حازم حسين

لعبة معتادة وإخفاقات مُتكررة.. هل يربح نتنياهو بجنونه أحيانا وبأخطاء الخصوم دائما؟

الثلاثاء، 13 أغسطس 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لا يُوفِّر نتنياهو فرصةً لإبراز أنيابه، وغرس مخالبه فى الأبدان.. واللعب معه بجُملة درويش الذائعة «مِنكُم السيفُ ومِنَّا دَمُنا»، لم يعُد يُثمر إلَّا مزيدًا من التوحُّش الصهيونى والموت المجانى للغزِّيين، ولا يدفعُ القضيَّةَ إلى الأمام للأسف. تحرّكت التوازناتُ كثيرًا عمَّا كانت عليه فى انتفاضتى الحجارة والأقصى، إذ صار العدوُّ أكثرَ جرأةً على القتل المُتبجِّح، والعالمُ أضعفَ بصرًا وحساسيةً أخلاقيّة، والحاضنةُ السياسية عاجزةً عن ترجمة فائض الدم لصالح القضيَّة، كما أنَّ الصبغةَ الأيديولوجية المُتسلِّطة على الصراع تخصمُ من الضحايا لحساب الجُناة. إنها مُعادلةٌ مُختلَّة ومُجحِفة؛ لكنها تستدعى البحثَ عن ديناميكيَّةٍ مُغايرة لثوابت النضال القديمة، وأزمنة التصدِّى لآلة البطش بصدورٍ عارية وحناجر زاعقة.


لا جديدَ بشأن الحرب؛ فكُلَّما أحسَّ ذئبُ الليكود العجوز باستفحال الأزمة، يتفتَّق ذهنُه عن تصعيدٍ جديد وجريمةٍ أشدّ انفلاتًا. والحال أنَّ مُعضلته الكُبرى خارج الميدان لا داخله، ويهربُ من السياسة للقتال وليس العكس. وإذ كشَفَتْ أسابيعُ النار الطويلةُ عن اختلال مُعادلة القوَّة؛ فإنَّ الرهان على تثبيت الأوضاع المائلة يصبُّ فى صالحه، ولا يُضيفُ نقاطًا أو دعاياتٍ وازنةً لمناوئيه بالداخل والخارج. فلسفةُ النازىِّ واسع الخبرة والحيلة أنْ يضعَ الجميعَ تحت ضغطٍ دائم؛ فلا يعودُ بإمكان المُعارضة حصار سُلطته الماديَّة وإن تآكلت رمزيَّته المعنوية، ولا تكسبُ الفصائلُ أرضًا ولا أوراقَ تفاوُضٍ، كما يتعذَّر على الحُلفاء التوراتيِّين إنفاذ تهديداتهم بتفكيك الائتلاف، أو سَحبه على أرضهم وباقةِ خياراتهم الكاملة. ومنذ «الطوفان» لليوم يديرُ لُعبتَه باقتدارٍ ظاهر، والدليل أنه كَسَّحَ غزَّة لعُقودٍ مُقبلة، ويُوشِكُ أن يستدرجَ محورَ المُمانعة لساحة الصدام، ولم يهتزّ أمام استفاقة الضمير العالمية، كما لم يرضخ للإدارة الأمريكية، ولم يقطع وشائجه الوثيقة معها.

يُمرِّرُ الوقتَ لا أكثر، ووقوده شىءٌ من رماديَّة الأقوال ودموية الأفعال، وأشياء من خِفَّة الأصدقاء والخصوم القريبين، وخطايا الأعداء والخصوم البعيدين.
المُقاومة عملٌ ثورىٌّ، والثورات الناقصةُ موتٌ كامل. كانت عملية أكتوبر شرخًا عريضًا فى جدار الاحتلال؛ والخطرُ أنها شقَّقته ولم تُسقطه. قطعًا لم يكن «السنوار» وهو يُعِدُّ الخطَّة أو يتَّخذ قرارَ التنفيذ، رومانسيًّا للدرجة التى تجعله يتصوَّرها مُقدِّمةً للتحرير؛ لكنه لم يكُن يتوخَّى تحريكَ الماء الراكد فحسب. بُنِيَت فلسفةُ العمليَّة على منطق «العامل الحفَّاز»، وبقدرِ الصدمة الناشئة عنها ستكونُ التفاعلات. إنما الثغرة أنها مُنازعةٌ مُعقَّدة فى مجالٍ مفتوح؛ وليست مُعادلةً فى بيئةٍ معمليَّة مُعقَّمة. وَقَعَتْ الواقعةُ ولم تُستَثَر الجبهاتُ الرديفة كما أراد، فلا هبَّت الضفَّة الغربية لتفتتح الانتفاضةَ الثالثة، ولا صَدَق المحورُ الشيعىُّ وَعدَه وأدارَ مُحرِّكات الإسناد على شرط «وحدة الساحات»؛ والنتيجة أنَّ غزَّة استفزَّت الغُولَ الكامنَ فى وعى الصهيونية على أمل استنهاض الجبهة الرديفة؛ ثمَّ وجدت نفسَها فى مُواجهةٍ انفراديّة دون إعانةٍ ماديَّة لها على الظالم، أو ساترٍ أخلاقىٍّ من بطشه الغاشم.


فوَّتَت «حماس» نقطةَ المُراجعة والتقويم، ولعلَّها كانت عند قصف المستشفى المعمدانى فى ثانى أسابيع الحرب، أو الاجتياح البرِّى بعده بأيَّام. هنا تبيَّن أنها عاريةٌ من غطاء المُمانعة، ولا يستقيمُ ميزانُ العالم فى مُقاربة نكبتها الماثلة فى الأُفق. ربما تلك الفكرة ما سَمَحَتْ بإنجاز الهُدنة الأُولى أواخر نوفمبر؛ لكنها على ما يبدو قُرِئَت بمعنىً مُضادّ، وبدل أن تكون باعثًا على الإمساك بخيوط التهدئة مهما بدت واهيةً، مَثَّلت إشارةَ اطمئنانٍ زائفةً لقوَّة المُقاومة وهشاشة الاحتلال، ولإمكانية انتزاع مُكتسباتٍ سياسيّة باللحم الحىِّ. بينما رآها نتنياهو مُؤشِّرًا على صلاحية الابتزاز بالحديد والنار، ودَفْع الحركة لتقديم تنازلاتٍ بقدر ما تتلقَّى من ضربات. هكذا كانت الوقفةُ المُبكِّرة وبالاً على القطاع لا طوق نجاة؛ فقد نحَّتْ الخيارات الهادئة جانبًا، وسَعَّرت منسوبَ التشدُّد والجنون لدى الجانبين.


تشدُّد نتنياهو كان منطقيًّا وفقَ سياقه؛ إذ تلقَّى الصفعةَ كاملةً فى الطوفان، وكلُّ ما بعدَها أهونُ عليه منها، وتخسرُ فيه الفصائلُ والغزِّيون أضعافَ خسارته. لكنَّ تشدُّدَ القسَّام بدا غريبًا وغير مفهوم؛ فالضربةُ أحرزت أثرًا يفوقُ خيالَهم، والمُتوقَّع أن يكون الردُّ مُتوحِّشًا وكاسرًا لكلِّ الاعتبارات. ربّما أخذتهم نشوةُ النجاح الواسع، وتمدَّدت فى صدورهم أطماعُ المُغامرة واستكشاف المنافع المُمكنة؛ لكنَّ المسألةَ كانت تفرضُ قدرًا من التأنِّى والعقل البارد، وإعادة تحرير الحِسبة بإيقاعٍ موازٍ لتطوُّرات الميدان، وتفضيل الخسارة القريبة على أوهام المكسب البعيد. وما حدثَ أنهم كانوا يقبضون على خياراتٍ مبدئيَّةٍ صلبة، ثمَّ يتعرَّضون لضرباتٍ مُؤلمة من الصهيونية الهائجة؛ فيعودون إلى خطوطٍ أدنى فى اللغة والطموح، ليتشدَّد زعيمُ الليكود وتبدأ الدائرةُ من الصفر. وربما كان أىُّ تنازلٍ منها كافيًا لإغلاق دفتر الحرب؛ لو طُرِحَ فى ميقاتٍ سليم، فالمسألةُ كلُّها خللٌ فى التقدير وانكسارٌ لخطِّ الزمن. مثلما كان «الطوفان» نفسُه خيارًا مُتمرِّدًا على الواقع ومُصادمًا له؛ فأتاح لنتنياهو فُرصةَ الإنقاذ التى تمنَّاها، بينما تشتعلُ إسرائيلُ تحت قدميه بأثرِ مشروع الإصلاح القضائى وقضايا الفساد. لقد كان على مرمى حجرٍ من السقوط؛ فأقاله «السنوارُ» بالهديَّة السخيّة، وكان طبيعيًّا ألَّا يُفرِّط فيها، وأن يستثمر فى مفاعيلها مهما كانت التكاليف.


إنه سياسىٌّ ذكىٌّ دون شَكّ؛ لكنَّ أكثرَ مكاسبه تحقَّقت بغباء الآخرين. لقد كان مُنزَعجًا من اتِّفاق التهدئة بين السعودية وإيران، ومن تضخُّم قوَّة الأخيرة وأذرُعها، وضاق بعلاقة حماس المُتصاعدة يومًا بعد آخر مع المحور الشيعىِّ. فَتَحَ البابَ لأحاديث التطبيع مع المملكة، ورفعَ خريطةً فى الأُمَم المُتَّحدة لا أثر فيها لفلسطين أو الفلسطينيين، وضَيَّق على الحركة فى عبور العمالة. باختصارٍ؛ لقد ضغطَ على أعصاب خصومه بأعلى طاقته، فكأنَّه خَلَّقَ طوفانَ الأقصى من العدم، أو استدعاه من دولاب الخُطَط المُرجَأة، وبعض المعلومات أشارت إلى التخطيط له بعد سنتين من موعد السنوار. وأحاديثُ التقصير الفادح، وتجاهُل التقارير والتحذيرات الأمنيّة؛ إنما تشيرُ لرخاوةٍ غريبة، لا على شرط الخيانة أقصدُ، بقدر ما أنها توقَّعت شيئًا وقرَّرت تمريرَه، ولم يكُن غائبًا عن عيونها تمامًا؛ حتى لو جاء فى صورته الأخيرة فوق التوقُّعات.


تمنَّعَت «حماس» على بعض شروط الهُدنة كتَمَنُّع نتنياهو، من باريس إلى القاهرة والدوحة. وعندما تقبَّلت الورقةَ المصرية أوائل مايو، استبَقَتْها بضربةٍ دعائيَّة معدومة الأثر فى محيط كرم أبو سالم، فأرخَتْ لغريمها حبلَ الرفض وبرَّرت له اجتياحَ رفح. وعندما استحسنت مُقترحَ بايدن آخر الشهر نفسه، خرج المُرشِدُ الإيرانىُّ فى ذكرى الخمينى رافعًا رايةَ الحرب ورافضًا خيارَ التهدئة، فتراجَعَتْ الحركةُ قليلا وتقدَّم الاحتلال. ثمَّ فى نُسخة يوليو بدا أنَّ عَقلين يُديران التفاوض، أحدهما يُفكِّر ببراجماتيّة السياسى، والآخر يلبسُ الدرعَ كاملة ويستعيرُ هالةَ المُنتصر، وبينهما تتحقَّقُ غايات نتنياهو المُعلَنَة والمُضمَرة؛ إذ يُسوِّق فكرةَ الصراع الإقليمى بصِفَةٍ دينية، ويستكملُ مهمَّة الحرق والتدمير، والحال أنّه لا سبيلَ لمُقارعة المخبول بأدواته، ولا لاستمراء لُعبة «عَضّ الأصابع»، بينما تحتاجُ كفَّكَ بكامِلِها لتُطبِّب الجروحَ وتسُدَّ منابع النزيف.


يرتَعِبُ الصهاينةُ كلَّما أحسّوا قُربَ انطفاء النار؛ فيُغذّونها بمزيدٍ من الحطب. وبينما يقفون على أطرافها مُتنعِّمين بالدفء؛ يقعُ الغزِّيون داخلَها كأنهم خِرافٌ فى حفلِ شواء؛ وليس مفهومًا لماذا يتحدَّثُ فريقٌ عن الأسى والإشفاق عليهم؛ ثمَّ ينفخون فى اللهب مع النافخين! هكذا يُمكن النظرُ لسلوك الحزب على الجبهة اللبنانية، ومناكفات الحوثيِّين التى لا تُؤلم العدوَّ ولا يكفيها ما يحيقُ بالشقيق دون إضافاتهم. ولهذا أيضًا قَصَف نتنياهو القُنصليَّةَ الإيرانية أوائل أبريل؛ باحثًا عن الأثر الدعائىِّ لليلة الصواريخ والمُسيَّرات، وقَتَلَ إسماعيل هنيَّة فى طهران، ولم يكُن الغرض إزاحة قائد حماس الظاهر، بينما يُحتبَسُ قرارُها كاملاً مع السنوار فى الأنفاق؛ بل أراد أن يضغط على غُدّة الاعتدال لدى الرئيس الجديد مسعود بزشكيان، وأن يُوحِّد الملالى والإصلاحيِّين على لُغة الحرب والتصعيد، وقد تَمَّ له ما أراد. أُهِيْنَت الدولةُ الشيعيَّة فى مَعقلِها، فصار التطرُّفُ فى القَول والفعل واجبًا، وارتاح هتلر الصهيونى لإنفاذ رُؤيته المُختارة.

أحدثُ مُقاربات الهُدنة جاءت من ثُلاثىِّ الوساطة. أصدر قادةُ مصر والولايات المُتَّحدة وقطر بيانًا مُشتركًا يدعو لجولةٍ جديدة من التفاوض، ويُجدِّد التأكيد على مرجعيَّة ورقة بايدن وقرار مجلس الأمن بشأنها، والاستعداد لإنجاز تصوُّرٍ يسدُّ الثغرات القديمة ويُعالج الشواغلَ العالقة. كان باديًا أنَّ الخطوةَ أكثرُ جدّيةً ممَّا سَبَق، فى لُغتها وأفكارها وصِيغتها الإجماعية، وفى احتضانها العالمىِّ من الشرق والغرب. وكالعادة لن يُجاهر «بيبى» بالرَّفْض أو المُجاهزة بقُبحه المعلوم؛ بل سيعملُ على استنطاق خصومه بما يصلحُ لإفساد الدعوة دون أن يُلام من الحليف الأمريكىِّ الغاضب. أعلنَ أنه سيُرسلُ وفدًا لاجتماع منتصف أغسطس بالقاهرة أو الدوحة، ثمَّ أدارَ مجزرتَه الجديدة فى مدرسة التابعين، وانتظر يحيى السنوار عند النقطة المعروفة سلفًا، ولم يُخلِف الرجلُ الموعدَ والمكان. أصدرت «حماس» بيانًا يرفضُ دخولَ المفاوضات، ويدعو الوسطاء لإنفاذِ النُّسَخ السابقة بدلاً ممَّا أسمَتْه استهلاكَ الوقت، وإمهال الاحتلال لمُواصلة القتل والإبادة؛ كأنه كان مُتعطِّلاً عنهما أصلاً دون جولات الهُدنة.

الخلَلُ هُنا فى الهروب من الواقع، واستعارة سياقٍ خيالىٍّ يتصوَّرُ فيه قائدُ الحركة الجديد أنه نِدٌّ كامل، ويملك رفاهيةَ التمادى فى خشونةٍ مفتوحة دون أُفقٍ سياسىٍّ. لقد تآكلت المقاومةُ المُسلَّحة عمليًّا بأثر الحرب، ولم يتبَقّ إلَّا الموت المجانىّ الذى يُلاحق العُزَّل فى كلِّ مُستَقرٍّ وحِين. والحال أنَّ الهُدنة محاولةٌ لامتصاص فائض الجنون، لكنها ليست سَببَه ولا مُحرِّكَ اشتعاله، وحال توقُّف المداولات فلن تتوقَّف المَقتَلَة؛ بل قد يتحرَّر نتنياهو من آخر القيود الأخلاقية والقانونية التى تتلمَّس الثغرات المُمكنة لانتشال القطاع من حاضرٍ دَامٍ ومُستقبلٍ أسود. وسرديَّةُ الصمود على معناها القديم لا تكشفُ سوى عن أزمةٍ مُستفحِلَة، وانعدامٍ للخيارات، وعجزٍ عن التجاوب مع اللحظة ومُقتضياتها؛ أكان هذا بقرارٍ فردىٍّ من حاكم غزَّة الأوحَد، أم بإملاءٍ من حُلفائه وشُركاء قراره من الخارج. لقد أنجزت الفصائلُ ما عليها، ويُمكن التجاوز عن سوء التقدير وخَلَل الحسابات، شريطةَ استنقاذ المدنيِّين من مصيرٍ لا يرحمُهم ولا يُضيف لقضيَّتهم؛ أمَّا استبقاؤهم فى الدائرة الجُهنّمية الحالية فيقعُ خارج العقل والمنطق، وأقربُ لتضحيةٍ بالمُمكن على أمل المستحيل.

يبدو السنوار بطلاً تراجيديًّا مُغرمًا بالملاحم القديمة، وهذا خيارُه الحُرُّ طالما لم يُورِّط فيه الأبرياء. إنه يُواجه عَدوًّا يحصر النزاع فى ثُنائيّة اليهود والأغيار؛ لكنه بدلاً عن مُقارعته بتصفية القضية من الخلافات وتوحيد مسارها، يُقسِّم جبهتها على ثلاثة، كما يرى فى روايته الوحيدة «الشوك والقرنفل»: الفتحاوى المُهادن لأنه يُفضِّل السياسة والنضالَ السِّلمىَّ، والمُقاومُ الإسلامىّ المُعتَصِم بخياراتٍ أُصوليَّة دينيّة لا تقبلُ الفَرزَ والمُراجعة، وأخيرًا العميل الخائن. هكذا يعتبرُ القضيَّةَ ملكيَّةً خاصّة، يتنازعُ عليها مع مُنظَّمة التحرير، ويُخرِجُ منها كلَّ من يُقدِّم بدائلَ أُخرى بدَعوى الخيانة، ومن هنا يصيرُ المحورُ الشيعىُّ أقربَ إليه من السُّلطة الوطنية، والغزِّيون المُتألِّمون من الحرب ناقصى إيمانٍ أو طابورًا خامسًا. وبالتأكيد فإنَّ الساعين لاستخلاص فلسطين من الاستقطاب والتطييف سيكونون خصومًا للزعيم.

قالت بعثةُ إيران فى الأُمَم المُتّحدة إنها تقبلُ ما تقبلُه حماس، وستعملُ على ألَّا يكون رَدُّها على اغتيال «هنيّة» مُعوِّقًا لمُفاوضات الهُدنة؛ لكنها من ناحيةٍ التفافيَّة سَعَتْ لإفساد الجولة قبل بدايتها. وإذا كان الوسطاءُ ماضين فى رُؤيتهم، واللقاء سيُعقَدُ بالصيغة التى اقترحوها؛ فقد باتت لدى نتنياهو حُجَّةُ للتهرُّب من الالتزامات ولو أجمع عليها أهلُ الأرض جميعًا، انطلاقًا من سرديَّته الدائمة عن غياب الشريك، وتكييف الصراع على صورةٍ «فوق فلسطينيّة»، تُلِحقُ فصائلَ الداخل بقُوَى المُمانعة وليس العكس. وفى هذا فإنَّه يُراهِنُ على مزيدٍ من تقطيع الوقت، وإبقاء جَمرة غزَّة مُشتعلِةً طالما يعجزُ عن تأجيج جنوب لبنان والجبهة العريضة مع إيران. ولو تمكَّن ممَّا يتمنَّى؛ فسيَعبُر عتبةَ الانتخابات الأمريكية بميدانٍ عاصف، ليُلاقِى ترامب على أجندةٍ إلغائيَّة مُتطابقة، أو يضع كامالا هاريس أمامَ واقعٍ يتعذَّر تغييرُه أو عدم التعاطى معه بشروط تل أبيب. وإذا كان الموتُ أكثرَ ما يزدهرُ فى القطاع؛ فأىُّ خيارٍ لا يتمرُّد عليه يبدو انتحارًا، ولو استعار كلَّ أدبيات البطولة والاستقامة والشرف، ولا غفرانَ لعدم البحث عن كُوّةٍ فى الجدار؛ مهما بدت بعيدةً وضَيِّقة.

تعدَّلَ خطابُ طهران من الثأر الماحق إلى الردِّ المُتَمَهِّل والمحسوب، وبعد اللوثة العاطفية عادت لعنوان «الصبر الاستراتيجى»، وتتجنَّبُ المواجهةَ الشاملة بكلِّ السُّبل خوفًا على حزب الله وبرنامجها النووى؛ لكنَّ غزَّة كانت تحترقُ قبل دخولها على الخَطّ، وتفحَّمَت تمامًا بعدما رَفَعَت عقيرتَها فى الميدان، ونامت على بطنها فى الغُرَف المُغلَقة. والفَهمُ العقلانىُّ الوحيد أنَّ الفصائل لا تستسيغُ الشَّطْبَ من أجندة المُستقبل؛ فتستعيض عنه بمُقامرتها بما تبقَّى من الحاضر، وإن كانت حياتُها المأمولةُ عزيزةً فليس أقلَّ من أن يكون موتُها الموعودُ مُكلِّفًا؛ وهذا الخيارُ «الشمسونىُّ» بنَزعتِه المأساوية يضرُّ تسلسُلَ النضال الوطنى، ويُوجِعُ القضيَّة، فضلاً على أنه آخر ما يخدمُ الأرضَ السَّلِيبَةَ، وأهلَها المنكوبين، بوَصفِهم على الأقل ذخيرةَ المُقاومة وخَزّانَها الدائم.

كلُّ ما يُقال عن نتنياهو، ويَصدُق عليه دون جدالٍ طبعًا، لا يُبرِّرُ مُجاراته فى أهدافه ولو بحُسْنِ نِيَّة. أخطأتَ «حماس» فى رَفضِ الجولة الجديدة للمُفاوضات، مثلما أخطأت فى تصعيد السنوار بدلاً من هنيَّة، وتوحيد القرارين السياسى والعسكرى على لسانٍ واحد. والخطيئةُ الكبرى والدائمة أن تُنتَزَع القضيَّةُ من حاضنتها الأصيلة، وأجندتها الوطنية الصافية، لتُضافَ لرصيد المحورِ الشيعىِّ فى صراعات الأحلاف والأُصوليَّات. يدفَعُ الغزِّيون فاتورةً مفتوحةً ليومٍ واحدٍ من الزهو الطوفانىِّ، ولشهورٍ مُمتدَّة من إخفاقات الفصائل والمُمانعين، بينما تُقيِّمُ الحركة المسألةَ بمعايير حروب العصابات، ما يعنى أنها مُنتصرةٌ طالما لم تَسقُطْ رايتُها ويتبقَّى مُقاتلٌ واحد منها، وهكذا يتردَّدُ بجهلٍ واستخفاف أنَّ الاحتلال يعجَزُ عن تحقيق أهدافه، بينما سَطَّحَ القطاعَ ورَاكَمَ من الجُثَث ما يصلُ عنانَ السماء، ولا نعرفُ أيَّةَ أهدافٍ وراء الحروب أكثرَ من الإبادة وكَىِّ الوعى، حتى أنَّ الذين كانوا يتنفَّسون نِضالاً صاروا يائسين، وأهلَ الضفَّة لا يستجيبون لنداءات الإحماء وتسعير الانتفاضة، وسابقًا كانت جرائمُ أقلُّ من هذا تُشعلُ الأرض تحت أقدام الصهاينة. ربّما يحتاجُ الفاعلون فى المشهد الفلسطينى لوَقفةٍ مُخلصة مع النفس؛ فالهزائمُ المرحليَّة ليست عَيبًا ولا تُهدِّد القضيَّةَ ووجودَها؛ شريطةَ الاعتراف بها واستيعابها والاجتهاد الدؤوب فى تجاوزها؛ إنما العيبُ كلُّه أن تتكرَّر الأخطاء، وأن تتضخَّم كراهية العدوِّ خُطَبًا وشعارات، ثمَّ يُلاقيه الخطباءُ على باقة أهدافه الكاملة فى الميدان، وفوقَ الطَّلَل والأشلاء.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة