تساؤلات عدة، أثارها اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، في العاصمة الإيرانية طهران، ربما تناولت العديد من الأبعاد، تراوحت بين الكيفية التي تمت بها العملية، وربما المستهدفين الآخرين على قائمة الاغتيالات لدى الاحتلال الإسرائيلي، ولكن يبقى البعد الأكثر أهمية يدور حول مستقبل غزة، في ضوء العدوان القائم على القطاع منذ أكتوبر الماضي، بالإضافة إلى مرحلة ما بعد العدوان وكيفية إدارتها، وتداعيات ذلك كله على مستقبل القضية الفلسطينية برمتها، والتي تمثل، أو هكذا ينبغي أن تكون، هي الأولوية القصوى، لدى كل أطراف المعادلة السياسية في الداخل الفلسطيني، سواء في السلطة الكائنة في رام الله، أو فيما يتعلق بالمقاومة، التي تسعى الفصائل إلى تمثيلها.
ولعل الحديث عن القضية الفلسطينية ودعمها ينبغي بأي حال من الأحوال ان يتماهى مع الرؤية القائمة على المقاومة، (وهنا لا أقصد الفصائل ولكن المفهوم)، على النحو الذي لا يضع الفصائل في صورة "الند" للقضية، فيما يتعلق بالحصول على الدعم الدولي، أو حتى فيما يتعلق بالصراع على السلطة في الداخل، من خلال الحصول على مزايا إضافية، وهو الأمر الذي ينبغي الالتفات إليه عند مناقشة تداعيات اغتيال هنية، في ضوء حقائق مفادها ان الفصائل الفلسطينية في غزة لم تحظى بالدعم المطلوب من القوى التي طالما روجت لنفسها خطابيا باعتبارها الداعم الأكبر للمقاومة، منذ بداية العدوان، رغم أن آلة الحرب الإسرائيلية، لم تقتصر في معركتها على حماس والفصائل الفلسطينية، وإنما طالت الميليشيات الموالية لتلك القوى الإقليمية، سواء في لبنان أواليمن، دون أي حراك يذكر للدفاع عنهم، إلا بعض المشاهد التلفزيونية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
اغتيال هنية، في إيران، في أعقاب مشاركته في حفل تنصيب الرئيس الجديد، قد أضفى بعدا جديدا حول فكرة الدعم، أو بالأحرى الحماية، التي حاولت بعض القوى الإقليمية إضفائها في إطار علاقاتها مع الفصائل، باعتبارها رمز المقاومة، في مواجهة التيارات الأخرى، والتي وضعوها في درجة أقل في التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي، سواء كانت في الداخل الفلسطيني، في إطار العلاقة مع منظمة التحرير، والتي تعد المظلة الشرعية للسلطة من جانب، أو حتى في الإطار الإقليمي الأوسع، في ظل تعزيز النظرة الفوقية تجاه القوى العربية، التي طالما بذلت الغالي والرخيص دعما للقضية، وما يرتبط بها من حقوق الفلسطينيين المشروعة وعلى رأسها بناء دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية من جانب آخر.
ويعد الحديث عن دعم الفصائل على أساس مفهوم المقاومة، بالصورة التقليدية، لم يصب في صالح القضية، وهو ما يبدو في العديد من المشاهد، التي تكررت لسنوات طويلة، ربما أحدثها العدوان على غزة، والذي اندلع في أعقاب "طوفان الأقصى"، ليكون بمثابة فرصة للاحتلال الإسرائيلي لاستغلال الزخم الناجم عنه في تصفية القضية الفلسطينية، عبر دعوات بتهجير سكان القطاع تارة، وفصله عن الضفة تارة أخرى، وغيرها من الدعوات المشبوهة، والتي كانت قد تؤتي ثمارها، لولا وقوف القوى العربية، وعلى رأسها مصر، بالطرق الدبلوماسية، في مواجهتها، ومازالت تتحرك في نفس الاتجاه، لحرمان الدولة العبرية من أي فرصة من شأنها تقويض حلم الدولة الفلسطينية، وهو ما بدا منذ قمة القاهرة للسلام وما تلاها من دور مصري ملموس، لتحقيق توافقات كبيرة حول دعم القضية، وفي القلب منها الفصائل.
ولو نظرنا إلى المكاسب التي تحققت في الأشهر الماضية، وعلى رأسها حزمة الاعترافات بالدولة الفلسطينية من قبل دول أوروبية محسوبة على المعسكر الموالي للدولة العبرية، نجد أن الفضل الأول يرجع إلى الجهود المصرية العربية، والتي باتت تتحرك نحو توسيع أفاق المقاومة، فلا تقتصر على الشكل التقليدي القائم على تنفيذ عمليات، وشن هجمات، وإنما تحمل في طياتها أبعادا دبلوماسية، تقوم على حشد المجتمع الدولي خلف الشرعية الدولية من جانب، وأبعاد اقتصادية، يقوم في الأساس على تعزيز الجانب التنموي، باعتباره أحد وسائل المقاومة، في مواجهة الاحتلال، مع تعزيز الأوضاع السياسية في الداخل من خلال تبني مواقف معتدلة تجاه كافة أطراف السياسة في فلسطين، من أجل تشجيعهم على الحوار، واستعادة الوحدة، وإنهاء الانقسام والذي يمثل أحد أهم نقاط الضعف التي تعاني منها القضية في اللحظة الراهنة.
ربما مشهد اغتيال هنية، سيبقى عالقا في الأذهان، في ضوء توقيته، وظروفه السياسية والمكانية، باعتباره يحمل العديد من الرسائل، أبرزها للفلسطينيين أنفسهم، في إطار التأكيد على مركزية الدور العربي، في دعم القضية الفلسطينية، والتي لا ينبغي ألا تكون في إطار منفصل عن الفصائل، أو مندرجة تحتها، ولكن العكس، فالفصائل لابد أن تتحرك لخدمة القضية، بينما تقدم رسالة للجانب الإقليمي بأسره، عبر تعزيز ضرورة تقريب المواقف، وتقوية المصالح المشتركة، على حساب البعد التنافسي، وهو الأمر الذي شهد طفرة كبيرة في السنوات الماضية، بينما تسعى إسرائيل إلى تقويضه في اللحظة الراهنة، عبر إشعال الشرق الأوسط مجددا في حرب واسعة النطاق، تمتد من غزة وحتى مناطق الجوار، ومنها إلى اليمن، ثم إيران، وهو ما يعكس اتساع دائرة الصراع بصورة كبيرة.
وهنا يمكننا القول بأن مفهوم المقاومة لا ينبغي أن يقتصر على فصائل، قررت أن تتخذ منحى بعينه، في مواجهة الاحتلال، بينما تتجاهل كافة المناحي الأخرى، تفوق في أهميتها السلوك التقليدي المرتبط بالمفهوم، وهو ما أثبتته الأزمة الراهنة، من مكاسب كبيرة تحققت من رحم العدوان، تمثل انتصارا للقضية، وليس لفصيل بعينه، وهو الأمر الذي تتكفل به القوى العربية، وتسعى لتحقيقه دائما، بل وتمثل حائط الصد الأول في مواجهة خطط العدوان لتقويض القضية وحلم الدولة المنشودة.