حازم حسين

ذهبية الجندى وصفيح الآخرين.. نظرة لحالنا فى الأولمبياد خارج جدليات الوَصْم والإنكار

الإثنين، 12 أغسطس 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

عندما صعدَ أحمد الجندى وسارة سمير إلى منصَّتى التتويج فى اليوم قبل الأخير لأولمبياد باريس 2024، تركَا من خلفهما مُنافسين من عشرات الجنسيات يبتلعون مرارةَ الإخفاق، أو بالأحرى عدمَ التوفيق فى اقتناص الحُلم، بالضبط كما تُرِكَ كثيرون من لاعبينا وراء منصَّاتٍ اعتلاها آخرون. هكذا طبيعةُ الرياضة، يجتهد فيها الجميعُ ولا يربح سوى قليلين، ولهذا كانت المُنافسة. ومع التسليم بأنَّ الخسارةَ واردةٌ دومًا؛ فإنَّ مناط التقييم يحتكمُ للجدّية والاجتهاد وأخذ الأمور بحقِّها، وعلى الرياضيين السعى دائمًا؛ إنما ليس عليهم إدراكُ النجاح حتمًا.


كانت الفكرةُ من منافسات الرياضة فى الغالب أن تصير تعويضًا عن النزاعات الخَشِنة، ووسيلةً لتنعيم الحروب والمُواجهات العُنفيّة بين الدول والأفراد. وخلال السبعينيات لعبت «دبلوماسية البينج بونج» دورًا فى تصفية الأجواء بين الولايات المُتّحدة والصين، وفتحت بابًا عريضًا لتسوية الخلافات القديمة ورواسبها، ما أفضى للاعتراف بسُلطة بكين واستعادة مقعدها فى المنظمة الأُمَمية، وتحسين العلاقة التى كانت مُتعثِّرة مع واشنطن. وبينما يبدو فى بعض الجوانب أنَّ الملاعب حقَّقت غايتَها المقصودة؛ فالواضح أنها لم تَصْفُ تمامًا من تأثيرات السياسة. لقد استُبعِدَت روسيا من الأولمبياد ثأرًا من مُغامرتها فى أوكرانيا؛ لكنَّ إسرائيل حضرت لباريس فوق تلِّ من جُثَث الفلسطينيين دون عقابٍ أو عتاب. وأوضح ما تتجلَّى فيه بقايا البدائية التى لم تُرشِّدها الحروبُ السِّلميّة المُهندَسَة رياضيًّا، الخصوماتُ المُعلَّقة بين أصابع الجمهور وفى حناجرهم، والمُناكفات الحاضرة بين المُشجِّعين بحسب رُؤاهم الأيديولوجية ومشاعرهم الوطنية. لقد شَهدت بطولةُ أوروبا الأخيرة لكُرة القدم فى ألمانيا هتافاتٍ عدوانيَّةً بين بعض بلدان الجانب الشرقى من القارة، وعُوقِبَ لاعبٌ تركىٌّ لرفعِه شعارَ مُنظَّمة يُصنِّفها البلدُ المُضيف إرهابيّةً، ولم تختلفْ الحالُ كثيرًا فى عاصمة النور منذ الافتتاح حتى الختام.


شَهِدت أولمبياد باريس جدلاً مُبكِّرًا بشأن طقوس الإطلاق، وبعض فقرات الحفل الافتتاحى. أخطأت فرنسا أو أصابت؛ لكنَّ المشهدَ اتَّخذ طابعًا ثقافيًّا وعقائديًّا يتجاوز فلسفة الرياضة فى التقريب بين الشعوب. وكذلك تفاصيل أخرى ذات طابعٍ هُوياتىٍّ وأخلاقىِّ وجِنْدَرى، كما فى تَرصُّد لاعبة الملاكمة الجزائرية والتشنيع عليها بأنها مُتحوِّلة جنسيًّا، أو اختصام فرنسا لأنها منعت لاعباتٍ مُحجِّبات من تمثيلها، أو تجسُّد النزاعات العرقية وخصومات الماضى فى لقاءات بعض الدول على بساط الرياضة. ومن هذا النوع كانت المُزايدات العاطفية على المُحتفلين بإنجازاتهم بينما يُعانى الغزِّيون، أو نشاط المُناوئين لبعض أنظمة الحُكم من بوَّابة البطولة ونتائجها، وترقية بلدٍ فوق آخر للمُكايدة أو الهجاء والتعريض، أو لتوظيف الرياضى فى السياسى بغَرَض الابتزاز والشَّحن وتأجيج العواطف. صحيحٌ أنَّ بعض الغضب كان انفعالاً طبيعيًّا، والكثير منه مفهومٌ ومقبول؛ لكنَّ حصَّةً غير قليلة بَدَت مصنوعةً ومُوجَّهةً لأغراضٍ دعائيَّة غير مُحايدة ولا نظيفة.


الأحداثُ العامَّة بطبيعتها منصَّةٌ صالحةٌ للاستغلال والتحريف؛ لكنها حتى مع هذا السلوك المُعتاد يجب أن تحتكِمَ لقَدرٍ من المنطق. وفارقٌ كبير بين الغضب لبلدك والغضب عليه، وبين طلب الشفافية والمُساءلة، وأن يكون الأمرُ تصويبًا عشوائيًّا للذَّمِّ والإيلام فحسب. والحال أنّه منذ اللحظة الأُولى لانطلاق الأولمبياد عَجَّت منصَّاتُ التواصل بمواقف ساخنةٍ، استبقت المُنافسات والنتائج، ومهَّدت طريقَ البعثة المصرية بالسخرية والتسخيف. لعلَّها «ديمقراطيّةُ الحَمقى» التى تحدَّث عنها الروائى والفيلسوف الإيطالى أمبرتو إيكو، وقد صار بإمكان كلِّ فردٍ أن يقول ما شاء، وعند أطراف أصابعه منبرٌ إعلامىٌّ دون قواعد أو معايير أو حُرَّاس بوَّابات، ودون حدودٍ فى الوصول، واستثارة الآخرين، وتوجيههم بسيكولوجية القطيع ومنطق كُرَة الثلج. مفهومٌ أنْ يستاء مواطنٌ مصرىٌّ من نتائج بعض اللاعبين تحت عَلَمِ دولته؛ لكنَّ الغريب أن يكون الاستياءُ مُوجَّهًا للدولة نفسها، لا للاعب أو اتحاده أو البعثة أو اللجنة الأولمبية بكاملها. لقد كان الخطابُ منذ اللحظة الافتتاحيّة مُتطرِّفًا لجِهَة التعريض والحطِّ من المكانة، و«تكسير المجاديف» بدلاً من التشجيع، ثمَّ الانتظار عند منصَّة التتويج للرقص على إيقاع عدم التوفيق، وتعاظمت الفجاجةُ عندما حقَّق عدَّةُ لاعبين ميدالياتٍ فى البطولة، فصَمَتَ كثيرون، وهلَّل أكثرُ منهم لفائزين من دُوَلٍ أُخرى.


لا أُحبُّ نغمةَ الأَخوَنة فى كلِّ التفاصيل؛ ولو نَشَطَتْ حساباتُ الجماعات الإرهابية ولجانها فى الحملة المُضادَّة للبعثة المصرية مُبكِّرًا. المُؤكَّد أنَّ قطاعاتٍ واسعةً يشعرون بضِيقٍ من النتائج، ولديهم غَضبةٌ حقيقيَّة مُحِبَّة ومُخلصة؛ إنما لا يُمكن القفز على حقيقة الاستدراج العاطفى، وجاذبية الخطابات اللاذعة، وأنَّ كثيرين من مُستخدمى المواقع الاجتماعية لا ينخرطون فى عملية التواصل اليومية بمواقفَ وانحيازاتٍ مُسبَقَة، بل يُستَدرَجُون عاطفيًّا، وتتدفَّقُ فوائضُ طاقاتهم بحسب اتّجاه الموجة الهادرة، وبعضها مصنوع. والأغلبيةُ منهم لا يهتمّون بالأولمبياد، ولا يعرفون كثيرًا عن تاريخها وألعابها ونظامها التنافسى، ولا عن لاعبينا وسِيَرهِم الرياضيَّة ومُستوياتهم وسوابق نتائجهم. إنها لوثةٌ أشبَهُ بزَفَّةٍ فى حَىٍّ شعبىٍّ، قليلون من أهل العروسين والمَعنيِّين بالمُناسبة أو الوافدين عليها بالقَصد والاختيار، وكثيرون ممَّن يرقصون عَرَضًا مع الراقصين؛ ويظلُّ هذا من حقوقهم المُطلَقَة فى كلِّ الأحوال، لكنه يحتملُ النقدَ سعيًا للفهم، وإفساحًا لأُفق النظرة واستيعاب حقائق الصورة.


تحتضنُ الأولمبياد قرابة 11 ألف لاعب من أنحاء الأرض، يُمثِّلون صفوةَ الرياضيِّين فى دُوَلهم ورياضاتهم. ومنطقُ الأمور أنَّ السباق غرضه المُفاضلة والانتقاء؛ لكنّه الترتيب بين مُحترفين مُتميِّزين، لا بين هُواة ومحدودى القدرات. البعض قد لا يستوعبون فكرةَ «بطولة الأبطال»، ومعنى أن يكون حدثٌ رياضىٌّ بمثابة مُنتدىً لأرقى العناصر، حتى أنَّ مُجرَّد الوصول إليه يُعَدُّ تتويجًا فى حدِّ ذاته؛ ولعلَّ آخرين يُحرِّكهم شعورٌ بالنقص وعدم التحقُّق، أو مَظلوميّةٌ كامنةٌ فى صُدورهم؛ سواء كانت حقيقيَّةً أو مُفتَعَلَة، ويتسلَّطُ عليهم هاجسٌ بشأن العدالة وتكافؤ الفرص؛ رغم أنهم ليسوا مُمارسين لتلك الرياضات ولا مُتنافسين على تمثيلها فى الأولمبياد، وهكذا يتداخلُ الشخصىُّ مع العام خارج المنطق والفَهم السليم، وقد يُفرِّغُ شابٌّ طاقةَ غيظه من مُديره القاسى، أو إحباطَه من واقعِه الرتيب، فى لاعبةٍ أو لاعبٍ اعتبرهما تمثيلاً مَعكوسًا لإخفاقاته الذاتيّة، فكأنّه يستهجنُ نجاحَهم ترضيةً لنفسه، أو يُحقِّق التعويضَ المعنوىَّ من زاوية أنهم تَوافَر لهم ما لم يُتَح له، وعليه فإنّه يختصمُهم فى السياق العام لا فى الحدث الخاص، وفى الظروف الشكلانيّة لا فى جوهر اللعبة وطبيعة المُنافسة.


لم تَخْلُ المواكبةُ «السوشياليّة» للأولمبياد من استشرافاتٍ انتحاليّة مُبكِّرة ومُفتئتة على شرط الزمن، كثَّفَ فيها المُنتقدون مواقفَهم السلبية فى أحاديث الفشل والإخفاق، وكان أغلبُها على معنى التمنِّى لا النبوءة. قراءةُ الطالع فى الرياضة تتطلَّبُ معرفةً عميقة باللعبة وقوانينها، وقائمة المُتنافسين، وشَكل برنامج الإعداد ومستوى اللاعبين المصريين، وكلها لم تكُن حاضرةً لدى الذين قَصُّوا شريطَ التعريض والسخرية قبل انطلاق المنافسات أصلاً.. وفى هذا السلوك تَتَّخِذُ المُقارباتُ طَابعًا كاريكاتوريًّا، يحتفى بالتضخيم والساركزم وثقافة الميمز. هكذا راجَتْ منشوراتٌ عن لاعبة تجديفٍ تاهت فى المضمار، وعن غطَّاسةٍ أنقذوها قبل الغرق، ولمَّا تبيَّن أنها شائعاتٌ لم يعتَذِر مُروِّجوها أو يتوقَّفوا عن التعقيب بالطريقة نفسها؛ لأنَّ الغرضَ النَّيْل من المَكانة أو اصطناع الكوميديا، وليس نقلَ الأخبار أو البحث عن الحقائق والخُلاصات. بالضبط كما جرى فى واقعة المصارع كيشو، وقد تداول عشراتُ الآلاف منشورات توقيفه بتُهمة التحرُّش بفتاةٍ خارج القرية الأُولمبيّة، وعندما أسقطَ الادِّعاء الفرنسى قائمة الاتهامات وتبيَّنت براءتُه لم يعتَذِر المُبادرون بالوَصْم والتشويه عن فعلتِهم، وأشدُّهم حياءً اكتفى بحذف المنشور دون انقطاعٍ عن الُتِمَاس هدفٍ جديد للتصويب. وقبل ذلك كان النَّهشُ فى لاعبة السلاح ندى حافظ لأنها فى شهور الحَمْل، رغم تحقيقها أداءً جيِّدًا فى بعض المُباريات، وحقيقة أنَّ القواعد الأولمبية ومَأمونيَّة اللعبة لا يمنعان الاشتراك لِمَن فى حالتها، وشهدت الأولمبيادُ عشرات الحالات للاعباتٍ حَوامِل. وكذلك استهدافُ مُراهقةٍ صغيرة، كلاعبةِ القَوس والسَّهْم جَنَى على؛ لأنها حقَّقت الترتيب 63 بين 64 مُتنافسًا، مُتناسين حقيقة أننا نتحدَّث عن ترتيبِ الأفضل فى العالم لا فى شارعهم القريب، وأنَّ المُشاركات تكونُ أحيانًا لإعداد البطل الأُولمبى وتجهيزه، وإكسابه حساسيّةَ المُنافسة وكَسْر رهبته للأحداث الكُبرى، وليست لاقتناص الميداليات فقط كما لو كُنَّا نُنافس أنفُسنَا وليس لدى الآخرين ما يتطلَّعون إليه أيضًا. وقد تُوِّجَ ثلاثةٌ فقط، ولا أحسبُ أنَّ الستّين الباقين تعرَّضوا فى بلدانهم لمثل ما أصاب لاعبتنا الصغيرة من ذئاب الشاشات الزرقاء.


كلُّ ما فات لا ينفى أنَّ الأداءَ العام لم يكُن مِثاليًّا، وأنَّ كثيرًا من سلوكيّات الاتحادات والقائمين على البعثة شابها قصورٌ وهفوات واضحة، تستوجِبُ المُراجعة والتقييم والمُساءلة وفق القواعد الإجرائية والقانونية. وقد قال وزيرُ الرياضة قبل أيَّامٍ إنَّ المجالَ مفتوحٌ لمُحاسبة كلِّ المُقصِّرين والمُخطئين، ما يعنى أنّه بصفته الاعتبارية غير راضٍ عن الصورة العامة، وأنَّ مُلاحظات جهة الإدارة ربما تتقاطعُ فى قليلٍ أو كثير مع عامَّة الجمهور؛ لكنَّ الفارق شاسعٌ بين البحث فى الأسباب مَشفوعًا بتَلَمُّس المسؤولين الفعليِّين، والعمل على مُداواة العِلَل وسَدِّ الثغرات، وأن يكون النقدُ بغرضِ الشماتة والنقض وإهالة التُّراب دون منطقٍ أو وعى؛ كما لو أنَّ المَقصود ذَبح الجميع وإبقاء المشكلة على حالها، بينما القصدُ من أيَّة رقابةٍ، سابقة أو لاحقة، أن نعودَ من الطُّرق الخاطئة، لا أن نمضى فيها بلوثةِ العاطفة وتغييب العقل، وأن يكون الحسابُ للتصحيح لا لتعليق المشانق.. والظاهرُ من ممارسات كثيرين أنهم يتطلَّعون لدَمْغ المنظومة بالفشل؛ بأكثر ممَّا يتقصَّدون الوقوفَ الدقيقَ على حالتها والعمل الجاد لتصحيح مسارها.


أحرزتْ مصرُ ثلاثَ ميدالياتٍ حتى اليوم قبل الأخير للأولمبياد، والواقع أنَّ هذا يقعُ فى نطاق المُتوسِّط العام المُرتفع لمُستوانا الأُولمبى، ويفوق كثيرًا ما حقَّقناه فى دوراتٍ عديدة سابقة. صحيحٌ أنَّ التقييم يرتبطُ بعدَّةِ اعتباراتٍ، منها حجمُ البعثة وقَدرُ الإنفاق، والأهمُّ طبيعة الجهد ومنطقيَّة الإخفاق؛ لكنَّ كلَّ هذه التفاصيل تقع فى حيِّز البحث عن التجويد لا العقاب على الفشل. نحوزُ اليوم 41 ميداليةً مُتنوِّعة كحصيلةٍ إجماليّة لمُشاركاتنا، منذ المحاولة الأولى فى دورة ستوكهولم 1912. لم نُشارك فى أربعٍ من 27 نسخة خلال أكثر من قرنٍ، ولم نُحرز أيَّة ميدالية فى تسع بطولات، وكانت أعلى أرقامنا «طوكيو 2020» بستِّ ميداليات، تليها برلين 1936 ولندن 1948 وآثينا 2004 بخمسة، ثمَّ أمستردام 1928 بأربع ميداليات، ومعها لندن 2012 التى أنهيناها بميداليتين فقط، ثم أُضِيفَت لنا اثنتان أُخريان بعد سنوات؛ لاستبعاد بعض الفائزين بسبب المُنشِّطات، وهكذا عُدِّلَ ترتيبُنا العام من 58 إلى 55، وكان 72 فى دورة «ريو دى جانيرو 2016» بثلاث ميداليات، و54 فى نسخة طوكيو الأبرز؛ لكننا للمُفارقة صرنا اليومَ فى المركز الخمسين، ما يعنى أننا تقدّمنا ولم نتراجع. ربما يكونُ تقدُّمًا ضئيلاً، وأقلَّ من طموحاتنا وممَّا نستحقُّ فعلاً؛ لكنّه فى النهاية ليس انتكاسةً ولا انحدارًا على الصورة التى يُروِّجها البعض، والدورةُ الحالية فى أسوأ الظروف تقعُ ضمن أفضل خمسِ أو ستِّ مُشاركاتٍ مصرية فى الأولمبياد.


ثمَّة مُغالطةٌ تُساقُ هُنا من جانب تيَّارٍ عريض، مَفادُها أنَّ الميداليات المُتحقِّقة ثمراتٌ للجهد الفردى، أمَّا الإخفاقاتُ فإنها حظُّ المنظومة والدولة بكاملها. والواقع أنَّ الجندى فى الخماسى الحديث، أو سارة فى رفع الأثقال، ومحمد السيد فى سلاح المُبارزة؛ كلُّهم نتاج المنظومة نفسها، ولا يتحرَّكون فى المجال الرياضى بمعزلٍ عن الاتحادات والرعايات وبرامج الإعداد والتأهيل. يُمكن أن نتحدَّث عن هشاشةٍ لم تسمح بإنتاج نماذج شبيهة؛ لكنَّ الآلية لو كانت مُعطَّلةً تمامًا ما خرجَ الثلاثةُ أصلاً. والمنطق الذى يتوخَّى الإصلاح يجبُ أن ينطلقَ من الجيِّد والسيِّئ معًا؛ لنرى أفضلَ ما فى تجارب الناجحين فنعتمده ونُكرِّره، وأسوأ ما فى تجارب الآخرين فنفرزه ونستبعده. ولا يمنعُ امتداحُ المُجيد من انتقاد المُسىء، ولا مُحاسبة المُقصِّر من مُكافأة المُجتهد؛ وما دونَ ذلك عوارٌ فى الفَهم وعَوَرٌ فى البصر؛ إذ ينظرُ للمشهد المُركَّب بعينٍ مُنحازةٍ كليلة، ومن زاوية واحدة ضيِّقة.


يقتضى الاتِّساقُ القولَ إنَّ مَواقفَ بعض المسؤولين كانت أقلَّ من واجبات المسؤولية. بدا ذلك بوضوحٍ فى بيان أحد الاتحادات عن استبعاد لاعبةٍ لزيادة وزنها بأثر الدورة الشهرية، وتصريحِ آخر فى واقعة احتجاز لاعب المُصارعة، واستخفاف غيرهما بتردِّى النتائج وردودِ فِعل الجمهور. الأزمةُ أنَّ المنطقَ شِبهُ غائبٍ عن بعض الأمور، فإذا كانت الخسارة من طبائع الرياضة؛ فإنَّ مقدار الاهتزاز يجبُ أن يتناسب مع حجم الإعداد وسوابق النتائج. ومنتخبُ الكُرة مثلاً تفوَّق على إسبانيا وباراجوى، وكان عقبةً مُزعجة للفرنسيين، لكنه خسر بسهولةٍ ونصفِ دستة أهدافٍ أمام المغرب، كما أنَّ بعض اللاعبين كأنهم ذهبوا بدون استحقاق، مثل «كيشو» الذى غادرَ المُنافسة لعدم التكافؤ بعد هزيمةٍ مُذِلّة. يشعرُ المُتابع أحيانًا أننا نستهلكُ السنوات الأربع بين الدورات الأولمبية بخِفَّةٍ واستخفاف؛ فنذهبُ فى كلِّ مرَّةٍ بذاكرةٍ بيضاء، كما لو أننا نتفاجأ بالبطولة وموعدها. والمعنى أنَّ المشروعَ الأُولمبىَّ من حيث كونه صناعةً ثقيلةً ومُستمرَّةً طوال الوقت، يبدو غائبًا عن نظر اللجنة الأولمبية، وعن برامج الاتحادات ومسؤوليها.


المنطقُ فيما فات لا يُغنى عن إثارة الأسئلة المُوجِعة. فالانفعالاتُ الجماهيريَّة على المنصَّات تكشفُ عن عدوانيَّة هائجة، أو عن نزعةٍ مازوخيَّة تتَّخذ صورة النيران الصديقة؛ كأنهم يقتصّون من أنفسهم بالتصويب على المجال العام بكلِّ مُكوِّناته، ويسعون لنَفى الجدِّية والاستحقاق بكلِّ السُّبل والوسائل. لقد أهانوا عشرات اللاعبين المصريين لإخفاقاتٍ عاديّة تكرَّرت مئات المرَّات مع بعثاتٍ أُخرى، وما احتضنوا الناجحين بالقدر الواجب أو المُتناسب مع إنجازهم. أدانوا كل الخاسرين ولو أحسنوا الأداء، وهَلَّلوا مثلاً للاعبةِ الجزائرية إيمان خُليف عندما اقتنصت ذهبيّةَ المُلاكمة، وإذا حسبنا الأُولى على الغيظ الوطنى الحميد، والثانية على التعطُّش لشعورِ التحقُّق والانتصار ولو بالاصطفاف وراء بلدٍ مُجاور؛ فلا نفهمُ لماذا لم يكُن الاحتفاء بذهبيَّة الجندى مُماثلاً فى الزَّخْم والحرارة، ولا فِضّية سارة سمير التى تُلخِّص كلَّ صُوَرٍ المرأة المصرية المُكافحة وعظيمة العزيمة والبأس. لو صحَّتْ النوايا المُتجرِّدة فسنمدحُ الناجحَ بقَدرِ ما نهجو الفاشلين؛ لكنَّ المُؤسِفَ أننا بدلاً من هذا المنطق البسيط، مُضطرُّون للسؤال عن لماذا لا يفرحُ المصريِّون لشريكهم فى الجنسية والهويّة والأرض والتاريخ مثلما يفرحون لجنسيَّاتٍ أُخرى، بعضُهم لا يُشاطروننا الأفراحَ فى انتصاراتنا؛ بل ربما يفعلون عكسَ السَّوِيّة الطبيعية فى المُبهجِات والمُبكيات على السواء.


يجبُ ألَّا تأخذُنا نشوةُ الميدالياتِ الثلاث عن فضيلة المُراجعة؛ كما لا يصحُّ إطلاقًا أن يسوقَنا الغضبُ لنظلِمَ الفائزين أو نُقصِّر فى تكريمهم.. ذهبيّة الجندى لن تعمى العيون عن صفيح الآخرين؛ أكانوا مسؤولين أم أفرادًا عاديين.. كثيرٌ من الاتحادات تتوجَّب مُساءلتُها، وتفعيل كلِّ الأدوات بما لا يرخى عليها مظلَّةَ الحماية الأُولمبيَّة من الإخضاع لسُلطة الدولة وأجهزتها الرقابية والقانونية، كما يتعيُّن تجديد الرؤية وآليّات عمل المنظومة الرياضية بكاملها، وتحديث المشروع الأولمبى المصرى، أو استحداثه إن لم يكُن موجودًا على الوجه الذى يجعله مشروعًا حقيقيًّا، وعلى بصيرةٍ من الوعى والعلم وأحدث ما توصَّل إليه العالم فى عُلوم الإدارة والتأهيل. والأهم من كلِّ هذا أن نُنشِّط مراكز البحوث الاجتماعية وعُلماء النفس؛ لنعرف لماذا ينفصل بعض أبنائنا عن الشواغل العامة، أو يسيرون أحيانًا فى اتجاهاتٍ مُضادّة لها، ولماذا يُساقُ الناس على المنصَّات الرقمية بتلك السهولة والفجاجة. الشخصيّةُ المصرية تحتاجُ لترميمٍ شامل، ولعلّ هذا ممَّا يُوجِبُ تطويرَ فلسفة «بناء الإنسان» التى تضعُها الحكومة ضمنَ برنامجها، ويُشدِّد عليها الرئيس دومًا، مع إعادة تكوينها على صورةٍ أعمق وأكثر انضباطًا بحقائق الواقع وخُلاصات البحث الحصيف، وبالمُستهدفات المنطقية المُدقَّقة. يقعُ الأمرُ فى نطاقات التعليم والثقافة والإعلام والخطاب الدينى، وفى إعادة بناء الثقة بين الدولة والشارع، والتصدِّى المُعَجَّل والجاد لخطابات الاستهداف والتوجيه من الداخل والخارج. المسألةُ ليست دورةً أولمبيّةً وعدَّة ميدالياتٍ حاضرة أو ضائعة، ولا فى حديث الحجم والكُلفة؛ بل تُفصِحُ عن جوانب أشدّ أهميّةً واستعجالاً فيما يخصُّ الهويّة، والمُشتركات الجامعة، وفرز الغاضبين بمحبّةٍ عن الشامتين بكراهيةٍ ونوايا سياسية سوداء. مبروك للناجحين من أبنائنا الأبطال، وأهلاً بالمواعيد الإلزامية مع مواسم التقييم والتقويم والمُساءلة والحساب.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة