لا تسألْ عن العقلِ فى مناخات الجنون. الحالُ مُزريةٌ، والأعصابُ مشدودة، والفاصلُ بين الحياة والموت شَعرةٌ نَحيلةٌ قَطَعَها الاحتلالُ قبل عشرة أشهر.. فَقَدَ الموتُ جلالَه ورهبتَه فى نفوس الغزِّيين، ولا فارقَ بين مدنىٍّ ومُقاتل؛ إذ الإقامةُ على الأطلال وأكوام الجُثَث تسلبُ الإنسانيَّةُ رغمًا عن أصحابها، ولا تُخلِّى مكانًا للمواقف المنطقيَّة والانفعالات المحسوبة. ربّما لهذا يُمكن استيعاب بعض سلوكيَّات حماس، رغم أيَّة مُلاحظات أو انتقادات، كما يُمكن النظرُ لجولات التصعيد المُتدرِّجة من جانب الحركة، وبعضها قد تبدو سائلةً واعتباطيَّةً أحيانًا؛ لكنّها ثقافةُ الأزمة وضُغوطها القاسية، وحصيلةُ استثمار نتنياهو فى الفوضى والدم، واستماتتُه الغريبة فى دَفع الجميع إلى حافّة الهاوية.
بقدرِ ما فى ذاكرته السياسية من أوهامٍ عن الذات، وصُورة «الملك اليهودىِّ» المُنتدَب لتصويب مسار التاريخ، تلقَّى صفعة السابع من أكتوبر على كرامته الشخصية، وبمقدار أزماته الداخلية وافتتانه بالعُنف، وإنكاره لخطيئة تسمين «حماس» على حساب السلطة الوطنية، ورهانه على الانقسام كمَسْرَبٍ مِثالىٍّ لتضييع فُرَص السياسة والحلول السلمية، كانت ردودُه على «الطوفان» مُتطرِّفةً وحارقة. ولأنه ينطلقُ من أُصوليَّةٍ صهيونية تنهضُ على سَاقَى القوميَّة والدين، وكلاهما واحدٌ فى الوعى اليهودىِّ؛ فقد استدعى من الطرفِ المُقابل مُعادلاً مُوضوعيًّا يُمثِّل الاستجابةَ الرياضيَّة لأُطروحته، بحسب قوانين نيوتن عن الفعل ورَدِّ الفِعل. باختصارٍ؛ كانت الحركةُ حَصيلةَ الانتقال الخَشِن من اليسار لليمين بعد حرب 1973، تكوَّنت فى زمن الانتفاضة الأُولى حسبَ روايتها؛ لكنها استكمَلَتْ هيكلَها الفكرى والتنظيمىّ بعد تعويق «أوسلو» ومع الانتفاضة الثانية، وكلاهما من إنتاجات نتنياهو الحصرية؛ حتى لو بدا العقلُ الإسرائيلىُّ فى عُمومه مُتلاقيًا معه على نزعة الإلغاء والخيارات الصِّفريَّة. والصِّدامُ الأخير استعارةٌ حديثة لاختناقاتٍ قديمة، لا تختلفُ عن تحريض «بيبى» على رابين من المعارضة، أو شراكته فى إقصاء غزَّة عن حاضنتها الجغرافية الواسعة، عبر خطَّة «فكّ الارتباط» وقتما كان وزيرًا للمالية فى حكومة شارون.
كان مدفوعًا بعد طوفان الأقصى بمزيجٍ من المشاعر؛ لكنَّ الخاص فيها تقدَّم كثيرًا على العام. ولعلَّه اعتبرَها فُرصةً ذهبيَّة لتجفيف بِرْكَة الغضب الشعبىِّ من مشروع الإصلاح القضائىِّ، وإعادة تجميع شراذم اليمين على أجندةٍ وطنيَّة تتلطّى وراء سرديَّة الخطر الوجودى. لقد رآها مُتّكأً صالحًا لاستئناف ما توقَّف عنه مُضطرًّا فى مُواجهاتٍ سابقة، وتصحيح خطاياه القديمة بأثَرٍ رَجعىٍّ، أكان فى صفقة شاليط التى حرَّر فيها السنوار، أم فى اعتبار «حماس» ذُخرًا استراتيجيًّا يربَحُ من غرامها بالانقسام، ولا يتضرَّر من «قوَّتِها المَردوعة» كما كان يتردَّدُ فى تقاريره. وإذا كانت الهالةُ المَلَكيَّة تفرضُ عليه أن يغضبَ للمُجتمع اليهودىِّ وقد غُزِيَتْ معاقلُه الآمنة؛ فإنَّه فى الواقع لم يكُن مَعنِيًّا بالثأر على معناه المُباشر، ولا يشغله مصيرُ الأسرى واستعادتهم؛ بل اعتبرَ أنه أمام مِفصَلٍ زمنىٍّ قد لا يتكرَّرُ، لجهةِ تثبيت زعامته التاريخية، وتكسيح الوعى الفلسطينىِّ وشواغله التحرُّرية، حتى لا يعودَ تكرارُ التجربة نفسِها مقبولاً أو مُمكنًا. لقد أرادَ تحويلَ غزَّة إلى عِبرةٍ ماثلة، والوظيفةُ التمثيليّة هُنا تقتضى الإفراطَ فى العُنف، والتمثيلَ بالأرض والبشر، وألَّا تحملَ التهدئةُ بعدها أيَّةَ ظلالٍ من التوازُنات القديمة. لهذا لا يبدو الخلاف على ظاهرِ اتِّفاق الهُدنة، ولا فى الشروط والترتيبات؛ إنما فى جوهر الفكرة نفسِها، وطالما بقى من يصلُحُ لتوقيع الصفقة فلن يشعُرَ بأنه حقَّق أهدافَه الكاملة.
تسلَّطَتْ الغوايةُ على عقله؛ حتى لم يعُد فيه مكانٌ لاحتمالٍ آخر. إنه حدَّد لحربِه ثلاثَ غاياتٍ تبدو مستحيلة، أكان القضاء على حماس، أو استعادة الأَسْرى دون تنازُلاتٍ، أو ضمان ألَّا تعودَ غزَّة منصَّةً للتهديد. والحركةُ لأنها عقيديَّةٌ فلن تذوبَ فى ماء المُتوسِّط أو تتحلَّل فى تُربة القطاع، وأثبتت التجربةُ أنَّ الرهائن لن يُفَكَّ أَسْرُهم بالنار وحدها، بينما الحقوقُ المُعلَّقة تنسفُ خيارَ المُساكنة الهادئة، وترويض الغزِّيين، والفلسطينيين عمومًا، وفقَ شروط الاحتلال الغاشمة.. والمعنى؛ أن السياسىَّ العجوزَ يعرفُ تمامًا خِفَّةَ عناوينه العريضة، وأنها لن تكونَ مَحلَّ ترحيبٍ من الخصوم، ولا فى مقدور جنرالاته استخلاصُها من محارق «حروب العصابات» الأبديَّة؛ إنما يرفعُها لتكونَ جَزرةُ مربوطة فى ماسورة دبَّابة، يطاردُها الجنودُ ولا يَصِلون إليها أبدًا؛ فيضمَنُ ألَّا تتوقَّف المَقتلةُ إلَّا عندما يُقرِّر ذلك، وفى ضوء حساباته الظرفيَّة والمُستقبليَّة المحمولة على اعتبارات البقاء الطويل، أو الإفلات من المُساءلة.
أدارَ المُفاوضات بالمنطق نفسِه. يشدُّ كُلَّما أرخى الآخرون حِبالَهم، ويُرخى إذا شَدُّوا، وفيما بينهما يُرقِّقُ الخطاب حينًا ويُسَعِّر الضربات فى أغلب الأحيان، أو العكس، ليُلاقيه القسَّاميِّون دائمًا عند النقطة التى حدَّدَها سَلفًا. والغايةُ ألَّا ينقطع الخَيطُ الذى يُسوِّقُه للداخل على صورة الاهتمام بالمخطوفين وعدم إغلاق صفحتهم، وألَّا يتضافرَ مع خُيوطٍ أُخرى ليصير عُقدةً سَميكةً تسحبُه إلى ما لا يُحبّ. ومن هُنا كان يُرسِلُ وُفودَ التفاوض بسَقفٍ عالٍ؛ ثمَّ يُهاتفهم بعدما يختلون فى غرفهم مساءً ليسحَبَ منهم الصلاحيات. وإذا لَانَ لطارئٍ أو ضرورة، أوعَزَ لمُساعديه بإصدار بياناتٍ مُجهَّلة تنحو للتشدُّد، وتركَ لحُلفائه التوراتيِّين أن يتكفَّلوا بمهمَّة الشَّحْن والدعايات المُضادَّة. وحتى فى أكثر المُقاربات الأمريكيَّة جدّية منذ اندلاع الحرب، اتَّفقَ مع بايدن على مُقترَحٍ جديدٍ للصفقة طُرِحَ بصِفَةٍ إسرائيليّة؛ ثمَّ عقَّب عليه عَلنًا بأنه يختلفُ عن أفكارهم ويتجاوز شُروطَهم؛ لكنّه لم يرفضْه تمامًا. وبعد البيان الثلاثىِّ للقاهرة والدوحة وواشنطن مُؤخَّرًا، بادر بالإعلان عن إرسال مُفاوضيه لاجتماعِ مُنتصَف أُغسطس، وبعدها أنجزَ مجزرتَه الجديدةَ فى حَىِّ الدرج، وانتظر رَدَّ الهديَّة من السنوار كعادته، لتأتيه سريعًا من قناة المُلثَّم «أبو عبيدة».
أعلنَ مُتحدِّثُ القسَّام عبر قناته فى تليجرام، أنَّ عددًا من عناصر المُقاومة أطلقوا النار على الأَسْرى فى حادثتين مُنفصلتين. وخُلاصة الإفادة؛ أنهم لا يعرفونُ السببَ المُباشر، وأخضَعوا المسألةَ للتحقيق، بينما قُتِلَ أسيرٌ وأُصِيبَتْ اثنتان بجراحٍ خطيرة، مع مُحاولاتٍ قائمةٍ لإنقاذهما. الحدثُ يبدو عاديًّا وعابرًا، وقد يقعُ فى أعتى الدول وبين أكثر الجيوش تنظيمًا واحترافيَّة، بل فعله الصهاينةُ أنفسُهم فى سجونهم، ولدى الأمريكيين سوابقُ عديدةٌ فى جوانتانامو الكوبية ومُعتَقَل أبو غريب العراقى؛ فما بالك بمجموعاتٍ غير نظاميَّة تُعاينُ القتلَ وتعيشُ فى مَعيَّة الأشلاء، وليس بينهم بالتأكيد من لم يَفقِدْ حبيبًا أو زميلاً. إنها الكُلفةُ المَنطقيَّة لمُحاولات «كَىِّ الوعى»، والضغط على غُدَّة الكرامة لدرجة التفجُّر والانسحاق؛ لكنها تحتملُ أيضًا أن تكون تغييرًا تكتيكيًّا فى استراتيجيَّات الفصائل، وبحثًا عن تفعيلِ الورقة الوحيدة لديهم؛ بوَضعِها على مَقرُبةٍ من النار، بعدما تبدَّى أنَّ بقاءها فى برودة الأنفاق وظُلمتها لم يُحقِّقُ الأثرَ المطلوب.
عقب «الطوفان» واندلاع الهجمة الصهيونية الشرسة، صُدِمَ الحماسيِّون على الأرجح بما لم يتوقَّعوه من الاحتلال. لقد أداروا عمليَّةً مُتطوِّرةً وشديدة الإيلام بعقليَّة الماضى وخبراته القديمة، أكان فى الردِّ العنيف بأقصى نماذجه المعروفة فى «الرصاص المصبوب» بالعام 2008، أم فى الصفقات السياسية التى أجبَرَتْ العدوَّ على التفاوضِ خمسَ سنواتٍ وتحرير 1027 أسيرًا فى مُقابل جُندىٍّ واحد. والحال أنَّ قسوةَ الاقتحام لغلاف غزَّة، ونوايا نتنياهو واختناقاته الداخلية، تَضَافَرا معًا ليُغيِّرا كُلَّ المُعادلات وقواعد الاشتباك المعروفة. وقتها فاقت الصورُ قُدرةَ الحركة على الاستيعاب؛ فقالت بين ما ساقته من تهديداتٍ إنها قد تضطرّ للثأر من الأَسْرى، وذبحهم مُقابل الدماء الغزِّية المتفجِّرة فى أنحاء القطاع، وفى جولةٍ أُخرى قال مُتحدِّثُها إنهم قد يقتلون أسيرًا عن كلِّ مجزرةٍ صهيونية، ورغم صرامة التحذير وكُلفته الأخلاقيَّة، وأثره على دعايات الوَصْم والتشويه، لم يُؤخَذ بجدِّيّةٍ كاملة، واعتبره البعضُ تعبيرًا عن أزمةٍ حاضرة، لا ذهابًا حقيقيًّا للتصعيد الشامل وإحراق المراكب. وإذا كانت ثمَّة احتمالاتٍ تُعيدُنا إليها الحادثةُ الأخيرة؛ فإنها التذكيرُ بما لوَّحَت به الحركةُ تحت ضغطٍ سابق، بينما صارت الضغوطُ اليومَ أعظمَ ممَّا كانت عليه فى أىِّ وقتٍ مَضَى.
لو صحَّتْ الروايةُ الرسميَّة؛ فإنها تُشيرُ لبداية انفلاتٍ قد يتطوَّرُ وتتعذَّرُ السيطرةُ عليه، وتكشفُ عن ثِقَل الوطأة النفسيَّة على مُقاتلى الحركة، وأنَّ غضبتَهم تعاظمت حتى تجاوزت أوامرَ القيادة واعتبارات المصلحة والانضباط، وهذا ممَّا يُهدِّد بمزيدٍ من الانفجارات الداخلية بحقِّ الأسرى، أو بعمليَّات عشوائيَّة غير مُخطَّطة فى الميدان، وربما تطال المدنيِّين المُعارضين لسُلطة حماس، أو تُحدِثُ ارتباكًا وصداماتٍ بين الأجنحة وكتائب القسَّام نفسها. قد يبدو التصوُّر ساذجًا وتبسيطيًّا بالنظر إلى الطبيعة الحديديّة للتنظيم، وفكرة العقيدة والثابت الأُصولىِّ ومعيار الطاعة العمياء؛ لكنَّ التصوُّرات المنطقيَّة تسقُط تحت أقدام المَلَمَّات الكُبرى، فى حال التفسُّخ والاعتلالات النفسيَّة. وحينما أراد «أبو عُبيدة» أن يُوجِّه رسالةً للعدوِّ؛ فإنّه وَصَمَ الشقيقَ فى الوقت ذاته بالجنون وغياب العقل، وفتحَ البابَ على كلِّ الاحتمالات التى تُرعب الفلسطينيِّين بأكثر ممَّا تُخيِف الصهاينة. أمَّا الاحتمالُ الآخر، والأرجحُ بالمُناسبة؛ فأن تكونَ عمليَّةً مُهندَسَةً فى إطارٍ دعائىٍّ بنكهةٍ ثأريَّة، يُرمِّم توازُنَ المُقاتلين والعوام، ويُلوِّح بسَقْفٍ أعلى ممَّا التزمَه «السنوار» طيلةَ الشهور الماضية، ويرُدُّ على منطق «التفاوض تحت النار» بالبديل الحماسىِّ المُمكن، أى بالتفاوض على رقاب المخطوفين، وهكذا يتصوَّرُ أنّه يُعادِلُ أثرَ ضربة «مدرسة التابعين» على جولةِ الهُدنة المُقبلة، ويفرضُ على نتنياهو طَرحًا مُضادًّا لرُؤيته العُنفيَّة، الباحثة بالنار عن تنازُلاتٍ فى الميدان أو على طاولة الحوار.
يُحتَمَلُ ألَّا تكونَ الرسالةُ تجاوزت حنجرةَ «أبو عبيدة»، أو بالأحرى حسابه على تليجرام، بمعنى أنّه صَرَّح بالعمليَّة دون تنفيذها، سَعيًا لاستحصال أثرها النفسىِّ دونَ فقدان إحدى الأوراق القليلة الباقية، وقد قُتِلَ فى الشهور الماضية كثيرون من الأَسْرى، وصار الباقون أثمنَ من التضحية بهم فى مُغامراتٍ استعراضيّة غير مُثمرة. لكنَّ الأثرَ الجانبىَّ هنا يبدو ثقيلاً ومُوجِعًا؛ إذ لن تُقصِّر الآلةُ الصهيونيّة عن توظيف الحادثة فى سياق دعايات الوَصْم والتشويه؛ إمَّا للتنكيل بحماس أخلاقيًّا، أو لمُعادلة خُروقات الاحتلال وارتداداتها على الحكومات الحليفة والضمير العالمىِّ، كما سيسعى نتنياهو لتسويقِ المسألة لصالح عَدميَّة التهدئة مع الحركة، لا سيِّما أنها أعلنت عن الواقعة بعد بيانِ رَفضِها لجولةِ المُفاوضات، والأخطر أنَّ العدَّاد التقريبىَّ للأحياء يتضاءلُ مع كلِّ إعلان، ولو كانت القصَّةُ مُصطَنَعةً أصلاً كما أشرنا، وعند نُقطةٍ مُعيَّنة قد ينفَدُ العددُ بالحسابات الذهنيَّة، وتسقط ورقة الأَسْرى بآثارها الرَّدْعِيّة والتفاوضيَّة، والظاهر أنَّ ماكينة مخبول تل أبيب وحُلفائه تتمنَّى ذلك فعلاً؛ إذ يُروِّجون أنَّ الباقين فوق الثلاثين بقليل، بينما فى القطاع قُرابة مائةٍ وخمسين، ما يعنى أنهم يَعُدّون أربعةَ أخماس أسراهُم فى عِداد الموتى، ويتحرَّرون من هاجس استعادتهم، ولو ظلّوا مُلتزِمين دِينيًّا بعدم التفريط فى الجثامين؛ إذ الوقت هُنا لا يعودُ ضاغطًا، ولا عامل المخاطرة فى الحرب وكثافة القصف والتقتيل.
مُتحدَّثُ الجيش الإسرائيلىِّ عَلَّق على الأمر بأنه لا معلومات لديهم، ويُخضِعون ما أوردته «حماس» للفحص والتدقيق. إنْ استوثَقُوا فقد لا يردعُهم اليقينُ عن سلوكهم الراهن؛ إذ القرارُ للمُستوى السياسى، ونتنياهو هُنا سيضمَنُ مُواصلةَ الحرب مع فَكِّ «طوق الأسرى» عن رقبته، وبرصاص الأعداء لا بالنيران الصديقة، ولا فارقَ بين أن يكونَ انحرافًا فَرديًّا أو بقرارٍ مُؤَسَّسىٍّ؛ اللهم إلَّا فى الفُسحة الزمنيّة وإيقاع الإنجاز.. أمَّا لو ثَبَتْ لديهم أنه تلويحٌ دعائىٌّ؛ فلن يُقيموا اعتبارًا أيضًا للمسألة فى الميدان أو السياسة، مع جَنى المكاسب العاطفيَّة دون خسارةٍ ماديّة، وازدياد اطمئنانهم إلى تعقُّد أوضاع الحركة وانعدام خياراتها، وأنها تضرَّرت عَسكريًّا وتعطَّلت إداريًّا؛ لدرجة أن تستعيضَ عن القتال بالتهديد، ولا تستنكفُ أن تَسُوقَ ما يُشير إلى تَشقُّق جدرانها وانحلال سُلطتها المَركزيَّة، بما يسمحُ لآحاد المُقاتلين باتِّخاذ قراراتٍ عشوائيّة تقعُ فى نطاق الاستراتيجيَّات والمصالح العُليا. والخُلاصة؛ أنَّ العقلَ المُدبِّر فى أنفاق القسَّام بدا أنه يستنفِدُ أفكارَه، وقد أعيَتْه الحِيَلُ مع جنون نتنياهو ومُمارساته الوضيعة تجاههم وفى بيئته؛ حتى أنهم لا يُفرِّقون بين ما يُخيفه ويردعه فعلاً، وما يخدمُ سَرديَّته ويُمكِّنه من مُواصلة المُراوغة والالتفاف وتقطيع الوقت.
فى الأُصوليَّةِ تعلو الفكرةُ على مُعتنقيها، ولا يهمُّ أن تذبُلَ الأرواحُ والعقول طالما اخضرَّت الأيديولوجيا، وفى هذا قد لا يختلفُ نتنياهو عن المُمانعة بأطيافها.. تتلاقى الإراداتُ جميعًا على التهدئة؛ إلَّا لدى الأطراف المُباشرين. زعيم الليكود يتعلَّق بأهداب الحرب، أكانت حصرًا فى غزَّة أم نجحَ فى تمديدها شمالاً من لبنان حتى إيران، و«حماس» مَشبوكةُ فى ذَيل المحور الشيعىِّ، بينما يُقَيِّمُ مُعادلةَ الدم الغزِّية بحِسبة المَنفعة المُباشرة وما يصبُّ فى أرصدته السياسية. وبينما تتعثَّرُ الحركةُ فى أجندتها العابرة للحدود، يتحوَّلُ «آيات الله» وأذرُعهم إلى بنادق صوت، وتتبدَّلُ اللغةُ من الثأر الماحق، إلى الردِّ المحسوب فى مكانٍ وزمانٍ مُناسبين، رجوعًا لنظرية «الصبر الاستراتيجى» العقيمة والمُضحكة. هكذا قد يُنظَرُ لإعلان حادثة الأَسْرى من زاوية التصعيد وترقية الخيارات، ويصيرُ التشدُّد الدعائىُّ هُنا بديلاً عن غَضبة الحُلفاء الضائعة، وغَسلاً لسُمعة طهران بعد خنجر هَنيَّة ومرارة الصمت، أو كما قال حسن نصر الله إنها غير مُضطرَّة للردِّ.
تضاءلتْ تظاهراتُ إسرائيل، ويترقَّى نتنياهو فى استطلاعات الرأى، ويخشى الجميعُ من حربٍ إقليمية: كُلَّما لاحت فى الأُفق تتوحَّشُ إسرائيل، وكلَّما تأجَّلتْ تزدهرُ منابرُ المُمانعين ولا تتوقَّفُ نوافير الدم فى غزَّة. و«السنوار» إذ يُعلنُ بلسان أبى عُبيدة عن قتيلٍ صهيونىٍّ بعد مذبحة التابعين؛ فإنهما يُرسِّخان المُعادلة الحسابية الظالمة، عن أن الواحدَ منهم بمائةٍ من أصحاب الأرض المنكوبين؛ ويُهلِّلُ العاطفيِّون والمُتأجِّجون أُصوليًّا ومَذهبيًّا لميزان الدم بالدم، ولو مال للجُناة على حساب الضحايا. هكذا يبدو أنَّ فريقًا من المُناضلين، بيننا أو فى حظائر بعيدة، يتقبّلون القسمة الضيزى الآن مثلما تقبَّلوا التضحيةَ بمائةٍ وعشرين ألف قتيلٍ وجريح مُقابل 1200 فقط فى الطوفان، وأنهم قد يدفعون مليونَىّ غَزِّىٍّ إلى محارق الأيديولوجيا والجنون لقاءَ 20 ألف صهيونىٍّ على الأكثر. وأحسبُ أنّه خيارٌ خاطئ، نضالٌ أعمى وقياسٌ مُعتَلّ، وانحيازٌ أقربُ للتصويب على الذات.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة