على الرغم من كون القنبلتين النوويتين، التي ألقتهما الولايات المتحدة على مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين، بمثابة الكارثة الإنسانية الأكبر، على مدار عقود طويلة من الزمن، إلا أنهما كانتا بمثابة ختاما لحقبة الحرب العالمية الثانية، باعتبارهما نقطة الحسم لأحد أكثر المعارك الدموية، في التاريخ الإنساني، حيث أنقذت الحلفاء، بقيادة واشنطن من هزيمة مدوية، على يد دول المحور، وهو الأمر الذي ربما سعى النظام الدولي، منذ الأربعينات من القرن الماضي، إلى تفاديه، عبر العديد من الإجراءات، من بينها إبرام معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، ومعاهدة حظر الأسلحة النووية، وغيرها، وهو الأمر الذي ربما ساهم في احتواء مخاوف كبيرة انتشرت حول العالم، حول احتمالات استخدام السلاح النووي مجددا لحسم الصراعات.
إلا أن ثمة قضايا مازالت عالقة في هذا الإطار، ربما أبرزها العجز الدولي، عن إخلاء دولا معينة، مما تمتلكه من السلاح النووي، بالإضافة إلى تغافلها عن دول أخرى، في إطار من الازدواجية، وهو ما يثير مخاوف كبيرة، خلال لحظات احتدام الصراع، وهو الأمر الذي ينطبق بصورة أو بأخرى، على المشهد الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، في ضوء امتلاك إسرائيل للسلاح النووي، بل وتلويح شخصيات بارزة في السياسة العبرية، بإمكانية استخدامه، في قطاع غزة، خلال مراحل معينة من العدوان الحالي، وهو ما يعكس، حال المقارنة بالحالة التاريخية المذكورة، أن الخيار النووي يبدو متاحا وليس مستبعدا تماما، سواء في غزة، أو ربما حال الذهاب إلى ما هو أبعد من القطاع، في ضوء مواجهة محتملة مع إيران، والتي تلاحقها هي الأخرى شبهات حول برنامجها النووي، وهو ما يعني أن المواجهة، إن اكتملت، تضع العالم في مأزق خطير للغاية.
والمتابعة الدقيقة لسير العدوان على قطاع غزة، تدفع نحو استخلاص حالة من التصعيد التدريجي، بدأت في السابع من أكتوبر، مع اندلاع طوفان الأقصى، لتبدأ بعدها عملية عسكرية إسرائيلية على غزة، ثم تمتد جغرافيا نحو سوريا ولبنان، ومنهما إلى اليمن، بينما شهدت اتساعا في دائرة الاستعداء، من مجرد المواجهة مع الفصائل الفلسطينية إلى مواجهات مع فصائل أخرى، كحزب الله، والحوثيين، ثم شهدت توسعا آخر بإدخال إيران في دائرة الصراع، عبر اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية على أراضيها في انتهاك صريح لسيادة طهران، وهو ما أسفر عن تهديدات إيرانية برد انتقامي على تل أبيب.
التصعيد الإسرائيلي، في إطار توسيع دائرة العداء، يهدف بما لا يدع مجالا للشك إلى استقطاب القوى الموالية لها، من دول المعسكر الغربي، والحصول على دعمها مجددا، بعدما تراجعت بصورة كبيرة عن تقديم الدعم المطلق وغير المشروط لتل أبيب، خلال الأشهر الماضية، على خلفية انتهاكاتها المتفاقمة في قطاع غزة، بينما يمثل انعكاسا صريحا لحقيقة مفادها أن الحليف الأكبر لإسرائيل، وهو الولايات المتحدة، لم يعد قادرا على ضمان الانتصار لها، عبر إمدادها بالسلاح والعتاد، أو حتى عبر الدخول المباشر في الصراع، على غرار ما كان يحدث في الماضي، وهو الأمر الذي خلق قدرا من التكافؤ في المعركة، ويمثل عاملا تحفيزيا لاحتدام المواجهة، وبالتالي مزيدا من الاشتعال الإقليمي.
استمرار الصراع، في إطار حالة التصعيد والتصعيد المضاد، من شأنه انكشاف النظام الدولي في صورته الحالية، حيث يساهم بصورة كبيرة في إظهار حالة العجز الأمريكي، عن تقديم الحماية للحليف الأقرب لها، وهو ما يعكس جوهر الخلاف مع بين واشنطن وتل أبيب، حول إدارة المعركة الحالية، فالأمر لا يرتبط بأوضاع إنسانية أو تداعيات العدوان الكارثية، بقدر ما يرتبط بمكانة الولايات المتحدة، سواء في علاقاتها مع حلفائها، فيما يتعلق بعدم قدرتها على فرض رؤيتها عليهم، من جانب، أو إدارتها للصراعات الدولية، والتي تمثل جوهر الدور الذي ينبغي عليها القيام به، إذا ما أرادت الاستمرار في قيادة العالم.
وفي الواقع، يبدو أن احتواء التصعيد هو بمثابة ضرورة ملحة في اللحظة الراهنة، ليس فقط لحماية المنطقة، وإنما لحماية العالم، من تداعيات كبيرة، وغير محسوبة حال استمراره، فالمنطقة في مواجهة حرب تتسع يوما فيوما، وربما تصل إلى حالة من الانفلات، وأوروبا تخشى جراء امتداد تأثير الصراع على مناطقها الجغرافية، خاصة مع استمرار الحرب في أوكرانيا، والتي قد تتأثر بصورة أو بأخرى، بما قد يضعه أطراف الحرب في الشرق الأوسط من سنن حمقاء، في حين أن واشنطن هي الأخرى، على أعتاب مزيد من الخسائر، في ضوء تهديد مكانتها الدولية، ليس من قبل خصومها، وإنما على يد الحليف الذي طالما دافعت عنه لعقود، إلى الحد الذي جعل حمايته وتحريك الأساطيل من أجله بمثابة أحد أهم الثوابت التي تعتمدها واشنطن في سياساتها الخارجية.
ولعل الحديث عن العلاقة الأمريكية الإسرائيلية، ربما تبقى محل جدل كبير، في ضوء تحفظات واشنطن وامتعاض تل أبيب، إلى الحد الذي وضع الولايات المتحدة نفسها، محلا لاستهداف نتنياهو، وهو ما بدا في خطابه أمام الكونجرس في ظل مقاطعة الديمقراطيين له، مما يعكس محاولة لإثارة مزيد من الانقسام في الداخل الأمريكي في لحظة تبدو غاية في الحساسية، مع اقتراب الانتخابات الأمريكية، والتي تحظى بزخم استثنائي في ظل الظروف المحيطة بها، وهو ما يعني أن ثمة بعدا داخليا آخر لاستهداف أمريكا من قبل الحليف المدلل في الشرق الأوسط.
وهنا يمكننا القول بأن أمريكا، رغم كونها الظهير الأقوى الداعم لإسرائيل، تبدو محلا لاستهداف نتنياهو، سواء عبر تهديد مكانتها الدولية، من خلال استمرار التصعيد في منطقة الشرق الأوسط، وتوسيع دائرة الخصوم، أو حتى استهدافها داخليا عبر تحريك اللوبي الموالي لها لإثارة المزيد من الانقسامات قبل انطلاق الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر المقبلة، وهو ما يعكس خطورة السلوك الإسرائيلي، والذي بات لا يمثل تهديدا فقط لخصومها او أعدائها، وإنما امتد نحو حلفائها الأقرب، وداعميها الأكبر عبر التاريخ، في الغرب، سواء في أوروبا او الولايات المتحدة.