الدخول إلى الأردن لا يحتاج إلى تأشيرة، وهو شيء بالنسبة لي عظيم ومُعتبر. على غير عادتي ذهبت إلى مطار القاهرة قبل إقلاع الطائرة بأربعة ساعات، فتأخرت الرحلة نحو أكثر من الساعة وأنا أنتظر المغادرة إلى مدينة لست فيها عابرة ولا مقيمة، وربما لست أحدًا مهمًا بالنسبة للكثيرين.. من السخف أن أبادر بالحديث عن نفسي أمام سيل الأخبار عن هؤلاء الذين يقفون على خط النار بالقرب من عمان وحضورهم أقوى من شمس أغسطس.
اقتربنا من الدخول في الأجواء الأردنية، والأجواء السياسية في العالم كله "مكهربة"، أما الأجواء الطبيعية فكانت هي الأخرى شديدة الحرارة والسخونة والقلق، لولا مجموعة من الطُلاب الأردنيين العائدين إلى بيوتهم بعد إنتهاء الموسم الدراسي، حيث يدرسون في بعض الجامعات المصرية، هؤلاء الطُلاب صنعوا حالة من الطمأنينة بسخرية إبتكروها من كل شيء، حالة كانت كفيلة بأن تُنهي أي تشوش أو اضطراب وتجعل الهواجس مجرد غمامة صيف، لكنها ليست كذلك؛ فجمعينا مُعلق بسؤال الحرب والمستقبل، سؤال الساعة الذي لم ينج منه هؤلاء الطُلاب، السؤال المرتبط بمصائرهم وأحلامهم وأحلام أهاليهم الذين استثمروا فيهم "تحويشة العمر"، مالًا وجهدًا ورعاية، أليس مُلفتًا أن ينشغل بال الجيل الجديد بالسخرية من الحرب أو التلويح بها؟ ربما تكون هذه هي النتيجة الطبيعية في الوقت الذي يجري فيه محاصرته ليل نهار بكل ما يجعله يتهكم على الحياة، كما لو كان يقوم بحماية نفسه بالسخرية والنقد اللاذع والضحك والاستهزاء، إنها أسس نظامه الدفاعي في فضاء حافل بالمتناقضات والغرابة وضباب الحرب والسياسة.
ربما شيء قريب من تلك الأجواء الملتبسة بالسخرية في واقع صعب نعيشه، هو ما دفعني إلى التحول من متابعة القنوات الإخبارية ومشاهدة لوحات مختلفة من أولمبياد باريس، على الرغم من أنني لست من المعنيين بالألعاب الرياضية والتطلع إلى أخبارها، أقنعت نفسي قبل التوجه إلى مطار القاهرة بمعاينة دقائق قليلة بعيدًا عن أخبار السياسة المزعجة، دقائق قد تجعلني أشعر بأنه ثمة حياة أخرى أكثر إنضباطًا أو بالأحرى حيوية، ينتظم إيقاعها بسخاء الحركة، لكن الدقائق القليلة التي تصورتها كادت أن تتحول إلى ساعات وأوشكت أن تخنقني بحبال غليظة مُسيّسة ومؤدلجة، لم يفلت الأولمبياد ولم تتملص الرياضة من السياسة الوحشية، المُضّطربة والمُراوِغة، ثم اكتملت اللحظة التهكمية في أيامنا المتأججة هذه حتى الغليان، مع هؤلاء الشباب الصغار الذين يحاولون أن يرسموا حياة بمعطيات طيبة، بينما الشاشات تنقل لنا بسرعة البرق صورًا للخسائر البشرية، شهداء وقتلى، دم وأشلاء وأطفال جِياع.
كانت علاقتي مع الأردن من نوع تلك العلاقات الرومانسية التي لا تكتمل أبدًا، في كل مرة تأتيني دعوة أو تترتب زيارة إليها، فإنها لا تتم لأسباب مختلفة، عامة أو خاصة، اليوم زرت عاصمتها زيارة سريعة بدعوة من مؤسسة عبد الحميد شومان العريقة، الدؤوبة، المثابرة في التواصل مع المبدعين والكُتاب والفنانين العرب من كل صوب وحدب، إذًا وأخيرًا ذهبت هذه المرة من خلال لجنة السينما في المؤسسة للتفاعل مع الجمهور الأردني في حوار مفتوح عن السينما وأساطير نجومها، ولأهمية هذه المؤسسة الراسخة ولأن ما ربطني بالأردن كان دائمًا إتصال لم يكتمل، فقد تحمست لقبول الدعوة بفكرة مسبقة متسلطة على عقلي، فكرة أنني بعد يومين هما الفترة الزمنية للدعوة، سوف أُمدد زيارتي لنهاية الأسبوع على حسابي الخاص حتى أتنفس عمّان على راحتي، وهو ما لم يحدث بسبب وتيرة الأخبار السريعة والمشحونة بتوتر الأحداث في المنطقة العربية، ما يستلزم عودتي إلى القاهرة لظروف العمل.
سافرت مرارًا إلى أنحاء عدة في العالم شرقًا وغربًا، تعرفت إلى ألوان متباينة من الثقافة والبشر، إكتشفت طباعًا مختلفة وتعلمت أشياء كثيرة ومدهشة، مع ذلك تظل رحلتي الأولى لأي مكان هي ذات الأثر الأكثر تركيزًا، ربما لأنها تتوغل في عمق الذاكرة، ربما لأنها أولية بدون خبرة واقعية، هكذا دخلت عمّان بأفق واسع رسمته بقراءاتي ومشاهداتي وتصوراتي التخيلية، واجهات الفنادق الفخمة في عمّان لم تملك أدنى سطوة في عيني. تفحّصت المدينة من خلال نافذة السيارة التي أقلتني من مطار الملكة علياء.. معالم عمّان لم تشكل الهدف الأساسي لرحلتي، كان همّي المقدم أن أجد جوابًا شافيًا حول معضلة تحيّرني في حديث الجميع. معضلة تتمثل بكلمة واحدة: "وبعدين؟!". هكذا تحولت من تأمل المحطات السريعة التي حاولت رصدها إلى رصد تعابير الوجوه، الناس هنا تبدو ودودة وقوية، لكن الوقت لم يسعفني للتعرف أكثر، كما لم يمنحني فرصة التعرف على تفاصيل مدينة التلال والجبال السبعة: اللويبدة، عمَان، الحسين، النصر، التاج، القلعة، الجوفة.. فقط ظللت في جبل عمَان حيث الفندق الذي أقمت فيه، ومؤسسة عبد الحميد شومان مقر الندوة والحوار، والمطعم الذي تناولت فيه العشاء الأول والأخير، ثم عبرت إلى جبل اللوبيدة مع "تمارا" شقيقة صديقتي الفلسطينية "نضال"، وبعدها إلى بيت والدهما في منطقة الشميساني بالجزء الغربي من المدينة، وبالطبع مررت بوسط المدينة دقائق سريعة لشراء البن والزعتر، دون أن أمر بالمدرج الروماني أو قلعة عمّان أو غيرها من مناطق تاريخية شهيرة، ودون أي شك لم أتحرك خطوة خارجها سواء جرش أو البتراء أو البحر الميت أو وادي أرم، ولم أشهد نهر الأردن في هذه الزيارة الأولى، السريعة.
ندهتني عمّان هذه المرة لأعبرها مُهرولة بين المدينة العتيقة والمدينة المعاصرة، بين سينما الرينبو العريقة وصالات العرض داخل "المولات" التي لم أتسلل إليها لضيق الوقت، بين صوت فيروز يحاوطني في مقهى يحمل اسمها بجبل اللويبدة، بينما أتناول قهوتي مع "تمارا": )على جسر اللوّزيّة .. تحت وراق الفيّة(، ثم موسيقى الجاز في قلب الرينبو، فعلًا صدق نيتشة فإنه " لولا الموسيقى لكانت الحياة ضربًا من العبث"، أقولها لرفيقتي ونحن تقريبًا نركض في شارع الرينبو لنلحق بموعدنا، الشارع يختصر بتلاوينه وتعدد أوجهه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المشهد الثقافي في الأردن، صوت فيروز يتسلل من زوايا كثيرة، أبحث معها عن شادي وأغوص في أغانيها الرومانسية، ثم أستفيق على صوتها يهزني: "وستغسل يا نهر الأردن وجهي بمياه قدسية"، أو إحدى معزوفات الجاز تتسلل من مكان آخر، لكن لماذا فيروز وحدها هنا؟ أين أجاويد الأغنية التراثية الأردنية؟.. لعل سؤالي ليس مضبوطًا بينما أنا أركض في ليل العاصمة الأردنية بسرعة وليس لدي الوقت للتعرف عليها بتأني وروية وعمق، دون أحاسيس مسبقة وجاهزة، كي أفهمها بشكل أصدق وأصحّ.
عمّان التي في خاطري كانت مجموعة من حكايات الفلسطينيين والأردنيين، حكايات التاريخ من قبل النكبة بعصور وبعدها بسنوات تمتد حتى الآن، كانت في مخيلتي ما كتبه عنها عبد الرحمن منيف في "سيرَة مَدينَة"، حين وصف أحوالها في الأربعينيات، مستشفياتها، كتاتيبها، مدارسها، شتائها البارد وثلجه الأبيض، رائحة الحطب والفحم، أزياؤها، ألعابها، مثقفيها وناسها، أجواء الحرب العالميّة فيها والإذاعات الموجهة، معاناتها مع الأوبئة كالتيفود والكوليرا، ثم التفاصيل الحزينة للنكبة.. وصف عمّان بأنها "مثل المدن الأخرى في المنطقة تنام على آخر نشرة أخبار وتستيقظ على أول نشرة، لأنها تنتظر شيئًا لم يأتِ بعد"، وكتب عن تلال البرتقال اليافاوي التي كانت تصل من فلسطين وتتكوم في سوق الخضار، عن رائحته اللذيذة ولونه الأصفر الذهبي عن حضوره كفاكهة أساسية وربما وحيدة، كتب عن الميرمية والزعتر والصابون والكنافة واعتبرهم مرادفات للضفة الأخرى من النهر، عن رجال ملثمين يعيشون أغلب الوقت في البرية ينامون في المغاور وعند أواخر الليل ينتقلون من مكان إلى آخر لكي يحاربون الانجليز واليهود، عن كان فلسطين كموضوع "هو المقياس في الحكم على الأشخاص والموقف وأيضًا امتحانًا للقوة والخوف والضعف والتقدم وسلامة الاتجاه".
لا تزال هذه الصور مختزنة في ذاكرتي، وصحيح أن زيارتي إلى عمّان كانت سريعة وقصيرة، لكنها إنسجمت إلى حد كبير مع الخيال المُترع بالحكايات القديمة، وعلى الرغم من العجلة والاستعجال لم تكن مجرد غمامة صيف عابرة، بل الـ "بَغْشَة" التي تُبشر بمزيد من المعرفة والتعارف.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة