حازم حسين

عن الأيديولوجيا وأثر المخدر.. لا يمين فرنسا يُقلق ولا يسار بريطانيا يستحق الاحتفاء

الثلاثاء، 09 يوليو 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

اندفع الجميعُ فى فورةٍ عاطفيّة لتصوير الأمر كما لو أنَّ السكِّين وُضِعَت على رقبة فرنسا؛ ثمَّ تنفسّوا الصعداء عندما لم يُحرز اليمين المُتطرِّف ما بشَّرت به استطلاعاتُ الرأى طوال أسابيع، ومنحته الجولةُ الأُولى من الانتخابات التشريعية جسدًا ماديًّا فى آخر يونيو. صوَّر الرئيسُ وفريقُه المنازلةَ على صيغة الامتحان الوجودىِّ، وانقسم الديجوليِّون، وتمترسَ اليسارُ وراءَ شعاراتٍ جامعة؛ رغم تناقُضاته البينيّة العميقة، والخُلاصة أنَّ المشهدَ لم يخرُج مُختلفًا فى كثيرٍ من التفاصيل عن فوز التجمُّع الوطنى بأكثريَّةٍ بسيطة أو أغلبيَّةٍ مُطلقة، إذ لا يختلفُ جوردان بارديلا عمليًّا عن جابرييل أتال، ولا ماكرون عن مارين لوبان وميلانشون، فالأيديولوجيا لا تُغيِّر الجينات وإن بدَّلت فى البرامج والأفكار.

لقد بُولِغَ للغاية فى تصعيد حالة القلق من القوميِّين المُتشدِّدين، واستثمر منافسوهم فى إحداث خضَّةٍ عاطفيّة واللعب على وتر الهُويَّة من زاويةٍ أُخرى. ومنشأ الأزمة أنَّ تيَّار الوسط لم يُحسِن التصدِّى لالتزاماته السياسية، وأخفق فى كثيرٍ من القضايا، وأثار حفيظةَ الناخبين إلى حدِّ دفعهم لآخر النهر. وإذا كانت الانتخاباتُ الأُوروبيّة قد منحت لحزب لوبان السبقَ بأكثر من ثُلث الأصوات؛ فإنَّ اللوثةَ الداخلية أحدثَها ماكرون بإرادةٍ مُنفردة، وقد بادر لحلِّ الجمعية الوطنية قبل نحو ثلاثِ سنواتٍ من موعدها، ودون مُبرَّرٍ منطقىٍّ أو عَمَلانىّ؛ لا لشىءٍ إلَّا المُناورة بين احتمالين خطرين: أن يُجدِّد شرعيَّة حزبه فيشطُب أثرَ إخفاقه أوروبيًّا، أو يُقامر بالحُكم فى فرنسا لإحراق اليمين قبل موعد الرئاسة فى 2027؛ وكلاهما من خيارات الخِفَّة والاستخفاف وانعدام العقل؛ لا سيَّما أنه لم يستَشِر مُعاونيه فى الخطوة أو يتداولها مع رئيس حكومته، وصدم بها الأصدقاء مثلما فاجأ الأعداء.

أراد الرجلُ السائرُ من عثرةٍ إلى سقطة، أن يضغطَ على أعصاب الشارع بكلِّ ما فى وسعِه من طاقةٍ وقسوة؛ فكان أنْ تلاعبَ به الجمهورُ بدلاً من أن يكونوا لُعبتَه. لقد منحوا التجمُّعَ الوطنى أكثر من 30 % من الأصوات فى الجولة الأُولى، وأجبروه على تجرُّع نُسخةٍ مُعدَّلة من السُّمّ بالتحالف مع غريمٍ آخر. لقد ذهب راضخًا إلى صفقةٍ لا تقلُّ مرارة، ومن وراء ظهور مُحازبيه أيضًا؛ حتى أنَّ بعض قادة الائتلاف فُوجئوا بالخطوة وامتعضوا منها، وأبدوا مُعارضةً لبعض تفاصيلها. المهمُّ أنها جرت بحسب المُخطَّط؛ فتقاسَمَ الطرفان مهمَّة كَبح اليمين عبر تبادُلِ الانسحابات وإخلاء الدوائر، والنتيجة النهائية أنه خرج خاسرًا أيضًا، وتاليًا فى الترتيب للجبهة الشعبية الجديدة/ ائتلاف اليسار، وأرجأ صعودَ مارين لوبان لعدَّة سنواتٍ على الأكثر؛ إنما لم يُغلق الملفَّ تمامًا كما يتوهَّم الآن.

فى البيئة العربية، اشتبكت النخبةُ وبعض العوام مع المشهد على صيغةِ الشأن الداخلى. لقد اعتبروا مُناكفات الساحة الفرنسية تخصُّهم بشكلٍ مُباشر، وتعاملوا معها بمعارفهم وخبراتهم السياسية المُحرَّفَة، وهذا تعبيرٌ مُهذَّب نسبيًّا عن حال التشوُّه الأيديولوجى ومُقارباتنا الخفيفة لليمين واليسار. الخلفيَّة فى فرنسا مُغايرةٌ تمامًا، منذ الثورة الكُبرى وجذور التأسيس للمسألة بتقسيمٍ جغرافىّ بين مقاعد الجمعية الوطنية، ومن وقتها لم يكن اليسارُ غائبًا عن الحالة الفرنسية فى مدِّها الامبراطورى، وامبرياليَّتها، وصدامها مع النازية، وإلى زمن الجمهورية الخامسة. إنه لا يُعبِّر هناك عن نزوعٍ طَبَقىٍّ كما كانت الحالُ فى التجربة السوفيتية وامتداداتها، ولم يكن خارجَ نطاق عصر الأنوار ومصفوفة قِيَمه، ولعلَّه صيغةٌ مُخفَّفة وأكثر إنسانيّةً من اليمين؛ لكنه ليس موصولاً بحبلٍ سُرّى مع البَعث والشيوعية العربية والاشتراكيين الثوريين، كما قد يتصوَّر بعضُ الرومانسيين الذين ما غادروا خيمةَ الرفيق ستالين حتى اليوم.

لقد تجاوزت الحداثةُ ميراثَ العصور الوسطى، وحقبةَ النهضة نفسها، ثمَّ تفجّرت «ما بعد الحداثة» حاملةً معها رياح القفز على الأيديولوجيا، بمعناها الرثِّ القديم الذى ما زال «العالم ثالثيِّون» يلوكونه فى حظائرهم. ومهما انعكس وجوه ماركس وهيجل ولينين وتروتسكى على أوراق اليسار الأوروبى، والغربىِّ عمومًا؛ فإنه انعكاسُ الحنين، وأثر الفراشة الذى يتضاءل ولو كان لا يزول. الشيوعيّةُ نضجت أو تشوَّهت هناك؛ فصارت تكتفى بقطاف الورد للبروليتاريا؛ إنما لا تسعى لتمكينهم، ولا تُخطِّط لأن تحكُمَ العالمَ باسمهم، واليسارُ الديمقراطى صار ظِلًّا خفيفًا ومُؤَنْسَنًا عن الليبرالية، قد يهجو السوقَ حينًا، ويُغلِظُ القولَ للعولمة أحيانًا؛ لكنه أقربُ إلى الابن المُشاكس للسُّلطة الأبويَّة لا الخارج عليها. ربما يختزنُ فى عُمق وعيِه هدفًا مُؤجَّلاً عن التمكين والثورة الحمراء؛ إنما بمُجرَّد صعوده للواجهة تلفحُه الشمسُ ويتبدَّل لونُه القانى، ويصدُق ذلك على اليمين القومىِّ مثلما يجرى عليه.

لم تنحرفْ جمهوريةُ ديجول الخامسة قيدَ أُنملةٍ فى سياساتها العامَّة، مع المُؤسِّس وخليفته بومبيدو، أو عندما آلت إلى اليسار فى زَمَنى ميتران وأولاند، ولا فى أزمنة الوسطيِّين من عَيِّنة جيسكار ديستان وجاك شيراك وساركوزى. أمَّا انحراف ماكرون فإنه نتاجُ رعونته وسيولةِ تجرُبته، وليس تعبيرًا عن أزمة الوسط، سواء كان يمينيًّا أو تقدُّميًّا. إنها الإزاحةُ الطبيعيّة التى تُنتجها الحركةُ فى الزمن؛ فلا تعود الركائزُ الفكرية آلهةً تحدُّ البشرَ وترسمُ حركتَهم، بل مسارات تتشاكلُ وتتقاطع على كلِّ ما فيها من تمايُزات. وتيَّار لوبان الذى يُوصَف بالتطرُّف مُجرَّد نسخةٍ قوميَّة تنتمى لوعىٍ قديم، وإن كانت من أقصى الطيف اللونىِّ لليمين، فإنَّ توقيفَه تطلَّب الاستعانة بالصورة الضدّ التى تُؤكِّد المعنى ولا تنفيه؛ إذ التطرُّف واحدٌ إن بَصَمت عليه الجبهةُ الوطنية، أو وقَّعته فرنسا الأبيَّة. كلاهما ينظرُ للدولة من زاويةٍ انعزاليَّة مُتعالية، أحدهما على معنى الأفضليَّة الحضارية والعِرقيّة، والآخر على معنى الثورة التقدُّميّة وطُهرانية القِيَم والاتحيازات، فكأنها تنقلبُ من جغرافيا مُتّصلة بالعالم إلى جزيرةٍ صغيرة فى البحر، وهذا ممَّا لا يختلفُ كثيرًا عن نازيَّة هتلر وفاشيّة موسولينى؛ ولو بدت المُقارنة صادمةً للبعض.

تفرضُ التجاربُ شروطَها وتُخفِّفُ التركيز الكيميائى القاتل للأفكار. إنَّ «إخوة إيطاليا» وزعيمتَه جورجيا ميلونى بين الورثة الشرعيِّين للفاشية، وكانت إلى ما قبل السلطة مُتطرِّفةً فى طَرحها ومُعاديةً للزَجّ بالبلد فى بيت الطاعة الأُوروبى؛ لكنها اليوم تُعيد هندسةَ حضورها فى المشهد القارىِّ والعالمى على وجهٍ مُغاير. والحال أنَّ حزب لوبان لن ينحرفَ عن القاعدة؛ أَصَعَدَ للحُكم الآن أو فى غضون سنوات. مهمّةُ الأيديولوجيا أن تكون حاضنةً وآليَّة فرزٍ وانتقاء، وقيمتُها لدى آبائها فى الصلابة والنزعة الراديكالية، وهكذا تسيرُ الأمور طالما بقيت فى الظلّ؛ أمَّا بمُجرَّد الدخول إلى دولابِ الإدارة الرسمية فإنها تشتبكُ فى جدليَّاتٍ لا تنتهى، فتفرض بعضَ مواقفها وتُعيد تصحيح البقيَّة، ولا يعود خطاب الاستقطاب والاصطفاء على حالته القديمة. إنها الدولة التى تهزمُ أعتى خصومها؛ مهما كانوا آتين من خلفيَّاتٍ مُتعالية أو فوضويّة.

ما يُقال فى باريس يصدُق على لندن أيضًا. لقد أساء المُحافظون طوال أربع عشرة سنة فى السُّلطة، وأعوامهم الثمانية الأخيرة احتشدت بالفوضى والارتباك، داخليًّا ومع المنطقة والعالم، وآخرها موقفهم المُشين من العدوان الإسرائيلى الغاشم فى غزَّة. هلّل الطوباويِّون المُتفائلون لاكتساح حزب العُمَّال وهيمنته على البرلمان قبل أيام، وبعيدًا من التفاوت الضئيل فى مسائل الضرائب والمناخ والرعاية الصحية؛ فإنَّ القواعد العامة ما دون ذلك تكاد تتطابق. السير كير ستارمر ليس مُعاديًا لمُمارسات الدولة الصهيونية وانفلاتها، ولا حتى ناقدًا لها؛ بل صرَّح كثيرًا بما يُفيد مُعاداة المُقاومة وحقّ الاحتلال فى الدفاع عن نفسه، ولزوجته عائلة تعيش فى فلسطين المُحتلَّة. لقد وقعتْ أشدُّ مآسينا الحديثة فى عُهدة اليسار، وقتما سُحِبَ تونى بلير كجروٍ وديع فى طرف سلسلةٍ يقبضُها جورج بوش الابن.

أُطِيحَ بالعراق وأُلقِى فى عُهدة إيران، ثمَّ توسَّع المحورُ الشيعىِّ ليُحكِم قبضتَه على ما تبقَّى من لبنان، وبأثر التحالُف الجمهورى التقدُّمى كرّت السبحةُ مع الربيع العربى وسقوط سوريا وليبيا واليمن، ولم يكن المحافظون أكملوا شهورًا فى ولايتهم الجديدة؛ لنُحمِّلهم فاتورةَ التفسُّخ الإقليمى وقتها. إنَّ الحركيّةَ الهادرة فى الغرب شوَّهَت كثيرًا من القِيَم، ومزجت الأيديولوجيات ببعضها؛ حتى أننا لم نعُد نرى الصورةَ على ظاهرها الصحيح، ولا فى حقيقتها المُرَّة.

يُفتَرَضُ تاريخيًّا أنَّ مُعاداة الساميّة كانت من حَظِّ اليمين، وأنَّ اليسار لعب دورًا تأسيسيًّا فى تأصيل المشروع الصهيونى ودَفعه على مسار التحقُّق، واستكمال مُساندته لعقودٍ بعدها. اليوم يُوصَم اليسارُ من الصهاينة ويُحتَفَى به بين العرب؛ لأنَّ ميلانشون وحركتَه يدعمون فلسطين وينتقدون إسرائيل، رغم أنَّ بقيَّة شُركائه من الشيوعيين والاشتراكيين والخُضر على خطابٍ مُناوئ تقريبًا. وبالمِثْل يُزايدُ القوميِّون المُتطرِّفون بالورقة السامية؛ رغم تاريخهم الطويل فى عداوتها. أمَّا الجذور فلا تقلُّ إرباكًا؛ فقد أباد النازيِّون آلاف اليهود على الشائع عن المحرقة، لكنَّ هذا لم يمنع قادةَ بعض الحركات والعصابات الصهيونية من لقاء رجال هتلر، والتنسيق معهم لأجل تنشيط الهجرات وتوطيد ركائز الدولة المأمولة. العداءُ كان حاضرًا على الطاولة؛ لكنَّ المصالح كانت ستارًا فوقَه، وإذا كان القوميِّون الألمان يبتغون إخلاء بلدهم من اليهود، والقوميِّون الصهاينة يسعون لتعبئة الأرض المسروقة بهم؛ فليكُن اللقاء المشبوه ولو على شرط الإبادة والتوافقات غير المنطقيَّة!
السياسةُ ليست منصَّةً للمُفاضلة بين المسارات الحارقة، ويصحُّ فيها أن تقولَ لا للجميع. لقد تصاعدَ التفاؤلُ فجأةً إزاء البيئة الإيرانية لمُجرَّد أنَّ شخصًا يصفُ نفسَه بالإصلاحى صعدَ للكُرسىِّ الموضوع فى واجهة السلطة شكلاً، ولا يهمُّ ما إذا كان مُحافظًا بوجهٍ مُعتدل، أو قدَّم فى شبابه مشروعًا لقانون «الأمر بالمعروف» بمخالبه الدينية الخَشِنة، كما لا إشكالَ من وجهة نظرهم فى القفز على أنَّ الدولة بكاملها هُيْكِلَت بحيث تتجمَّع خيوطُها فى قبضة المُرشد ورجاله، فلا يعود الرئيسُ إلَّا «عروسة ماريونت» تُساق لليمن أو اليسار بحسب فتوى عقائدية أو إملاءٍ من سلاح الحرس الثورىِّ. إنّه الفَخُّ نفسُه الذى نتطلَّع منه إلى المُناكفات الدائرة فى أوروبا، وإلى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، فنتَّحدُ راضين مع الخصوم على جبهتهم، وكأنَّ النزول فى خندقٍ واحدٍ سيمزجُ القضايا أو يُوحِّد الأهداف، حتى لو كان كلُّ فريقٍ يُصوِّب بنادقَه فى وجه الآخر، ويضعُ إصبعَه على الزناد مُتأهِّبًا للإطلاق.

لن يُصلِح الوزيرُ السابقُ فى حكومة روحانى ما أفسده رئيسى وحكومته، كما لن يُقدِّم اليسارُ الفرنسىُّ لفلسطين ما لم يُقدّمه ماكرون. أمَّا فى واشنطن فالمُنافسة دائمًا على أىِّ الطرفين يتحدَّث الإنجليزية بلكنةٍ عِبريّة أفضل من الآخر، ولا يصحُّ إطلاقًا أن نتوقَّع من الإنجليز تمايُزًا عن أقرانهم المُرتبكين شرقًا وغربًا. يضيقُ اليمين بالمُهاجرين لكنهم ازدهروا طوال الوقت تحت حكومات يمينيَّة، ويُرحِّب العمّال بهم إنما كانوا دائمًا الأكثر احتضانًا للأُصوليّات الخَطِرة، وقد صَكّ فيلسوفهم ومُنظّرهم الشهير كريس هارمان القاعدة البائسة «مع الإسلاميين أحيانًا، ضدّ الدولة دائما».. إنَّ تقاطُعاتنا معهم لم تنشأ عن اختلاف أيديولوجى، كما فى فلسطين مثلاً؛ بل عن باعثٍ أعمق فى البرمجة العقلية الأنجلوساكسونية، قوامها الانطلاق من فكرة الأفضلية وعبء الرجل الأبيض، وهيامهم المُفرط بتسييد نموذجهم الحضارى، وهنا تنوب عنهم الصهيونية ولا يُمثّلهم البدائيِّون العرب. المَسحة التقدُّميّة قد تُغلِّف الخطابَ بغلالةٍ مُلوَّنة، أو تُعيد صياغة بعض فقراته الثقيلة على الوعى والمنبتّة تمامًا عن المرجعيّة القيمية؛ إنما لن تُغيِّر المسارَ تمامًا. إنه نزاعٌ على سرعة المركبة وهويَّة السائق، لا على الطريق ولا محطّة الوصول.

أحدثت فينا الماركسيَّة ما لم تُحدثه الليبرالية، ولا حجَّة لخطأ الفهم وابتسار التطبيق؛ إذ إننا ما نزال ليبراليين من السطح أيضًا. نُراقب الغرب بأساطيرنا الشرقية، ونحكُم فيما بينهم على قواعدنا الهشَّة. لقد ذوّبُوا الفوارق الحدِّية بين أفكارهم؛ لكننا إلى اليوم نُصلِّى فى معابد الأيديولوجيا القديمة، ولا أحسب أنَّ يساريًّا أُوروبيًّا يرى يسارَ العرب أقرب له من بيئته وكلّ ما فيها كما يحدُثُ لدينا. لقد استوعبوا أنهم تفصيلٌ ضمن سياق كبير، ويحسبُ إخوتنا الرومانسيون هنا أنهم مركزٌ يدور الكون من حوله. وهكذا لا تعدو الانتخاباتُ عندهم أن تكون صندوقَ بريد، ونعُدُّها حَسمًا نهائيًّا لجدليَّاتٍ عالقة ولا تنتهى. فارقُ اليسار عن ماكرون أربعة عشر مقعدًا، والأخير عن اليمين المُتطرِّف أقلّ من ضعف الرقم نفسه، والمُساكنة مع ميلانشون ليست أقلَّ استحالةً من لوبان، أمَّا الارتدادات فستكون أخطر على المستقبل من استباق التجربة فى الحاضر. المُغالاة الاجتماعية ستُربك السوق، والانفتاح على المهاجرين سيُغذِّى الهُويَّات الساخنة، وكما أراد الناخبون مُعاقبةَ الرئيس الوَسَطىِّ بنسخةٍ يساريّة غير مُتجانسة، فإنهم قد يُعاقبونهما معًا فى القريب بالذهاب المُفرط إلى الجانب الآخر. وعلى هذا المعنى لم تكن الانتخابات البريطانية نصرًا التقدُّميِّين؛ بل هزيمةً للمحافظين، وفارق المسألتين أنَّ التصويت كان هروبًا من المَرفوض لا لجوءًا إلى بديل مرغوب.

أخشى أنها لعبة كراسٍ موسيقية، وأننا مسروقون بأثر المُخدِّر وأوهامه الزائفة. أوروبا ذاهبةٌ إلى اليمين حتمًا، وإذا كان الاختراق فى المرَّة الأُولى تفجَّر فى القلب الحىِّ والأكثر تقدُّما، وتحديدًا ألمانيا وإيطاليا؛ فإنه اليوم يتسرّب من الأطراف، أكانت جغرافيّة كالمجر أو ثقافية كهولندا. حصاد الانتخابات أنَّ الصعود مُعلَّق على إيجاد البديل، والحال أنَّ البدائل تتآكل وتنتهى فاعليّة حلولها الوسطية والتقدُّميّة. وهكذا فلا اتّساع تمثيل القوميِّين فى البرلمان الأوروبى يُوجب القلق، ولا ترقية اليسار فى الأنظمة الوطنية يُسوِّغ الاحتفاء والاحتفال، كلاهما يمضيان إلى إعادة تكييف أيديولوجى لن تعود فيه أوروبا كما كانت، سواء بالمعنى الجيِّد أو الردىء.. الأيديولوجيا حجاب كثيف يُغيِّب الحقائق ويحجب التصاوير، وإذا لم يكن فى مقدورنا أن نُبدِّل الوقائع هناك أو نُغيِّر إيقاعها؛ فعلى الأقل يجب ألا نرقص فى زفاف لا يخصّنا، ولا أن نُهنِّئ فائزًا يرفع علينا السلاح كما رفعه الخاسر اليوم لعقودٍ طوال.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة