بدأت كُرةُ الثلج، أو بالأحرى كُرةُ النار، صغيرةً وتكبرُ مع الأيام. منذ اندلعت الحربُ فى غزَّة وكلُّ ما يخشاه الجميع أن تتطوَّر إلى مُواجهةٍ إقليميّة واسعة، وبينما يُعبِّر أطرافُها المُباشرون عَلَنًا أو ضِمنيًّا عن عدم رغبتهم فى توسعتها، تتدحرجُ الأمورُ بوتيرةٍ خشنة نحو ما يُخشَى منه بالفعل. لكلِّ فريقٍ خطابُه الظاهر وأجندتُه المُضمَرَة، وكلاهما فى سباقٍ مع الزمن والتوازنات القائمة؛ لإحداث خروقاتٍ يُمكن تجييرُها لحساب المكاسب على الطاولة النهائية؛ حتى لو بدت بعيدةً ومُستعصيةً فى المدى الراهن. والمنطقةُ على صفيحٍ ساخن، يزدادُ سُخونةً كلَّما لاحت فى الأُفق احتمالاتُ نصرٍ أو هزيمة؛ إذ لا يقبلُ الغريمان الوصولَ لخطِّ النهاية معًا، ولا أن ينفردَ أحدُهما بالسباق. وأحدثُ الحلقات المُزعجة ما كان قبل يومين فى هضبة الجولان السورية المُحتلَّة.
حتى الآن لا تزال التفاصيلُ غائمةً؛ لكنَّ الخطوطَ العريضةَ تُشير لقصفٍ صاروخىٍّ استهدف ملعبًا رياضيًّا فى بلدة «مجدل شمس» الجُولانيَّة الدُّرزيّة، أودى بحياة اثنى عشر شخصًا فى حصيلةٍ أوَّليّة، مع عشرات الإصابات الخطيرة، وعدَّادُ الوفيات فى تصاعُد. وقد اتَّهَمَ الاحتلالُ الإسرائيلىُّ حزبَ الله اللبنانى بالضلوع فى الحادث، ونفى الأخيرُ مسؤوليَّتَه نَفيًا قاطعًا، ودخلت بيروتُ على الخطِّ بإدانةٍ من حكومة تصريف الأعمال لاستهداف المدنيِّين فى كلِّ مكان، وتتابعت تهديداتُ الوزراء الصهاينة بإشعال الجبهة الشمالية وإحراق لبنان. بينما دعا الاتحادُ الأوروبىُّ لتحقيقٍ عاجلٍ ومُستقلّ، وقالت الولاياتُ المتحدة إنَّ الهجوم مُروِّع، وقد يكونُ الشرارةَ التى كانت تخشاها وتسعى لمَنع اندلاعها، مع الدعوة لردِّ مُتوازنٍ لا يكسر الاعتبارات المرعيّة على الجانبين؛ بينما البيئةُ الإقليمية فى أقرب حالاتها إلى أن تكون حقلَ قَشٍّ مُندَّى بالزيت ومُطوَّقًا بالبارود.
فى المُستوى الشخصىِّ؛ لا أُصدِّقُ إسرائيل ولا حزبَ الله، كما لا أراهما مُختلِفَين عن بعضهما إطلاقًا. كلاهما ميليشيا أو احتلال، أو الاثنان معًا، من ناحية وَضع اليد على حياة الآخرين ومُقدَّراتهم، والعمل خارج القانون والأُطر الشرعيَّة. وعليه؛ فالأمرُ لا يخضعُ من جانبى للعاطفة أو التقدير بالصِّدقيَّة؛ بل الشواهد الحاضرة وسوابق الأعمال لهما الجدارةُ فى النظر للوقائع وتقييمها، وكلُّ الاحتمالات واردةٌ ومقبولةٌ تحت سقف التكتيك والاستراتيجية، وحسابات الربح والخسارة، والجهة التى تنتفعُ من العمليَّة الأخيرة، أو على الأقلِّ تتكبَّدُ أقلَّ الأضرار. إذ لا مانعَ على مقياس المنطق من مُتاجرة الطرفين بدماء الجولانيِّين، مثلما يستمرئون مزادَ الاستخفاف بالأرواح فى غزَّة وجنوب لبنان، وفى كلِّ الجبهات الساخنة على السواء.
القصفُ الدامى طالَ بلدةً دُرزيَّةً مُحتلَّة، والضحايا أطفالٌ ومُراهقون دون العشرين تقريبًا، وكلُّهم من دروز الهضبة السليبة. فبلدةُ «مجدل شمس» واحدةٌ من 163 قرية فى مُرتفعات الجولان، تقع عند السفح الجنوبى لجبل الشيخ، وهى من المناطق القليلة التى تمسَّك أهلُها بمواقعهم، ولم يستجيبوا لمُحاولات الإجلاء والترحيل، وأغلبهم يحملون الجنسيَّةَ السورية ولم يسعوا إلى الانتساب للعدوِّ. وإذا كان زعيمُ الطائفة فى الدولة العبرية، الشيخ مُوفَّق طريف، قد دعا لتحكيم العقل وتجنُّب الفتنة؛ فإنه تلقَّى اتِّصالاً من نتنياهو فى مقرِّ إقامته الأمريكى، واختتم بيانَه بالقول إنهم فى بلدٍ ذى قانون وسيادة، ويتحمَّلُ مسؤوليةَ الأمنِ العام وسلامة الأفراد. فكأنَّه فى شِقٍّ من كلامه يُلمِّحُ إلى احتمال المُؤامرة وراء الهجمة، وفى الآخر يغسلُ يدَ تل أبيب ويُطالبها بالثأر. والحال أنَّ أهالى المنطقة بوضعهم القائم، يصحُّ أن يكونوا خُصومًا للجانبين: الصهاينة لناحيةِ أنهم يتمسَّكون بأُصولهم ويتسلَّط عليهم الاحتلال، والحزبُ ارتباطًا بفكرة التخوين وأنهم جناحٌ مُوازٍ ولو عقائديًّا لجماعة وليد جنبلاط المُناوئة لهيمنته على لبنان. أمَّا المعيارُ الأهمُّ فيتَّصل بأنهم أُضحيةٌ غير مُكلِّفة، بمعنى أنه يُمكن الوصول إلى أهدافٍ سياسية وحربيَّة على جثامينهم، دون إثقالِ الفاتورة بالدم اليهودى.
النقطةُ الأخيرة لا تُعنى تعليقَ الجرس فى رقبة حسن نصر الله. فالواقع أنَّ تاريخَ الصهاينة ينضحُ بالجرائم المَثِيلَة بحقِّ حواضنهم العُضويّة، منذ أن كانوا عصاباتٍ سارحةً فى فلسطين أو تكنِسُ أرجاءَ الأرض بَحثًا عن مُستوطنين لكيبوتسات الدولة الجديدة. لقد تواصل زُعماؤهم الأوائلُ مع النازيَّة والفاشيِّين، وكانوا يُفضِّلون إبادةَ اليهود فى المحارق على تدبير ملاذاتٍ بديلةٍ لهم فى بقيَّة أوروبا، واعتبروا أنَّ الأمثَلَ لهم أن يموتَ نِصفُ أطفالهم لأجل أن يرحلَ النصف المُتبقِّى بعد المقتلةِ إلى فلسطين. ولم يختلفْ ذلك عن سلوكهم فى الأرض المُحتلَّة، بين عمليات استهدافٍ وتفجيرٍ لترفيع حالة العداوة والشحن، واغتيالاتٍ لليهود غير الصهاينة أو رافضى الانصياع للوكالة، وتخريبٍ للبواخر مَنعًا لإعادتها بالمُهاجرين كما أراد الإنجليز فى بعض الفترات، بل وصلَ الأمرُ لاستهداف فندق الملك داود فى القُدس بعمليةٍ أودَتْ بحياة أبناء دينهم بجانب عربٍ وبريطانيِّين، وقد امتدَّت تلك الأنشطةُ لأنحاء المنطقة، عبر جهودٍ كثيفة للفتنة وتأليب المُجتمعات العربية، كانت من ثمارها عمليَّات: «بساط الريح» فى اليمن، وعيزرا ونحميا أو «على بابا» فى العراق، وسليمان وموسى وجوشوا فى إثيوبيا، ومثلها فى مصر والمغرب العربى وغيرهما. لقد أرادوا تعبئةَ القاعدة الاستيطانيَّة بالوافدين الجُدد، ولو أراقوا فى سبيل ذلك نهرًا من دماء المجموعات المُستهدَفَة نفسها؛ وعليه فلا يُمكن افتراض أنَّ إسرائيل انقطعت عن تاريخها، ولا أنها تناسَتْ الأدوات القديمة ومَنطِقَها البراجماتىَّ عندما تقفُ أمامَ ما تعتبره غاياتٍ وجوديَّةً عُليا.
لدى الاحتلال توجيهٌ أمنىٌّ يُعرَفُ باسم «بروتوكول هانيبال»، بدأ تفعيلُه مع تزايد عمليات اختطاف المُجنَّدين أواخر ثمانينيَّات القرن الماضى، ويقضى بمَنع عمليَّات الأَسْر وتعطيل إجلاء الخاطفين وضحاياهم بأيَّة كُلفَة، ولو كانت التصويب على العدوِّ والشقيق معًا. ورغم الجدل والاعتراضات بشأنه؛ فالاحتمال أنه وُضِعَ تحت الطاولة نظريًّا، لكنَّه ظلَّ ساريًا فى النِّطاق العَمَلىِّ. وتفاصيل ما حدث فى عملية «طوفان الأقصى» أوائل أكتوبر الماضى تُشير لتفعيله فعلاً؛ إذ أفضت بعضُ التحقيقات وتقاريرُ الصحافة العبرية إلى أنَّ عشراتٍ من قتلى المُستوطنات وحفل مهرجان نوفا الموسيقى سقطوا بنيران سلاح الجوِّ الإسرائيلى، وإلى اللحظة يبدو القصفُ العنيف لقطاع غزَّة مُتِّصلاً بالبروتوكول بخيطٍ سميك، لا سيِّما مع تتابُع الإشارات إلى مَقتل نسبةٍ لا يُستهَانُ بها من الأسرى، دون أن تجفُلَ الحكومةُ أو تتوقَّف عن عدوانها، وتُعيد برمجةَ خطَّتِها العسكريّة على وجهٍ يُراعى أرواحَ المأسورين.
لقد استبَقَ جيشُ الاحتلال كلَّ التراتُبيَّة الطبيعيّة فى فحص مَوقع الحادث، واستخلاص الأدلَّة والشواهد، ليُعلِنَ مسؤوليةَ «حزب الله» عن الجريمة النكراء، بل ويعتمد خطَّةً عملانيَّة للردِّ، أشار إليها العسكريِّون بعد دقائق قليلة، وقبل إجلاءِ كامل الضحايا والمُصابين. وتدخَّل نتنياهو من مَعقلِه المُؤقَّت فى واشنطن مُلوِّحًا بالثأر المُرتَقَب، وسرَّبت المنصَّاتُ الإعلامية المُوالية لليمين أخبارًا عن حصوله على ضوءٍ أخضر من الولايات المُتَّحدة. والواقع أنّه لا يمكن الجَزمُ تمامًا ببراءة الحزب من العمليّة، كما لا يُمكن إحسانُ الظنِّ بالصهاينة وتغليبُ احتمال أنهم غير ضالعين فى المسألة؛ بينما تُحقِّقُ العمليَّةُ أهدافًا مُباشرة للطرفين: فالأوَّل يُؤكِّد سيادتَه على كامل الجبهة وتقاطُعاتها، وقُدرتَه على الإيذاء الذى قد ينتقلُ من الجولان للجليل، ومن الدروز لليهود، بينما الثانى يُعمِّقُ سَرديَّةَ الخطرِ الإيرانىِّ الداهمِ وحاجته لكَبحِ نطاق التَّمَاس قبل أن ينفلتَ ويستعصى على الترويض. فالضربةُ يُمكن أن تُخفِّضَ أسقُفَ الاشتباك بقدر ما تُهدِّد برَفعها تمامًا، والإشارةُ فيها مُزعجةٌ لكنَّها غير مُكلِّفة؛ إذ لم تُصِبْ المجالَ الحيوىَّ للدولة ومرافقها التى سبق التلويحُ بها فى طلعات الهُدهد، كما لم تلَغْ فى الدم اليهودىِّ، وفى النهاية لا يرى التوراتيِّون والقوميِّون مجموعات الدروز مُختلفين كثيرًا عن أكوام الغزِّيين أو السوريين واللبنانيين الجنوبيين، فكلهم أهداف صالحة للتصويب، وقد اعتادت استباحتَهم جميعًا دون اعتذارٍ أو مُساءلة.
قال مُتحدِّثُ الجيش، دانيال هاجارى، إن العملية نُفِّذَتْ بصاروخ «فلق 1» الإيرانىِّ الذى لم يستخدِمُهُ فى المنطقة إلَّا حزبُ الله، ورَدَّ الأخيرُ بأنه قد يكون صاروخًا اعتراضيًّا من منظومات الدفاع الإسرائيلية. أفيخاى أدرعى زادَ بالإشارة إلى «على محمد يحيى» قائدِ منظومة الإطلاق الحزبية فى منطقة شِبعا، ونشرَ مسارًا مَزعومًا للمقذوف المُتسبِّب فى الحادث من خطِّ الحدود حتى مجدل شمس. أمَّا رجال «نصر الله» فقالوا إنهم استهدفوا قاعدةً عسكريّة فى الجولان، ولم يتعدَّوها إلى نطاقاتٍ مَدنيَّة. وهنا يُحتَمَلُ أن يكونَ إطلاقًا مقصودًا أو طائشًا من أحد الطرفين، ويظلُّ السؤالُ قائمًا عن طبيعة القذيفة لو كانت إيرانيَّةً فعلاً، وعن قُصور ثلاث طبقات من أنظمة الدفاع عن التصدِّى لها، وقد قال الصهاينة إنهم لم يُطلقوا المُعترِضات عليها؛ فإمَّا أنهم رأوها وتهاونوا، أو كانت لهم يَدٌ مُباشرة فيها.
يستشعرُ نتنياهو أنه مُوشِكٌ على التوقيع فى غزَّة، ويُريدُ تمريرَ حالة الحرب إلى الجبهة الشمالية. لقد تشدَّد حزبُ الله فى رَبط جبهته بالقطاع، وجَزَمَ بأنه سيُوقِفُ التصعيد بمُجرَّد التوصُّل إلى هُدنةٍ جنوبًا، وهذا ما لا يقبلُه رئيسُ الحكومة وائتلافُه المُتطرِّف، بالاستماتة فى فَصل الجبهات ومُحاولة بناء الرَّدْع على كلِّ ناحيةٍ بمَعزلٍ عن الأُخرى. والحال أنَّ عمليَّة الدروز جاءت بعد حملة علاقات عامَّة واسعة من الكونجرس لذئبِ تلِّ أبيب العجوز، وبات بإمكانه إحماء الساحات الباردة مُنطلِقًا من مناخ الفوضى فى واشنطن، وأنَّ المُتنافسين فى الانتخابات من الحزبين يخطبونَ وِدَّه ويسعون لإرضاء جماعات الضغط الداعمة له. إنه المُستفيد الوحيد من واقعة الجولان بالحسابات العقليَّة؛ لكنَّ الطرفَ الآخر قد لا يخلو وِفاضُه من مكاسب العمليّة.
السياقُ الطبيعىُّ أن ترُدَّ إسرائيل، ثمَّ يرُدَّ الحزبُ على الردِّ. إنْ تطوَّرت الأمورُ فقد تكون الحربَ الشاملةَ التى تنفتح فيها الساحات على بعضها، وتتدخَّل طهران إعمالاً لتهديدها السابق، وإن أفضَتْ إلى توازناتٍ جديدة؛ ولو عند سقفٍ أعلى، فستكون إشارةً جديدة إلى ثبات «نصر الله» وفاعليَّته، وإلى قُدرته على إبقاء توازُنات الرَّدع القائمة. والمعنى أنه إمَّا أن يُطلقَ الاحتلالُ حربًا شاملةً ويتحمَّل مخاطرَها، أو يتقبَّل حقيقةَ أنَّ الميليشيا الشيعيَّة الأكبر والأكثر تجهيزًا غير مَردوعةٍ عند أىِّ مُستوى. وهكذا، وبمَعزلٍ عن المُتَّهم الحقيقى فى الجريمة، يبدو أنهما يستعرضان على جُثث الدروز، مثلما يُواصلان الرقص منذ عشرة أشهُر على أشلاء الغزِّيين ورُكام بيوتهم المُتهدِّمة.
الدروز بطبعهم فئةٌ مهضومة، أكان فى إسرائيل أم فى سوريا ولبنان. والحزبُ خاض فى دمائهم كما فعلَ مع أطيافٍ لبنانيَّة أُخرى، والنظام السورىِّ والاحتلال الصهيونى فعلاها أيضًا. وإذا كان حسن نصر الله لا يُقيم لهم وزنًا فى بلدهم، ويُعطِّل مع حُلفائه من «التيَّار الوطنى» تثبيتَ رئيس الأركان الدُّرزى المُعيَّن بقرارٍ من الحكومة، فإنَّ نتنياهو تعاملَ مع مقتل وإصابة عشراتٍ منهم فى الجولان كما يتلقَّى حوادثَ السير، ولم يقطع زيارتَه القائمة منذ أسبوعٍ للولايات المُتَّحدة، ولو كان الضحايا يهودًا لوَضَعَ نفسَه على مِقوَد الطائرة بملابس النوم. الجِدّية الوحيدة من جانبه تمثَّلت فى خطابِ التصعيد، وتحضير الجبهة للصدام ودَقّ طبول الحرب، وتلك مسألةٌ تخصُّ نزواته المقصودة فى إبقاء حالة الهياج شمالاً، وصَرفها لحساب السياسة الداخلية، بين ترويض الحُلفاء التوراتيِّين وقَمع المُعارضة الحزبية والشعبية، وإجبار الجيش على الانخراط فى أجندته الشخصية تحت رايةٍ وطنيَّة مُزيَّفة. إنها لعبةُ تسويقٍ ودعايات؛ وليست استشعارًا لحُرمة الدم الذى يسبحُ فيه منذ عشرة أشهر، ويُلاقيه سماحةُ السيد من شاطئه الآخر بدعاياتٍ مُضادّة؛ إنما بمنطقٍ مُطابقٍ يستثمرُ فى الفوضى، ويُمرِّرُ النوايا السوداء من قناة القضايا العادلة أو الشعارات البرَّاقة.
أضاءت بلديَّةُ تلِّ أبيب مبناها بألوان عَلَم الطائفة الدُّرزيّة، وعلى خلاف معنى التضامُن الظاهر فى اللفتة الدعائية؛ فإنَّه يحملُ من زاوية التأويل دليلاً على أنَّ إسرائيل لا تعتبرُ العمليَّةَ وجيعةً وطنيَّة؛ بل تتَّخذُها مَوضوعًا للنزاع والمُزايدة، وتُخرِجُ الضحايا من ظلال العَلَم الأزرق إلى المساحة العارية التى تتساوى فيها دِماؤهم مع دماء الأغيار، ولا يُستَدْعَون للمجال العام إلَّا لو تيسَّر تسييلُ أرواحهم لحساب الجبهة الصاعدة مع امتداداتهم العضويَّة، إن فى لبنان أو فى سوريا. باختصارٍ؛ يفقِدُ البشرُ صِفَتَهم الإنسانيّة وتصيرُ أبدانُهم ميدانًا لاستعراض القوَّة، وتَنَاطُح السرديَّات، والبحث عن ثغراتٍ تدَّعى الذودَ عنهم، بينما تنفُذ من قلوبهم إلى أهدافٍ سياسيّة غير بريئة. وهنا يتساوى الفلسطينىُّ مع الإسرائيلى من أُصولٍ عربية مع إخوته وأشباهه تحت سطوة المحور الشيعىِّ من اليمن جنوبًا حتى العراق وسوريا شمالاً، وفيما بينهما من نطاقاتٍ تطالُها أيادى المُتصارعين ومنصَّات إطلاقهم المُلوَّنة بمشاريع القَضْم والابتلاع والإلغاء.
أعلن الاحتلالُ أنَّ وزير الدفاع يوآف جالانت، ورئيس أركانه هرتسى هاليفى، صدَّقَا على خطّة العمليَّات فى لبنان. لا تحدُثُ الحروبُ فجأة، والأسابيع الماضية شهدت تحضيرًا واسعًا بين مُناوراتٍ بريّة وطلعاتٍ جوِّية، وإعدادٍ للخرائط وبنك الأهداف. كأنَّ حادثة «مجدل شمس» كانت المُبرِّرَ المُلفَّقَ لقرارٍ سابق الاعتماد. ليلةُ القصف نفَّذَت إسرائيلُ ضرباتٍ على بعض مناطق الجنوب حتى صور، وعلى الأرجح سيُكثِّف غاراته دون مُغامرة التوغُّل البرىِّ. وهو لديه قائمةٌ بالنقاط الحيويّة التى يحتاجُ لإخراجها من مُعادلة الصراع بشكلٍ عاجل. والحزبُ إن كان يتوخّى البُعدَ عن الصدام فسيتلقّى الضربةَ الثأرية لآخر طاقته من الاحتمال، وبأقلِّ قدرٍ من الردود المُوجِعَة. السياقُ مُلتبسٌ بالكامل؛ إذ يُكمِلُ مشهدَ التسويق الفجّ بالكونجرس، ويُناقِضُ عقيدةَ «نصر الله» الذى يفخرُ بعمليَّاته، وإنكاره اليوم يُحتَمَلُ أن يكون صادقًا فى حقّه، وأن يُشيرَ لانفلات أحد الحُلفاء من الفصائل الفلسطينية أو «قوَّات الفجر» التابعة لإخوان لبنان، وهو يتكفَّلُ بتسليحهم وتنسيقِ عمليَّاتهم؛ مع حقيقة أنه لا يُمكن لذُبابةٍ أن تطيرَ هناك خارج ولاية الحزب وسُلطته الراسخة.
لو كان نتنياهو ضالعًا فى الأمر؛ فلعلَه يسعى للوقيعة بين ثلاث جبهات: دروز الداخل، وأجنحتهم فى لبنان وسوريا، وإيران فى القلب منهم.. ولو كانت الضربةُ من الدائرة اللصيقة فقد تُشيرُ إلى تمرُّدٍ على التفاهمات القائمة بين الحزب وإسرائيل، وعلى هشاشة «وحدة الساحات»، واستشعار حماس وحُلفائها أنهم تعرَّضوا للخُذلان وتُوشِك مُغامرتُهم أن تنطفئ دون مكاسب. والردُّ المُتوقَّعُ يُحقِّق للائتلاف الصهيونىِّ منافع داخلية وخارجيّة ومع الدروز، وتعقيب نصر الله يُعزِّز ثِقَله الروحىَّ فى حاضنته؛ إنما يُعمِّقُ الشروخ مع الدُّرز والبيئة الوطنيّة المُتمرِّدة على استبداده بالدولة وقرارها. إنها جولةُ تصعيدٍ مُحتَمَلَة، وغير مأمونةٍ؛ لكنها تستكملُ مُسلسلَ «عضّ الأصابع» بين الأُصوليّات الإقليمية، ولا تختلفُ فيها المَصيدةُ الدُّرزيّة المفتوحة حديثًا، عن فِخاخ غزَّة التى تستقطب المنطقةَ ببطءٍ منذ شهور، فالضحايا أعدادٌ مُجّهلةٌ والجناةُ معروفون دائمًا، وكُلَّما أوشكت نارُ جبهةٍ أن تخبو، أشعلوا بديلاً عنها، ودائمًا يربح العدوِّ، ويستأسد الخُطباءُ؛ ويتبقّى للمنكوبين فاصلٌ ضئيلٌ ليلعقوا جراحَهم بين نكبةٍ وأُخرى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة