء فى منتصف شهر كيهك القبطى، أن يحتفلوا بعيد «شجرة أوزيريس» وأن يقدم كهنة معبد أوزيريس عرضًا تمثيليًا لقصة أوزيريس وغدر أخيه «ست» به، ثم رحلة إيزيس خلف جثمان زوجها، وصولًا للانتصار على سِت الشرير، ويتخلل الاحتفال مزيج من بكاء الحضور عند مشهد موت أوزيريس، ثم تهللهم بالفرح عند بعثه من موته، ويفرشون فى ميدان أبيدوس الأشجار المورقة، ويزينونها بالهدايا والعطايا احتفالًا ببعث إلههم المحبوب.


وفقًا للأسطورة الأشهر بين الأساطير المصرية القديمة، فإن «سِت» الشرير قد وضع أخاه أوزيريس فى تابوت، وأغلقه عليه بالرصاص وألقاه فى النيل، ليحمل النهر التابوت إلى مصبه فى البحر المتوسط الذى حملته أمواجه بدورها إلى سواحل مملكة بيبلوس فى فينيقيا «جبيل فى لبنان الشقيق حاليًا» وألقته على شاطئها لتنمو حوله شجرة ضخمة وتحتوى الجسد المقدس، وتُعجَب ملكة بيبلوس بالشجرة فتأمر بحملها للقصر.


فتسافر إيزيس إلى بيبلوس، وتحتال لتلزم الملكة بمنحها الشجرة والتابوت بداخلها، ثم ترجع إلى مصر لتحاول إعادة زوجها للحياة، وبحسب نفس الأسطورة، فإن «سِت» حين يعلم برجوع أوزيريس يداهم مكان جثمانه، ويقطعه لأجزاء يدفن كلا منها فى بقعة من أرض مصر، فيكون الرأس - وهو أعز وأكرم موضع من الجسد - من نصيب أبيدوس، فيُدفَن فيها ليصبح ذلك مفخرة للمدينة، ويمكننا أن ننظر لقصة تقطيع «ست» الجسد ودفنه فى مواضع متفرقة، على أنه بمثابة طقس منه لمباركة أرض مصر بدفن جسد إلهى فيها لتعمها بركة هذا الجسد وتفيض بالخير.


ومن الثقافة المصرية القديمة للثقافة القبطية، حيث يلعب رأس القديس مرقس دور البطولة فى واحدة من أطول القصص زمنيًا وأكثرها إثارة.


لأسرة من أصول ليبية، وُلِدَ القديس مرقس فى أورشليم «القدس المحتلة بفلسطين الشقيقة حاليًا» سنة 12م، وآمن بدعوة السيد المسيح عليه السلام، وارتحل بين مدن العالم القديم للدعوة للمسيحية، وفى الإسكندرية المصرية، أسس القديس مرقس كنيسته الأولى فى منطقة بوكاليا قرب الميناء الشرقى للمدينة، وتحديدًا فى بعض المغارات تحت الأرض، وهو نفس موضع الكنيسة المرقسية بالإسكندرية حاليًا فى شارع كنيسة الأقباط بمحطة الرمل، ونصب إنيانوس وهو أول المؤمنين بدعوته من المصريين، أسقف لها وأسس مدرسة للاهوت، ثم سافر ليكمل رحلته للدعوة.


بعد فترة، عاد القديس مرقس للإسكندرية حيث وجد أن عدد المؤمنين قد تزايد، ولكن تلك الزيادة استفزت المتعصبين من الوثنيين، ففى العام 68م هاجموا كنيسة بوكاليا وقبضوا على القديس مرقس وعذبوه حتى استشهاده، ودفن أتباعه جسده، ورأسهالذى انفصل عن الجسد خلال التمثيل به، فى كنيسته بالإسكندرية.


بقى جثمان القديس مرقس فى سلام حتى تعرض قبره للنبش، سنة 644م، عندما حمل بعض البحارة الصندوق المحتوى على لرأس وهو يحسب أن به أموالًا، لكن أمره اكتُشِف وقام الوالى آنذاك عمرو بن العاص بإعادة  رأس القديس للكنيسة.


وفى عام 828م تعرض جثمان القديس مرقس - دون رأسه - للسرقة بالفعل على يد اثنين من بحارة مدينة ڤينيسيا الإيطالية، هما روستيكو دو تورسيللو وبيونو دو مالاموكو، حيث قاما بالتسلل للكنيسة وسرقا الجثمان وتوجها به إلى ڤينيسيا حيث أقيمت عليه كاتدرائية سان ماركو.


فى عام 1419م وخلال عهد السلطان المملوكى المؤيد شيخ، حاول بعض البحارة- أيضًا من ڤينيسيا - سرقة رأس القديس مرقس لكن السلطات المملوكية أحبطت المحاولة.


وبقى رأس القديس مرقس فى مصر دون جسده، حتى استطاعت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى قترة بابوية البابا كيرلس السادس استرداد الرفات من إيطاليا سنة 1968م، واستقباله فى احتفال رسمى وشعبى وعالمى مهيب. 
جدير بالذكر، أن لرأس القديس مرقس مكانة عظيمة فى الثقافة المسيحية، فالكنيسة القبطية الأرثوذكسية تحتفل يوم 30 بابه القبطى  بذكرى عودة الرأس من محاولة السرقة الأولى، وبطريرك الكنيسة المرقسية يقوم بتكريم الرأس فى ثانى أيام تنصيبه.
ومن رأس القديس مرقس لرأس الإمام الحسين، حيث يستغرب الكثيرون انتقال رأسه وقد استُشهِدَ فى كربلاء بالعراق، إلى هنا فى مصر، ولهذا قصة.
بعد موقعة كربلاء، حمل جيش يزيد رؤوس الحسين وقتلى آل بيته وأنصاره إلى الكوفة لتوضع بين يدى عبيدالله بن زياد، والى يزيد بن معاوية على العراق، ومهندس موقعة كربلاء، فتسلل بعض أبناء قبيلة «أسد» لساحة المعركة المنتهية وقاموا بدفن الجثامين.
كلف عمرو بن سعد، قائد جيش يزيد فى كربلاء، أحد رجاله بالاحتفاظ برأس الحسين وحفظه تمهيدًا لإرساله للكوفة، فلما رجع الرجل إلى بيته وهو «يبشر» زوجته بالثراء القريب، لأنه يحمل معه رأس الحسين، فزعت المرأة وفرت منه صارخة ومعلنة فراقها له لشناعة فعله وقوله!
واستقبل الوالى عبيدالله بن زياد رأس الحسين، فراح يضرب منها الفم بعصا فى يده، فتصادف أن دخل عليه الصحابى زيد بن أرقم، فلما رأى ابن أرقم عبث ابن زياد صاح به أن يرفع عصاه عن فم الحسين «فوالله أنى رأيت ثنيتىّ رسول الله عليهما».
وحُملت رأس الحسين إلى يزيد بن معاوية فى عاصمته دمشق، فلما وُضِعَت بين يديه فقال يزيد مظهرًا التأثر: «والله يا حسين لو أنا صاحبك ما قتلتك» أى لو أن أمرك بيدى ما قتلتك.
ورغم إظهار يزيد الحزن وأمره نساءه بالبكاء على الحسين، إلا أنه لم يكرم الرأس بدفنه، بل أمر بحمله لخزانة السلاح، حيث بقى حتى عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز الذى أمر بدفنه فى زاوية من المسجد الأموى بدمشق.
وفى العصر الفاطمى، وخلال سيطرة الفاطميين على الشام، تمرد القائد التركى أفتكين، وكان عاملًا على دمشق من قِبَل الدولة الفاطمية على الفاطميين، وحاول الاستقلال عنهم، لكنهم هزموه، ففر إلى عسقلان بفلسطين، وكان قد أخرج رأس الحسين من قبره وحملها معه، وهناك لحق به الفاطميون وأسروه واستردوا رأس الحسين فدفنوه فى عسقلان وأقاموا عليه مسجدا ذا منبر فاطمى فاخر، نُقِل لاحقًا للحرم الإبراهيمى بمدينة الخليل.
وفى عهد الخليفة الفاطمى الفائز بدين الله «حكم من 1154م إلى 1160م» غزا الفرنجة الصليبيون عسقلان، ففاوض الخليفة الفرنجة على أن يتركوه يأخذ رأس الحسين وينقلها إلى مصر.
وفى احتفال مهيب فى العام 1154م، دخل القاهرة من باب الفتوح موكب حافل يضم الأمراء الفاطميون والأعيان والقضاة والفقهاء، يحملون إناءً ذهبيًا تلفه الأقمشة الفاخرة، وسار الموكب حتى بلغ موكب الخليفة الفاطمى الذى ترجل عن فرسه، وأدى التحية لرأس الحسين، ثم دفنه فى قبر خُصِصَ بها فى قصر الزمرد والذى كان مجمع القصور الفاطمية، ثم تم نقله للمسجد والضريح المخصص له الذى بناه الوزير الفاطمى الصالح طلائع بن زريك.
وفرح المصريون ب«جيرة» الحسين، حتى أن المنطقة المحيطة بضريحه صارت تُعرَف بـ«حى الحسين»، واحتل وجوده مكانًا عظيمًا من الثقافة الشعبية المصرية، حتى أن أيمان البسطاء كانت تحمل اسمه فيقسمون بـ«ومقام الحسين» أو «ورأس الحسين».
ثلاثة رؤوس، لثلاث شخصيات فى ثلاثة عصور وثلاث ثقافات، الأمر أكبر من أن يكون محض مصادفة، وفى رأيى أنه جزء من عملية تكيف الثقافة الشعبية مع التغيرات الزمنية، لتحافظ على وجودها بما يلائم المتغيرات، وهذا من الأوجه الكثيرة لعبقرية الثقافة الشعبية المصرية.










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة