بقدر استماتة عدو متربص أو خصم طامع فى تكرار محاولاته انتزاع السيادة من مصر على بعض أراضيها، تعرف الأهمية العظيمة لتلك البقعة من الأرض.
هذا ما كان - ولا يزال كائنا - مع أرض شبه جزيرة سيناء، الجناح الآسيوى من الأرض، فسجل المحاولات الاستعمارية لبتر سيناء عن مصر حافل وممتلئ بالمخالفة للحقيقة التاريخية القديمة قدم مثل بنفسها أن شبه جزيرة سيناء مصرية.
كانت البداية العملية لذلك فى عام 1881م، عندما أرسلت بريطانيا بعض جواسيسها متخفين تحت هوية الباحثين، لقطع الاتصالات التلغرافية بين مصر من ناحية، وسيناء وفلسطين من ناحية أخرى، وكذلك لمحاولة استمالة وتجنيد بدو سيناء، تمهيدا لخطة الاحتلال البريطانى لمصر الذى تم بالفعل فى العام التالى 1882م، ولكن بدو سيناء أثبتوا ولاءهم العميق لوطنهم ولهويتهم المصرية، فتصدوا لهؤلاء الجواسيس وقاموا بقتلهم، فكان رد البريطانيين فور احتلالهم مصر أن أجروا محاكمات عاجلة لهؤلاء البدو قضوا فيها بالإعدام والسجن على عدد منهم، فضلا عن الغرامات ومصادرة الممتلكات.
وفى العام 1907م، أصدرت لجنة علمية بريطانية تقريرا حمل اسم رئيس الوزراء البريطانى آنذاك، كامپل بانرمان، زعمت فيه انفصال بدو سيناء تاريخيا عن باقى الشعب المصرى، ودعت لفصل سيناء عن مصر لتكون بمثابة حاجز كبير أو منطقة عازلة بين الجناحين العربيين الآسيوى والأفريقى، ثم فى عام 1919م تلقى مكتب رئيس الوزراء البريطانى آنذاك، لويد چورچ، تقريرا استخباراتيا يدعو لفصل سيناء عن مصر وضمها لبريطانيا مباشرة، فى منافسة داخلية مع تقارير أخرى كانت توصى بتحويل شبه جزيرة سيناء لمهجر ووطن قومى لليهود بدلا من فلسطين ثم أعقبتها محاولة لتجنيد عبدالوهاب خطابى، أول نائب سيناوى فى البرلمان المصرى، لتسهيل مخطط الفصل المذكور، إلا أن النائب الوطنى رفض خيانة بلاده، ودفع ثمن ذلك بقيام المحتل البريطانى باعتقاله وتعذيبه بعد إعلان الأحكام العرفية خلال الحرب العالمية الثانية.
وجدير بالذكر أن عام 1939م - عام اندلاع تلك الحرب - قد شهد توصية من الحاكم البريطانى لسيناء، چارفيس بك، بنقل المهاجرين اليهود لشبه الجزيرة بحجة أن مساحتها واسعة وعدد سكانها قليل، وأن سكانها البدو لا يحتاجون لكل تلك المساحة!
هذا فضلا عما جرى فى عام 1902م من قيام تيودور هرتزل - مؤسس وزعيم الحركة الصهيونية العالمية - بإجراء مفاوضات مع كل من وزير المستعمرات البريطانى، نيڤيل تشمبرلين، والمعتمد البريطانى فى القاهرة، اللورد كرومر، لجعل سيناء وطنا قوميا بديلا لليهود، إلا أن الحكومة المصرية ممثلة فى بطرس باشا غالى قد رفضت الأمر تماما، بل وفى عام 1946م حاول الحاكم العسكرى البريطانى، كولونيل براكلى، إقناع حكومة بلاده باقتطاع سيناء من مصر، وكانت حجته الهزلية أن سيناء ليست أرضا مصرية بل إن مصر كانت تديرها نيابة عن العثمانيين، وما دامت بريطانيا قد هزمت الدولة العثمانية فى الحرب العالمية الأولى فلها الحق إذن فى امتلاك سيناء، بل وزاد بعض المهزلة من الشعر بيتا مضحكا باقتراح انتزاع سيناء وقناة السويس من مصر وتعويضها ببعض أراضى السودان الشقيق، وبالطبع لاقى المقترحان رفضا مصريا صارما ومستنكرا.
ومن محاولات فصل سيناء أو توطين اليهود فيها إلى محاولات تصفية القضية الفلسطينية على حساب مصر، ففى عام 1950م - بعد قيام دولة إسرائيل بعامين وما ترتب عليه من تهجير ونزوح مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى بلدان عربية ونزوح نحو مائتى ألف منهم إلى قطاع غزة - قدمت الولايات المتحدة الأمريكية خطة لمصر تقضى بترحيل اللاجئين الفلسطينيين إلى شبه جزيرة سيناء وتوطينهم فيها، وطبعا رفضت مصر المقترح، وأحيل القارئ لمعرفة المزيد من تفاصيل المحاولات المذكورة للكتاب الثرى «بدو سيناء فى مصر» للدكتور رانيا محمد فوزى أبوالنور، الذى أفادنى كثيرا فى كتابة هذا المقال.
وما دمت قد ذكرت مخطط تصفية القضية الفلسطينية على حساب مصر، فلا بد إذن من ذكر مسألة تتجلى فيها حماقة الاندفاع العاطفى فى أسوأ صوره، منذ أن بدأ الاحتلال الإسرائيلى حملته الوحشية على الأشقاء الفلسطينيين فى قطاع غزة، ومع تصاعد وحشية وهمجية الممارسات الإسرائيلية ضد المدنيين من قتل وتدنير وتهجير وتجويع، انتشرت كلمة ظاهرها التضامن الإنسانى وحقيقتها الجهل المطبق بالمخططات الخبيثة ضد كل من مصر والقضية الفلسطينية.. ألا وهى «افتحوا المعابر».
الحقيقة أن هذا المطلب هو أكبر خدمة للمخططات الإسرائيلية لتصفية قضية الفلسطينيين على حسابنا، وإن تزامنها مع الضغط الإسرائيلى على أهل غزة لترك ديارهم، لهو أمر يثير ريبة كل ذى عقل ووعى وإدراك.. ولنر لماذا أقول هذا:
بعد قيام الصهاينة باحتلال غالبية الأراضى الفلسطينية وإعلان قيام دولة إسرائيل فى عام 1948م، لم يعد مستقلا من فلسطين سوى الضفة الغربية والقدس الشرقية التى تولت المملكة الأردنية الشقيقة إدارتهما حتى احتلال الإسرائيليين لهما فى عام 1967م، وقطاع غزة الذى خضع للإدارة المصرية حتى احتلال إسرائيل له فى العام سالف الذكر.
فى عام 1956م وخلال العدوان الثلاثى - البريطانى الفرنسى الإسرائيلى - على مصر، عرض ديڤيد بن جوريون، رئيس الوزراء الإسرائيلى آنذاك، على مجلس وزرائه وقياداته الحربية خطة لتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين فى قطاع غزة، تقتضى ضرب القطاع بشكل كثيف ووحشى، وإجبار مصر على فتح حدودها مع القطاع بشكل كامل، بحيث يضطر الفلسطينيون من أهل غزة واللاجئون فيها للهرب إلى شبه جزيرة سيناء، وبذلك تتم تصفية ذلك الملف إلى الأبد على حساب مصر، إلا أن خطته قد بائت بالفشل الذريع.
ألم تلفت تلك الخطة انتباههم إلى أمر قد تكرر خلال العدوان الإسرائيلى الأخير على قطاع غزة؟ بلى، فبالفعل تردد مقترح إسرائيلى أن تفتح مصر معبرها مع قطاع غزة لاستقبال الفلسطينيين فى سيناء، وكان الرد المصرى الرسمى الصارم هو أن مصر لن تسمح بتصفية القضية الفلسطينية على حسابها أو حساب أية دولة عربية أخرى.
وهذا موقف لا يستغربه ولا يستنكره عاقل، فإذا كانت مصر قد فتحت جانبها من المعبر لإدخال المساعدات واستقبال المصابين- وهو ما تعرقله إسرائيل باحتلالها الجانب الفلسطينى من المعبر- فإن هذا موقف طبيعى من مصر تجاه أشقائنا، وهو أمر غير مستغرب من الدولة المصرية تجاه أية قضية إنسانية، أما ما تطالب به إسرائيل فهو تهديد صريح ومباشر للأمن القومى المصرى، ونحن لسنا «أبناء الأمس القريب» لنقع فى هذا الفخ!
هل أدرك القارئ كارثية السماح للعواطف والانفعالات بإلغاء دور العقل وإعماء البصر والبصيرة عما يدبر لنا؟
هذا عن أرض مصر وحدودها، ماذا إذن عن شعبها وحكوماتها عبر العصور؟ إذ إن البعض يروجون لمقولة سخيفة هى أن «مصر كانت فى معظم عمرها محتلة أو خاضعة لأجنبى»، فما رد التاريخ على تلك الأكذوبة؟
انتظروا الإجابة فى الحلقة المقبلة إن شاء الله من تلك السلسلة من المقالات.