لا يُعرَفُ على أىِّ وجهٍ ستسيرُ الأمورُ عند الزاوية الجنوبية من لبنان. طبولُ الحرب أعلى صوتًا من رسائل السياسة، وكلا الطرفين لا يُريدان الدخولَ فى صدامٍ شامل على قولِهما؛ لكنهما يُعبِّران بكلِّ الصور عن الجاهزية الكاملة لأسوأ الاحتمالات. وإذا كان الرهانُ قائمًا منذ البداية على إدارة الجبهة تحت سقف الاشتباك المرسوم سَلفًا؛ فإنَّ القلقَ والتحذيرات كلّها ظلَّت فى نطاق التوجُّس من سوء التقدير والحسابات الخاطئة، ومن الانزلاقات البطيئة التى قد تكسرُ توازنَ الرُّعب، وتُحفِّز طرفًا على البحث عن مُعادلةٍ مُغايرة. والمشهدُ اليومَ أقربُ ما يكون لحالة الهياج المُنذرة بالانفلات؛ لا سيِّما بعد حادثة «مجدل شمس» الدُّرزيّة فى هضبة الجولان المُحتلَّة، وأجندة الردود المُعلَنة من جانب إسرائيل، وما يتسرَّب مُلحَقًا بها من إشاراتٍ إلى استهداف نقاطٍ حيويّة للحزب، بُغية إرساء قواعد انتشار جديدة بالنار والدم، بعدما عجز التفاوض وجولات الوسطاء المكّوكية عن تثبيتها بالدبلوماسيّة والحوار. هكذا تبدو المعركةُ هدفًا خارج التصويب؛ بينما يُحوِّل الرُّماةُ بنادقَهم إليها ببطءٍ، ويُرَفِّعون مهاراتهم فى الرماية وقنص الأهداف البعيدة.
لا تأسَفْ إسرائيلُ على مُراهقى الجولان المغدورين فى ملعب الكُرة؛ لقد كانت خصيمًا مُباشرًا لهم منذ احتلال الهضبة قبل نحو ستَّة عقود، وخاضت معهم صراعاتٍ خَشِنةً قبل إعلان ضَمّ المُرتفعات السورية وبعده، وقتلت من أجدادهم فى هَبَّتِهم الأكبر منتصف الثمانينيات أكثر ممَّن قُتِلُوا بالصاروخ الطائش مُؤخَّرًا. الفكرةُ كلُّها أنها حوّلت جثامينهم موضوعًا للنزاع، وتتحسَّب من زحزحة النيران جنوبًا نحو الجليل، فضلاً على أنها فرصةٌ مُواتية فى عُرف نتنياهو لإحماء الجبهة الشمالية، واستخلاص ما يُعينه على تحشيد الداعمين الحاضرين فى الإقليم، واستمراء المُراوغة وتقطيع الوقت بين أيدى الغاضبين منه والناقمين عليه داخليًّا. وهكذا فإنَّه لا يطلبُ الثأرَ للضحايا الصغار، بقدر ما يرفعُ مَظلمَتَهم على أَسِنَّة الرماح بديلاً عن راياته الذابلة؛ لهذا لن يستجيبَ لدعوات التحقيق الدولىِّ، ولن ينتظرَ أيَّة استخلاصاتٍ موضوعيّة دقيقة، كما لا تعنيه انفعالاتُ الدروز فى إسرائيل، وامتداداتهم بين سوريا ولبنان. لقد انقضت عشرةُ أشهرٍ دون معرفة تفاصيل ما جرى فى «غلاف غزّة» يوم الطوفان، ويُمكن أن نتوقَّع سياقًا شبيهًا مع واقعة «مجدل شمس».
أدان الصهاينةُ والأمريكيِّون حزبَ الله، وحمَّلوه مسؤوليةَ الهجمة، والأخيرُ من جانبه أنكرَ علاقتَه بها على وجهٍ لا يقبلُ التأويل. وتلك الصيغةُ من النزاعات ذات الطابع الجنائىِّ، والمُفارِقة تمامًا لضوابط المُقاومة المشروعة فى أزمنة السِّلم والحرب؛ إنما تتطلَّبُ الوقوفَ على حقائق الجبهة دون اعتباراتٍ مصلحيَّة أو افتراضاتٍ مُسبَقة. وحال انسدال غلالة الضباب على واجهة الصورة، وارتقاء حظوظ الشَّكِّ على علامات اليقين؛ فإنَّه يُفسَّر لصالح التهدئة لا التصعيد، ويفتحُ البابَ لبناء توافقاتٍ أخلاقيّة وقانونية تُرتِّبُ نطاقَ الصراع، وتُجنِّب الدماءَ الحرامَ مغبّةَ الوقوع فى «قِسمة غُرماء» تستحلُّ كلَّ شىءٍ دون ضابط. ويفرضُ ذلك أن يُعاد القرارُ الأُمَمىُّ رقم 1701 إلى الطاولة، مع تنشيط أدوار الجيش اللبنانى والقوات الدولية، واجتراح بديلٍ عن المسارين الحارقين: ربط «نصر الله» لجبهته مع غزَّة تسخينًا وتبريدًا، أو فَصل نتنياهو لهما على نِيّة الحرب الشاملة والدائمة فى الاتجاهين.
ثمَّة روايتان تختصمان على بِركَةِ الدم الدُّرزيّة: يقولُ الصهاينة إنّه قصفٌ مقصود من الشيعة، ويردُّ الحزبيِّون بأنه صاروخُ اعتراضٍ طائشٌ من جهة إسرائيل. وبعيدًا من الاحتمالات كلِّها؛ فإنَّ مُبادرة الحزب إلى إنكار صِلته بالمسألة تُفصِحُ عن رغبةٍ قوية فى اجتناب التصعيد؛ حتى لو كان مسؤولاً عن الحادث بإطلاقٍ خاطئ، أو انفلتت إحدى المجموعات العاملة تحت إشرافه فى الجنوب، ونفَّذت العمليّةَ دون إخطارٍ أو تنسيق؛ بينما استعجالُ تل أبيب لإصدار أحكامها النهائية قد يشى بمساعيها لإخفاء شىءٍ ظاهر، أو أنها تستثمرُ فى المُصادفات وعوارض الميدان؛ للوصول إلى نقطةٍ أبعد ممَّا حصَّلته بالاشتباك المُتقطِّع والمحسوب. والحال أنَّ مُناكفات الشهور الماضية انحرفت كثيرًا عن الحدود المرسومة، وإيقاعَ الجولة الراهنة يُهدِّد بمزيدٍ من الانحرافات، وما بين الردِّ المُحتَمَل والتعقيب الوجوبىِّ عليه؛ فالغِنائيّةُ الحربيّة بينهما قد تتَّخذُ صِيغةَ «الكريشندو» الصاعد، ليجدا نفسيهما، مع من يقفون وراءهما من الرُّعاة والداعمين، واقعين فى أتون الحرب، ووقتَها ستَنتَكِسُ السيناريوهات كلُّها، ولن يعود بالإمكان التنبُّؤ بما ستؤول إليه الجبهةُ المُباشرة، أو تتفاعل به مُلحقاتُها المُمتدَّة طولاً وعرضًا باتِّساع الإقليم.
وصلتْ أعمالُ الاستطلاع بالنار إلى نواحى «صور»، وحتى لو قفزنا على تهديدات المخابيل من حكومة نتنياهو بإحراق لبنان وإعادته إلى العصر الحجرى؛ فإنَّ أحاديث الجنرالات، التى تلتزمُ بطبعِها قدرًا أعلى من العملانيَّة والانضباط، لوَّحَتْ بما لا يقلُّ جنونًا. قِيْلَ لاحقًا إنَّ اتّصالات الكواليس طمأنت اللبنانيين بتحييد بيروت والضاحية؛ ثمَّ نَفَت مصادر رسميّةٌ وحزبيّة أن تكون تلقَّت رسائلَ بهذا المعنى. وبطبيعة الحال فى تلك الأزمات توالت التحذيرات، وبدأت بعضُ الدول إجلاءَ رعاياها، أو دَعَتْهم لتجنُّب السفر والبقاء فى ملاذاتٍ آمنة. وبينما أخلى الحزبُ عددًا من نقاطه المُهمَّة فى الجنوب، وسَمَحَ بأن تتسرَّب أخبارُ الإخلاء إلى الإعلام، كما لو أنه يُشيرُ للعدوِّ على أهدافٍ صالحةٍ للثأر الدعائىِّ، ويُمكن استيعابها دون خَرقٍ للحدود الحَرجة؛ فإنّه عبَّرَ بلُغتِه المعهودة عن الجُهوزيّة لكلِّ الاحتمالات، اتِّصالاً بخطاب أمينه العام فى وقتٍ سابق عن استعداده للحرب خارج كلِّ الأسقُف والحسابات، ما يعنى أنَّ فُرصةَ الدراما المُرتَّبة بقَبول الطرفين مُتاحةٌ أمام نتنياهو، وفُرَص خَلط الأوراق أيضًا؛ وما يختاره رئيسُ الحكومة المأزوم سيرسُمُ وحده معالمَ المرحلة المُقبلة.
كانت الدعائيَّةُ سابقًا أنَّ الجناحَ المُتطرِّف من الائتلاف يفرضُ وصايةً سياسيّة ثقيلةً على زعيم الليكود، وأنه محكومٌ بقيود الأغلبيّة البسيطة؛ لذا ليس في رفاهية المُغامرة التى قد تُطيحُ أربعة عشر مقعدًا يحوزُها بن جفير سموتريتش. والحالُ اليوم أنَّ الكنيست خرجَ فى عطلته الصيفية الطويلة، ولم يعُد بالإمكان حَجبُ الثقة أو إسقاط الحكومة حتى الخريف المُقبل. هنا تتكشَّف الحقائقُ على وجهٍ أوضح؛ إذ المُعضلة كلُّها عند نتنياهو بقوميَّته المعجونة بظلالٍ توراتيّة، وهو الأكثر تشدُّدًا فى دائرة الحُكم الحالية؛ ولو أسعفته الخبرةُ السياسية ومهارات الدبلوماسية القديمة، فى أن يستعيرَ لُغةَ الحِملان بديلاً عن أنياب الذئب. كلُّ السِّكَك الآن مفتوحةٌ لإنجاز الهُدنة فى غزَّة، والبحث عن ترتيباتٍ تَهْدَويَّة مع الجانب اللبنانى، أمَّا التناقضاتُ العميقة بين الصهيونية والتشيُّع، أو بدقّة أكبر بين الاحتلال الفَجّ والمُمانعة المُتاجِرة؛ فإنها أعصى على الحَسم فى الظروف الراهنة، وأعقدُ من إبقائها عند السخونة الحالية، أو المغامرة بالنَّفْخ فى نارها. هذا حديثُ العقل؛ لكنَّه لا يجدُ مكانًا له فى تل أبيب منذ نشأتها، كما لا يصلُ لأسماع سماحة السيد إلَّا من طريق طهران، وهى مجالٌ عريض فى الجغرافيا، ومُزدحم بالحسابات السياسيّة والنَّفعيّة.
إنها ملهاةٌ عن تلك الحرب التى لا يُريدُها أحدٌ؛ لكنَّ الجميع يسيرون إليها بتِراجِيديّةٍ مُضحكةٍ من فَرط سخافتها. يدَّعى الإسرائيليون أنهم فى دفاعٍ عن النفس، ويزعُمُ المُمانعون الإسنادَ والمُشاغلة لصالح غزَّة، ولشهورٍ من المُناوشات الاستعراضيّة؛ ما استشرفت الصهيونيّةُ حياضَ الأمان المطلوبة، ولا ارتاح القطاعُ من المَقتلةِ المَفروضة عليه قهرًا. وحينما أبدت «حماس» قَبولاً لمُقتَرَح التهدئة ثارت عليها أكبرُ العمائم الشيعيَّة دون وسيطٍ، وبعدما قدَّمت تنازلاتٍ كانت ترفضُها تمرَّد «نتنياهو» بالأصالة على سابق الاتفاقات. كما لو أنَّ النكبةَ الغَزّية كُرةٌ تتقاذفها أقدامُ الأُصوليَّات السارحة فى المنطقة، ولا فارقَ بين انتحال السيد نصر صِفةً صَفويَّة لا تنسجمُ مع أُصوله العربيّة، أو إلحاق السيد نتنياهو لنفسِه على نصوص التلمود وسيرة الممالك اليهودية وسفّاحيها القُدامى. إنه تلاعبٌ بالجغرافيا والزمن على السواء؛ فيصيرُ لبنان بفُسيفسائه العريضة وميثاقيّة تعايُشِه الراسخة مَيدانًا للفرز الطائفى، ومُناكفات العَدّ والحَصر وتغليب الهويَّات على بعضها بفائض البشر والسلاح، وترتدّ فلسطينُ عشرين قرنًا إلى الوراء، بافتراقٍ واضحٍ عمَّا يدّعيه الاحتلال لنفسه من المدنيَّة والحداثة.
الأُصوليّةُ بطبعها مُغرمةٌ بالإلغاء، ولا تتصوَّرُ نفسُها طرفًا فى سياقٍ يحتكمُ لغير ما أقرّته واستقرَّت عليه؛ لهذا تكون حروبها دائمًا وجوديّةً، وصِفريّةً أيضًا. وبعيدًا من الفصائل الإسلامية فى فلسطين، وخطيئة ارتباطها بأجندةٍ عِرقيّة تستعيرُ قناعًا دينيًّا؛ فإنَّ الخصومةَ بين الصهيونية والمحور الشيعى تعلو على القضية؛ وإن تأخَّرت عنها زمنًا. لا أحدَ منهما يقبلُ الآخرَ، ولو أُزِيح الفلسطينيون من المشهد أو حصلوا على حقوقهم العادلة؛ لكنهما مُجبران بالضرورة على مُساكنةٍ خَشِنة فى إقليمٍ لن يصفو لأىٍّ منهما بمُفرده، وفيما بينهما دائرةٌ عريضة وآخذة فى الاتساع من قوى الاعتدال، وشبكة علاقات ومصالح تصلُ أطرافَ الأرض ببعضها، وتعكسُ جانبًا من نزاعات القوى الكبرى، ومحاولات استيلاد نظامٍ دولىٍّ غير ما فُرِضَ على الكوكب بعد حربيه الكونيِّتين. وهكذا يبدو كلُّ غريمٍ قدرًا لا فِكاك منه للثانى، ومع استحالة الجلوس على مائدةٍ واحدة لها صِفةُ العقلانية والاستدامة؛ فالبديل المُقترَح دائمًا أن يخرُجا من مُلاكمةٍ ليدخُلا ما بعدها، وأن تتبدَّل مواقعهما على رقعة الشطرنج، بينما تُطاحُ البيادق البريئة بين وقتٍ وآخر؛ بنار العدوِّ حينًا ونيران الصديق أحيانًا.
إنها تُقاس الأفعال وردودها على ميزان المنافع، وتُرفَع القِيَم أو تُخْفَض بالحسابات السياسية، وبقدر ما يلوح فيها من مكاسب أو انتكاسات.. دماء الغزِّيين لدى تيّار الممانعة لا تختلف إطلاقًا عن ثأر الدروز على لائحة إسرائيل، وكلاهما يُمكن أن يقتُلَ من الطرف الذى يُتاجر باسمه دون شعور بالتناقض. وهكذا لا فصل بين احتلال الجولان والتنكيل بأهلها ثم اتخاذهم كقميص عثمان، ولا اختطاف الحزب للبنان وقراره وحقوق طوائفه ثم ادّعاء أنه يطلب «ثارات الحسين» لأجلهم. قد يتَّخذ المسلكُ الأُصولى سَمتًا جارحًا كما فى مقتلة القطاع أو تفجير موكب الحريرى واقتحام بيروت، وقد يُعبّر عن نفسه بخطاباتٍ سياسية، كما فى محاولات دفع الحزب شمالىّ الليطانى أو تثبيت ثلاثية «جيش وشعب ومقاومة» المفروضة على اللبنانين قهرًا، لكنها جميعًا تنويعاتٌ على لعبة واحدة، وتجارةٌ رديئة، وادّعاء للهروب من الحرب، بينما يفعلون كلَّ ما فى وسعهم للبقاء فيها؛ لأنها تُضيِّعُ المُساءلةَ الجادة، وتُسدل ستار العاطفة الشعبوية الرخيصة، وتُبقى المنطقة رهينةً دائمةً لدى أجنداتٍ سوداء وأُصوليّاتٍ جارحة.