حازم حسين

التحرر من الشخصنة وعُقَد الماضى.. هُدنة غزة بين ذاكرة الخصوم وجدّية الوسطاء

الأحد، 11 أغسطس 2024 11:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لم يكن منطقُ «التفاوض تحت النار»، الذى رفعه نتنياهو شعارًا لحرب غزَّة، جديدًا على أيّة حال. ربما تطبيقه الأوَّل حدثَ قبل قُرابة عقدين، وقتما أُدِيرَت مُفاوضات ماراثونية شاقة على خلفية اختطاف جلعاد شاليط بالعام 2006. وقعت مُناوشات عديدة عقب الأَسْر، وبدأ بالتزامن مسارُ البحث عن اتِّفاق، وقد أفضى تعطُّل المسلكين لتهدئةٍ مُؤقَّتة مُدّتها ستّة أشهر فى 2008، اخترقتها إسرائيل لاحقًا بعملية «الرصاص المصبوب» بين ديسمبر ويناير التالى، ثمَّ توقَّفت النارُ وعاد تنشيطُ الحوار. وفى الأخير؛ توصَّل الطرفان لورقةٍ مُتوازنة نسبيًّا، أُعِيْدَ بموجبها الجندى مُقابل 1027 أسيرًا فلسطينيًّا منهم يحيى السنوار، وروحى مشتهى أحد أقرب مساعديه، الذى أعلنت تل أبيب تصفيتَه مُؤخَّرًا فى أحد الأنفاق. والمُفارقة اليومَ أنَّ الصفقةَ الضائعة تتخطَّفها أظافر الرجلين اللذين أبرما الجولةَ السابقة، وعلى حالٍ شبيهة كثيرًا بما مَضَى: رئيس حكومة مأزوم لكنه يحترفُ الخداعَ وابتزاز الأصدقاء والخصوم، ومُقاوم تحرَّر من سجون الاحتلال ليُقيمَ فى خنادق القطاع؛ وجُغرافيا منكوبة لا تخرجُ من حربٍ إلَّا لتدخُلَ غيرها؛ فكأنَّ الفاصلَ الزمنىَّ الطويل بين المشهدين لا يتجاوز الفارق بين مرارة فَمِ القاتل، إذ لا تمنحُه القوَّةُ العارية يدًا عُليا على ضحاياه العُزَّل، واسوداد عَيْنَى القتيل وقد تساوت فيهما زنزانةُ الاعتقال بالصفة الشكلية للحرية فى مكمنه العميق.


لم يحضُر نتنياهو مبتدأ الصراع السابق. كان زعيمًا للمُعارضة بين 2006 و2009، وعليه فقد تكفَّلت حكومة إيهود أولمرت بعَار الاختطاف ووجيعة الرضوخ للتفاوض. ولهذا فعندما عاد للسُّلطة من بعدها حتى اليوم، ودون انقطاعٍ تقريبًا باستثناء شهور قليلة بين 2021 و2022؛ حمل على كاهله وحده أعباءَ التسوية القديمة التى اعتبرها إنجازًا فى وقتَها، وفواتير الإخفاق الراهن بينما يستميتُ فى قَلبِه نصرًا، أو هزيمةً أقلَّ من هزائم «حماس» ليصحَّ تسويقُها على معنى النصر أو ما يُشبهه. ولعلَّ المُعضلةَ كلَّها تقعُ فى تلك المساحة الزمنية بين الحادثتين؛ فالرجل الذى بَصَمَ على ورقة الماضى وأخرجَ عدوَّه اللدود من السجن بمُقتضاها، يستنكفُ أن يمنحَ أسيرَه القديمَ ربحًا من رصيده السياسى المكشوف، ويخشى تكرارَ الجولة لاحقًا على وجهٍ أشدّ خشونةً وإحراجًا لليمين فى نُسختيه القوميَّة والتوراتيَّة، وقد أسَّس سرديَّة فخارِه الوطنىِّ على أنه الوحيد الذى لم يمنح الفلسطينيين شيئًا؛ فإذا به أمام خيارين مُرَّين، أن ينزلَ على شروط الصفقة المُضادَّة تمامًا لدعايته، وأن يكون النزولُ عند قَدَمَىْ أشرس مُناوئيه وأكثرهم راديكاليَّة، بينما مُجرَّد بقائه على قَيد الحياة مَذلّةٌ ما بعدها مَذلَّة لذئبِ الصهيونية العجوز.


صدمةُ «الطوفان» احتاجت شهرًا من الإبادة المُتوحِّشة؛ حتى يصلَ الصهاينةُ إلى تعادُليَّةٍ نفسيّة تسمحُ بإبرام هُدنة نوفمبر القصيرة، ومن يومها مرَّت تسعةُ أشهُرٍ، لا ارتوى الجانى من الدم ولا اكتفى الضحايا بسابق النزيف. كلاهما يعضُّ أصابعَ الآخر بحثًا عن نصرٍ فى خياله، والهُدنة بهذا المعنى اقتسامٌ للهزيمة بينهما مهما كانت الحصص، وسواء امتدَّت فى الزمن كما يُريد الحماسيِّون، أو تفجَّرت بعد المرحلة الأُولى حسبما يُخطِّط ائتلافُ الضباع العِبريَّة. والمُتغيِّر الكبير أنَّ كُرةَ النار تسارعت فى تدَحْرُجها؛ حتى لَيَقُتِرب الإقليمُ من مُواجهةٍ شاملة، عنوانها الظاهر فى غزَّة، وصناديقُ بريدها الحقيقية بين تل أبيب وطهران.

ومهمَّة الإطفائيِّين الواقفين على خطوط التَّمَاس أن يَحولُوا دون إزهاق ما تبقَّى من أنفاس القضية، بينما يتواطأ الفريقان على ذلك وإن اختلفت الدعايات: فالاحتلال يُوسِّع قوسَ الصراع ليمنَحَه بُعدًا دينيًّا محمولاً على العمامة الشيعيَّة، والمُمانعون يعتبرونها فُرصةً ذهبيَّة للاستثمار فى فائض الدم، وتجيير الخسائر الغزِّية الباهظة لحساب المحور الشيعىِّ، وأجندته الصفويَّة المَذهبيّة. إنها مَلهاةٌ سخيفة تتقطَّع فيها شرايينُ فلسطين فى كلِّ الأحوال، بسكاكين المُحتلَّ أو بحنجوريَّات المُختلّ.

المُناكفة الأيديولوجية هنا أقربُ إلى سباقٍ فى إعداد الفخاخ والأكمنة، والساعون لتخليص الجبهة من جنون الجانبين عليهم أن يحرفوا المسارَ ولو خطوةً واحدة عن خطِّ التصعيد. ولعلَّ أحدثَ المحاولات ما تضمَّنه البيانُ الثلاثى لقيادات مصر والولايات المُتّحدة وقطر، فى استناده لمرجعيَّة الورقة التى اقترحها بايدن أواخر مايو، والتشديد على وُجوب التوصُّل لوَقف النار وصفقة التبادُل، مع الاستعداد لتقديم مُقترحاتٍ كفيلة بسدِّ الثغرات الناشئة بين الليكود والفصائل. والمُقرَّر أن يقودَ ذلك لجولةٍ تفاوضيَّة بحلول نهاية الأسبوع، إمَّا فى القاهرة أو الدوحة، وقال البيت الأبيض إنَّ قطر تعهَّدت بضمان التمثيل الفلسطينى فيها، بينما رحَّبَتْ بها عشراتُ الدول بامتداد المنطقة والعالم. ولُغة البيان تُفصح عن جدّية ظاهرةٍ، ورغبةٍ عالية فى التصدِّى للمُراوغة وسرقة الوقت، وإنجاز تهدئةٍ ظَرفيَّة مُعَجَّلَة بما يُقلِّص منسوبَ التوتُّر، ويفتحُ البابَ لإدامة المُؤقَّت، وتجهيز الساحة لتوافقات أطول عمرًا وأكثر قابليّةً للاستمرار.

الإشارةُ الظاهرة أنَّ واشنطن تجتهدُ لمُغادرة الحيِّز الرمادى الذى تسكنُه منذ اندلاع الحرب. لقد حافظت طوالَ الوقت على لُغةٍ خشبيَّة مُحايدة، بينما يعرفُ الجميعُ أنَّ مفاتيحَ التسوية مُعلَّقةٌ على أسوار البيت الأبيض، شريطةَ أن يتخطَّى عتبةَ النفاق السياسى والإخضاع لحسابات جماعات الضغط وتأثيرها على الانتخابات الرئاسيَّة. وإذا كانت المُعادلة منذ «الطوفان» قد روَّضت الرئيس العجوز لصالح نزوات نتنياهو وإملاءاته؛ فإنه تحرَّر نِسبيًّا منذ إعلان انسحابه من السباق قبل أسابيع، وبات بإمكانه لَعِب أدوارٍ أكثر إيجابيّةً دون أن يخشى عواقبها على طموحه السياسى، وعلى الحزب الديمقراطى أيضًا؛ إذ تسبَّبت الرخاوةُ فى تشقُّق البيئة الحزبية وإيلام أجنحتها الليبرالية والتقدُّمية، وإرباك الحاضنة المُعتادة من الأقلِّيات والمُلوَّنين، ومهمَّة ترميم البيت ربما تسبقُ البحثَ عن قبول المُموِّلين من «أيباك» وغيرها من مُكوِّنات اللوبى الصهيونى. ربما كان يتعذَّر على «بايدن» أن يُنجزَ الرقصتين معًا دون التعثُّر فى إحداهما؛ لكنّه الآن يقتسمُ المسرح مع كامالا هاريس، ويسهُل أن يترُكَ لها مهمَّة التطمين الناعم لليهود والمسيحانيِّين، وأن يتولَّى استعادة الخراف الشاردة من القطيع. ومن هنا يُمكن النظر لآخر مبادراته البازغة على خطِّ الهُدنة.

بالواقعيَّة الخالصة؛ لن تتحرَّكَ المُفاوضاتُ دون دافعيّةٍ أمريكيَّة، وبالمَنطق فلَنْ تنحو الإدارةُ هذا المسار مع بقيَّة الوسطاء دون تطميناتٍ من الطرفين؛ إذ الغرضُ أن يصلَ القطارُ للمحطة، لا أن يُقِلّ فريقًا ويفرم الآخر، ولا أن يُقيمَ الحجَّة عليهما معًا، حتى لو قال جون كيربى إنَّ مسؤوليّةَ الاتفاق تقع على الجانبين، فيما يُشبه البراءةَ الاستباقيَّة من خُلاصة الجولة المُرتَقَبة. لقد قِيْلَ سابقًا إنَّ ورقة بايدن اقتراحٌ إسرائيلى، وأبدت «حماس» تعاطيًا إيجابيًّا معها. صحيحٌ أنَّ نتنياهو عاد للانقلاب على الفكرة، والمُرشِد الإيرانىّ تحدَّث عَلَنًا ضد التهدئة كما لو أنه يُوجِّه الفصائل؛ لكنَّ مفاعيلَ الخطوتين تآكلت مع استهلاك الوقت دون إنجازٍ فى الميدان أو أُفقٍ للسياسة، وصارت العودةُ للوراء احتمالاً مقبولاً فى المستوى النظرى، أو على الأقلِّ التوقُّف عن الاندفاعة الهَوجاء؛ ولو لقراءة المُستجدَّات وإعادة تقويم الأجندات والتكتيكات.

لم تنقطع المُحاولات طوالَ الشهور الماضية؛ لكنها لم تكن حاسمةً فى صياغتها كما ورد أخيرًا.. والباعثُ أنَّ الوسطاء ربما يستشعرون الجاهزيَّة لاستيلاد الاتِّفاق بعد تملُّصٍ ومُناكفات، أو أنهم ضاقوا ذَرعًا بالمُماطلة وقرَّروا تفعيل مسارٍ بديل. وحضورُ الولايات المُتّحدة فى الصورة قد يُشير لتبدُّلِ حساباتها النفعيَّة، أو لقَلقِها من نُذر الانفلات وتوسُّع الحرب؛ لكنّه فى الحالين يُشير لتعديلٍ فى زاوية الرافعة التى يُعوّل عليها الصهاينة لإبقاء الجبهة مُشتعلةً، أو تمديد نيرانها لبقيَّة الجبهات الرديفة. وقد يفهَمُ نتنياهو من الإشارة أنها مُقدِّمةٌ للتلويح بالخيارات والبدائل المَخفيَّة، ولا تُعبِّر عن الضِّيق ممَّا يحدثُ فى القطاع فقط؛ بل تُلَمِّح لإمكانية سَحب مظلَّة الإسناد السياسىِّ والعسكرى جُزئيًّا، وعدم الانجراف وراء نزوات الإحماء على المحور الإيرانى وأذرعه من لبنان للعراق وسوريا واليمن. صحيحٌ أنَّ الولايات المُتّحدة حشدت أساطيلها فى المنطقة، وأكّدت التزامَها بأمن إسرائيل كما جرت العادة؛ لكن تعريفَها لمسألة الأمن قد ينحصرُ فى ترشيد المُهدِّدات، أو لَعب أدوارٍ دفاعية، وليس بالضرورة أن يتطوَّر لمستوى الهجوم ومُجاراة الأهداف الليكودية الساعية لإطالة النزاع فى الجُغرافيا والزمن، وهذا ممَّا لا يُحقِّق هدفَ استعادة الردع، ولا يضمَنُ القضاءَ على المخاطر وترقية نزعة المُمانعين للتحدِّى وإعادة تحرير قواعد الاشتباك عند أَسقُفٍ وتوازناتٍ جديدة.

فى صفقة «شاليط» قبل ثلاث عشرة سنة؛ كان «السنوار» قائدًا للطاولة لا مُجرَّد أسيرٍ مُحَرَّر. تولَّى شقيقُه محمد تنسيق الاختطاف، وقَصَّ شريطَ التفاوض، ثمّ طَلَبَ أن يُدير «يحيى» الشِّقَّ الفنىَّ للتفاوض داخل السجون. الوضعيَّةُ التى توفَّرت له بعد الأَسْر مَنَحَتْه أهميَّةَ مُضاعفةً. الرجلُ له تاريخٌ أمنىٌّ طويل، وقد أسَّس وحدة «مجد» بنكهةٍ إخوانيّة خالصة قبل سنتين من ولادة حماس، وكانت مهمّتها تَتَبُّع النشاط المُعارض للحركة الإسلامية وتصفية الخُصوم تحت لافتة العمالة، أكانوا عملاء فعلاً أمْ خُصومًا أيديولوجيين فحسب، وعليه فقد حُوكِم بتُهمة قتل أربعةٍ من المُتعاونين، وكانت تلك واحدةً من المُفارقات المضحكة؛ أن يختصمَ الاحتلالُ عنصرًا من المُقاومة فى دماء قَتلَى غَزِّيين، بينما لا تتوقَّفُ آلتُه العسكرية عن استباحتها والولوغ فيها. بالضبط كما جرى مُؤخَّرًا فى الجولان بعد مقتل اثنى عشر طفلاً ومُراهقًا فى قرية «مجدل شمس» الدُّرزيّة، فحملت إسرائيلُ قُمصانَهم طلبًا للثأر، مُتناسيةً تمامًا أنهم بعض ضحاياها الواقعين قهرًا تحت وطأة الاستيطان والعَسكرة التوراتيَّة المُستبدَّة بالجُغرافيا والتاريخ. إنها لُعبة «قميص عثمان» التى أدارها الأُمويّون قديمًا ضد الإمام على، ويستعيرها أحفادُه أو المُنتسبون لهم مَذهبيًّا اليومَ لاختصام الآخرين جميعًا، ويشاركُهم اليهود فيها رغم كراهيّتهم للطرفين وعدم اعترافهم بحقوقهم فى سَرديَّة الأرض المُتنازَع عليها.

قيمةُ السنوار قديمًا دفعت الاحتلال لمُداواته من دائه العضال. نُقِلَ بطائرةٍ حربيَّة من المُعتَقَل لأحد أفخم المُستشفيات وأحدثها، وأُجرِيَت له جِراحةٌ دقيقة لإزالة وَرَمٍ من الدماغ. وأُتِيحَت له فترةُ نقاهةٍ مُرفَّهة، وبعدها وُضِعَت سيارةٌ عسكريّة تحت تصرُّفه ليتنقَّل بين المُعتقلات، ظاهرُ الأمر أن يُديرَ التفاوضَ ويُحدِّد المَشمولين بقائمة المُبادَلة، والجوهر أنّه كان يُوطِّد سُلطتَه، ويُطوِّع الحماسيِّين تحت إمرته، ويساومُ غيرَهم على شروط الخروج وأثمانه. وهكذا غادر أقبيةَ الزنازين والعزل إلى رحاب غزَّة، أقوى وأكثر هيمنةً على مفاصل الحركة ممَّا كان قبل السجن، بل ومن المُقيمين خارجَه؛ ما سمحَ له بدخول المكتب السياسى سريعًا، وفَرض وُلايته الكاملة على كتائب القسَّام، ثمَّ قيادة حماس فى غزَّة بعد ستِّ سنوات، وأخيرًا انتزاع المقعد الأهمّ فيها خلفًا للراحل إسماعيل هنية. باختصار؛ لعبت إسرائيل دورًا مُزدوجًا، تندمُ عليه الآن، فى تمكين عدوِّها الأشرس.

نتنياهو أقبحُ وجوه اليمين فى إسرائيل، وأكثرُهم إخفاقًا فى إدارة وحشيَّته. لقد حرَّض على أوسلو حتى قُتِلَ «رابين» فصعدَ للسُّلطة على جُثَّته بالعام 1996، ولثلاث سنواتٍ فقط قضاها فى الحُكم عَمَلَ على تفريغ الاتفاق من مضمونه، وتحويله إطارًا شكلانيًّا لتطويع حركة التحرُّر الفلسطينية، وإعادة التسلُّط على الضفَّة وغزَّة وفق آليَّاتٍ أمنيّة وعُنفيَّة جديدة. ومنذ تلك المرحلة غابَ عن الحكومات المُتتالية لأقل من سَبع سنوات، وإن لم يكن صاحبَ القرارِ فى بعض الفترات التى حملَ فيها حقيبتى الخارجية والمالية؛ لكنه كان داخل الدولاب وينكشفُ على التفاصيل الدقيقة للعلاقة وتطوُّرات الصراع. حُوصِر عرفات وقُتِلَ تحت ولايةٍ ليكوديّة، وجَرَت الانتخاباتُ فى حقبته المُعارضة لكنه لم يُعارض صعودَ حماس ولا انقلابها على السلطة واختطافها للقطاع؛ بل بادر مع أوَّل عودةٍ للحكومة بالاستثمار فى الانقسام ورعايته. والخلاصةُ؛ أن بعضَ الأخطاء قد تكون ناشئةً فى غيبته النسبية؛ لكنه تكفَّل وحدَه بتضخيمها وتعميق أثرها. وهكذا فإنَّه بالإدارة السياسية والحربية ساعد فى تمكين حماس من القطاع، ومَكَّن السنوار من الحركة عبر التفاوض والصفقات؛ ليصطدمَ فى «الطوفان» وما سبقَه وتلاه بأنه كان يرعى غريمَه المُستقبلىَّ ويُرقِّى قدراته، واليومَ فإنَّ خطايا الماضى وهواجسَه القديمة كلَّها تحكُمُ نظرتَه لجولة الحرب القائمة، واقتراحات الخروج منها بهُدنةٍ مُؤقَّتة أو تسويةٍ دائمة، وهذا طبعًا بجانب بقيَّة أطماعه فيما يخصُّ إطالةَ بقائه فى المشهد، أو التهرُّب من قضايا الفساد واتهامات الإخفاق فى عملية الغلاف.

والمقصود هنا أنَّ حَصرَ رغبته التدميرية فى الحسابات الشخصية عن الانتخابات والمُساءلة قد لا يكون دقيقًا تمامًا. إنه رجلٌ يتطلَّعُ للمُستقبل قَطعًا؛ لكنَّ ماضيه الأسود يُثقِلُ كاهلَه، ولا يخشى فى تلك المعادلة أن يُكرِّر الأخطاءَ السابقة فحسب؛ بل يتعالى على الاعتذار عن خطاياه القديمة بأثرٍ رجعىٍّ، فيما يتَّصل بتصليب عُود «حماس» وترفيع قُدراتها، أو فى الاعتراف بالهشاشة أمام شريكٍ حربىٍّ وتفاوضىٍّ كان أسيرًا له قبل سنوات. والمعنى أنَّ القضية على ضخامتها، والنكبةَ الغزِّية بكلِّ مآسيها وما تشهده من انحطاطٍ الإنسانية والخُلق، قد تضاءلت كثيرًا فى عيون فاعليها المُباشرين لدرجة الخصومة الشخصية، فكأنَّ نتنياهو يختزلُ إسرائيلَ فى شخصه، والسنوار يتطلَّع لغزَّة فلا يرى سوى صورته، وكلاهما يحصرُ النزاعَ فى الآخر. وهنا قد تكون إزاحة الحكومة العبرية ترضيةً مُناسبةً للمُقاوم، وتصفية قائد حماس الجديد نصرًا مُقنعًا للمُحتلّ، أمَّا حاضر الميدان ومُستقبلَه فآخر ما يَرِد على خاطرهما، وبقدر ما تتعقَّد فكرةُ الهُدنة بهذا التصوُّر؛ تزداد فُرَصُ تحقيقها بحساباتٍ براجماتية خالصة، قد يُراهن فيها المُحاصَر على إطاحة المُحاصِر بالصناديق، ويُراهن المُحتلُّ على هَبّة المنكوبين ضد المُقاوِم، أو أن يتسرَّب من مناخات الهدوء لإنجاز مهمَّة التصفية التى تعذَّرت عليه تحت دخان الحرب. إنه تصويبٌ على الذات من زاويةٍ، واختصامٌ للخَصم بأدواته من الأُخرى.

العقبةُ هنا قد تكون المُتنَفَّسَ أيضًا. الهُدنة احتياجٍ لكلِّ الأطراف؛ فزعيمُ الليكود يتطلّع لترضية الأمريكيين لو كان يُريد إسنادَهم تجاه الحزب وإيران، والوسطاءُ العرب غايتهم استنقاذُ الغزِّيين ووقف طاحونة الدم، وحماس يلتصق ظهرُها بالجدار ولا بديلَ عن التقاط الأنفاس. قال البيت الأبيض إنَّ بايدن لن يسمح للمُتطرِّفين من الجانبين بحَرف التفاوض، والمعنى أنه يُحفِّز نتنياهو على تجاوز حُلفائه التوراتيِّين، لا سيِّما مع إجازة الكنيست واستحالة إسقاط الائتلاف حاليًا. لقد قَصَّر الرئيسُ الأمريكىُّ فى توظيف ورقة انسحابه من الرئاسة لصالح التهدئة، ويبدو أنه يُحاول التعويض؛ لكن لديه خيارًا آخر قد يُزعج «بيبى» لو قرَّر التحدُّث للإسرائيليين مباشرة، كما فعل هو أمام الكونجرس. كانت صفقة 2011 عربونَ محبّة من تل أبيب للأُصوليّة المُتمدِّدة فى المنطقة وقتها، وقد بدا أنَّ الإخوان يصعدون فى مصر، ويقتربون من الحسم فى تونس وليبيا وسوريا واليمن، لهذا نشطت المُؤسَّسات المصرية الصلبة فى الوساطة لتحييد التقارُب المشبوه، وإذا كان السياق اليوم لا يحمل المُغريات القديمة؛ فامتصاصُ السخونة الصاعدة مع المحور الشيعىِّ تُمثِّل سببًا كافيًا لنزع الفتيل.. واشنطن تُريد ربط الساحات لكَبحها دفعةً واحدة، ونتنياهو يتمسَّك بتجميعها؛ لكنه قد يقبلُ الهُدنة جنوبًا ليتفرَّغ شمالاً، ثمَّ ينتظر انفعال «حماس» لصالح حلفائها فيعود لتجديد الحرب؛ بينما تنشطُ كلُّ الأطراف لتقليص الردِّ الإيرانى أو تقسيطه. كلُّ المُقدِّمات تُرجِّح إمكانية التهدئة، رغم أنه لا ضمانة قاطعة؛ لكنها الفرصة التى تتأتَّى من منطق أن الحروب تستعرُ لآخرها حتمًا قبل أن تتَّجه للتهدئة بالضرورة.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة