لم يستطع الألمانى توماس باخ، رئيس اللجنة الأولمبية الدولية، أن يخفى بتصريحاته الوردية وكلماته الودية قبل وبعد أولمبياد باريس حقيقة الواقع المر فى قوة ونفوذ وتأثير السياسة على الرياضة خلال الدورة التى انتهت فعالياتها يوم الأحد الماضى.
قبل تسعة أيام من انطلاق الأولمبياد أعرب "باخ" عن أمله بأن تساعد ألعاب باريس 2024 فى خلق "ثقافة السلام"، وأن "مهمتنا أن نجعل من الألعاب الأولمبية رمزا للسلام"، وفى ختام الأولمبياد أعاد على مسامع المتابعين الكلام ذاته عن شعارات "الحب والسلام والتكاتف والتضامن والتسامح وقبول الآخر" وغيرها.
كلام جميل ورقيق وحالم من رئيس اللجنة الأولمبية، بدأ لكل من تابعه أنه بعيد تماما عن التدخلات الجبارة من القوى العظمى فى واشنطن ولندن وباريس الحاكمة والمتحكمة فى القرار السياسى والعسكرى والرياضى فى العالم. فقبل انطلاق الأولمبياد صدر القرار بمنع روسيا -القوة الثانية عسكريا والثالثة اقتصاديا فى العالم- مع بيلاروسيا من المشاركة فى الأولمبياد بسبب "غزو روسيا لأوكرانيا فى فبراير 2022"، وقبل أن يتم رفع الحظر والسماح لهم بالمشاركة كأفراد فقط محايدين تحت العلم الأولمبى مع الاستبعاد من المشاركة فى الألعاب الجماعية.
رئيس اللجنة الأولمبية ابتلع مرارة "ازدواجية المعايير" حتى فى الرياضة وحلق بشعارات السلام والحب فوق مرارة الحرب والدمار والإبادة فى غزة والضفة الغربية. وقد يكون خارج إرادته أو فوق احتماله أن يصدر قرارا بحظر روسيا وبيلاروسيا ومشاركة دولة الكيان – إسرائيل ببعثة كبيرة. المنع لروسيا وبيلاروسيا كان بسبب حرب أوكرانيا وانحياز الدول الكبرى خلف واشنطن إلى جانب أوكرانيا، على الرغم من أن العالم ومؤسساته ومنظماته الدولية شاهدا ورافضا لحرب الإبادة الصهيونية ضد الشعب الفلسطينى فى غزة واستشهاد ما يقرب من 40 ألف فلسطيني، الغالبية منهم من النساء والأطفال، علاوة على تدمير البنية التحتية للقطاع وتدمير المساجد والكنائس والجامعات والمدارس والمستشفيات. وصدور عشرات الإدانات لدولة الكيان وأحكام دولية، ومع ذلك فالسيد والحاكم والراعى الأمريكى وتوابعه فى عواصم أوروبية أخرى لم يتخذ قرارا بحظر مشاركة "إسرائيل" فى الأولمبياد، فوافقت اللجنة الأولمبية (لجنة المحبة والإنسانية والسلام بين الشعوب إياها) على مشاركة تل أبيب وفوزها بالميداليات السبعة ورفع علمها وسط غضب الشعوب العربية والشعوب فى أمريكا اللاتينية والأفريقية والآسيوية والأوروبية الرافضة للعدوان الإسرائيلى على غزة.
لم يمنح رئيس اللجنة الأوروبية الفرصة لأى من وسائل الإعلام بالسؤال عن "المسكوت عنه" فى الزواج الإجبارى بين السياسة والرياضة"، وبين ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين فى مشاركة الدول والكيانات، لأن الإجابة ليست عنده بالتأكيد الكل يعرف الحقيقة والكل تواطأ وألقى بالأغطية على الكلام غير المباح!
السياسة والقوة جعلت من الرياضة ساحة للصراعات والخلافات وليست ساحة للمنافسة الشريفة والتقارب والسلام بين الشعوب، وعملت على تفريغ أهداف ومبادئ اللجنة الأولمبية والاتحادات الدولية الرياضية من مضمونها فى تحقيق مبدأ الرياضة فى خدمة الإنسانية بالتنسيق مع الهيئات المعنية العامة والخاصة والسلطات المختلفة، وحماية حقوق أعضاء الحركة الأولمبية وتحقيق السلام.
ويبدو أن الألمانى توماس باخ لم يعد قادرا على تبعات تدخلات السياسة وفرض زوجها الإجبارى من السياسة حتى لوكان "زواجا عرفيا" وبالقوة على طريقة زواج العمدة عتمان -صلاح منصور- من فاطمة -سعاد حسنى- وإجبار زوجها أبو العلا -شكرى سرحان- على تطليقها فى فيلم "الزوجة الثانية"، ثم التزوير فى الأوراق ومخالفة كافة الشرائع والأعراف لعقد القران. طبعا فى حالة السياسة والرياضة يمكن معرفة من هو "عتمان" ومن هى "فاطمة" ومن هو "أبو العلا"!
"باخ" قرر عدم الترشح لولاية ثالثة على رأس اللجنة الأولمبية الدولية والتى تنتهى فى العام المقبل. بعد أن أصبح الرئيس التاسع للجنة منذ عام 2013.
عموما تاريخ الألعاب الأولمبية منذ نشأتها فى 23 يونيو عام 1894 فى لوزان بسويسرا لم تخلُ من تدخلات السياسة ونفوذها وقوتها فى فرض القرار السياسى على الرياضى لأهداف خاصة بصاحب القرار، كما رافقتها أحداثا دامية لعل أبرزها دورة برلين 36 واستعراض قوة ألمانيا النازية بقيادة هتلر، وملبورن 56 ووقائع المواجهة الدموية فى كرة الماء بين المجر والاتحاد السوفييتى بعد قمع الثورة المجرية. كما قاطعت إسبانيا وسويسرا وهولندا الألعاب احتجاجا على التدخل السوفييتى. وانسحبت أيضا مصر والعراق ولبنان تنديدا بالعدوان الإسرائيلي-البريطاني-الفرنسى على مصر، بينما انسحبت جمهورية الصين بسبب تايوان. وبعدها عام 72 فى أولمبياد ميونخ وقيام مجموعة من الكوماندوز الفلسطينيين بالتسلل إلى القرية الأولمبية واحتجاز رياضيين إسرائيليين وقتل جميع الرهائن وعناصر من الفلسطينيين.
ومنذ عام 74 ولعشر سنوات لاحقة كان "عصر المقاطعات" فى الدورات الأولمبية المتلاحقة فى تلك الفترة، ففى مونتريال 1976، انسحب 22 بلدا أفريقيا احتجاجا على مشاركة نيوزيلندا. وفى موسكو 1980، قاطعت الولايات المتحدة و60 بلدا الألعاب احتجاجا على غزو أفغانستان. وفى لوس أنجلوس 1984، رد الاتحاد السوفييتى بالمثل مع 14 دولة أخرى بالامتناع عن المشاركة.
الصراعات السياسية ونظرية أن "القوى والمنتصر هو من يكتب التاريخ" ويتحكم فى القرار حولت الميادين الرياضية إلى ساحات للصراع واستعراضا للقوة، رغم تأكيد مؤسس الألعاب الأولمبية الحديثة الفرنسى بيير دى كوبرتان على مبدأ الفصل بين الرياضة والسياسة.
رائحة السياسة الكريهة ركمت أنوف الملايين فى الأولمبياد الأخيرة ليس فقط بقرارات حظر مشاركة دول وقبول دول أخرى، وإنما بتوظيف الحدث سياسيا من الدولة المنظمة، فالرئيس إيمانويل الفرنسى قبل وقت قصير من الفعاليات، أعلن "هدنة سياسية"، معلنا عدم تعيين حكومة جديدة قبل منتصف أغسطس الحالى. وهى خطوة جاءت ضمن آمال يعلقها ماكرون على الأولمبياد، لتعزيز إرثه السياسى ومحاولة التخفيف من فشل رهانه على إجراء انتخابات تشريعية مبكرة. ولم يكتف الرئيس الفرنسى بذلك، بل أراد أن يكون الحدث فرصة لـ"هدنة أولمبية" تسكت أصوات البنادق حول العالم. وهو لم يحدث فقد استمرت إسرائيل المشاركة فى الأولمبياد فى القتل والتشريد والتدمير والإبادة وتواصلت الحرب الروسية الأوكرانية!
لم تفلح الرياضة فى تحقيق أهدافها فى ميادين السياسة، فيما نجحت السياسة فى فرض إرادتها داخل ساحات الرياضة!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة