ربما اعتدنا بفعل فاعل ولزمن طويل أن نتعامل مع العلوم التي لا يمكن ترجمتها مباشرة إلى مكسب ملموس ومباشر بوصفها علوما هامشية، وهي العلوم التي يحلو للبعض اعتبارها مجرد كلام، ليس له مردود على أرض الواقع، ولهذا السبب تم تقسيم التخصصات لدينا إلى علمية وأدبية، مع اعتبار أن التخصصات الأدبية هي الأقل في الدرجة العلمية وفي الأهمية.
والغريب أن الحضارات التي نراها الآن في أعيننا مكتملة هي حضارات قامت في الأساس على علوم مثل هذه، فالفلسفة اليونانية مثلا هي التي أنتجت العلوم الرياضية، ومازال هؤلاء يعتبرون أن الدكتوراه في فلسفة العلم أعلى مرتبة بالتأكيد من الدكتوراه في العلم نفسه، وهي نفسها الحضارات التي ترى أنه لا يمكن للإنسان أن يطور علوما مثل الفيزياء والكيمياء من دون أن يكون ملما بتلك العلوم التي يسمونها أدبية أو إنسانية، فهي العلوم التي تمثل البنية التحتية للوعي، ربما لا تظهر في معظم الأوقات على السطح، لكنها تظل هي الأساس المتين الذي لولاه لصار المتخصص في العلوم الأخرى مجرد ناقل لقواعد ومعادلات، أو مجرد آلة لأداء مجموعة من المهارات.
قديما تم اعتبار إقليدس وفيثاغورث فلاسفة، ولولاهما لتوقفت الهندسة عند شكلها البدائي، ومثلهما عظماء كثيرون لم يكن لهم أن يستطيعوا تطوير العلم من دون وعي ثقافي قائم على ركائز من تلك العلوم التي يراها البعض في مرتبة متدنية، ليبدو الأمر كما لو أنهم لا يرون إلا ما يبدو على السطح، وتنعدم قدرتهم على تخيل الأسس التي يقوم عليها بناء العلم كاملا ، ولعل الخطأ قديم في وعينا وفي تقسيمنا للعلوم، فماذا لو علمنا مثلا أن علم الجغرافيا يتم تدريسه في كثير من الجامعات الأوربية في أقسام كليات العلوم، وليس الآداب كما يحدث عندنا، وماذا لو علمنا أن العلم بتاريخ الأدب وتطورات المجتمع وعلم النفس والمنطق هي من العلوم التي يتم تدريسها في معظم الأقسام العلمية بوصفها المؤسسة لطريقة التفكير العلمية السليمة، والتي عن طريقها يمكن للطالب أن يعي الطريقة التي يتم بها بناء العلوم التطبيقية.
وقد يندهش أحدنا إذا سمع حديثا لأحمد زويل يتحدث فيه عن المقامات الموسيقية والعروض الشعري العربي ويظن أنه اهتمامات هامشية لعالم كبير، ولا يعي أن هذه العلوم نفسها كانت سببا مهما في كونه هذا العالم القادر على الربط بين التخصصات، لأنه استطاع أن يعي أن الأمر لا ينحصر في مجرد المعلومات أو المهارات العلمية فقط، بل إنه يقوم على فلسفة حقيقية، لكننا لا نعي إلا ما نرى.
إذا كانت رؤية مصر 2030 قد ركزت على بناء الإنسان المصري واستعادته لهويته، وهو أمر يحتاج إلى كثير من العمل، ويؤدي إلى تعزيز ثقة الإنسان المصري بنفسه وبهويته، فإن هذه العلوم على وجه التحديد هي التي ستؤسس لهذا الهدف، وتجعله حقيقة، ومن دونها فإن هذا الإنسان نفسه سيتحول إلى فريسة لكل الثقافات الأخرى التي تعزز من نفسها ومن قدراتها عن طريق جعل هذه العلوم أساسا لبناء شخصياتها.
وربما لا نغالي إذا قلنا إن هذه العلوم الإنسانية هي الحصن الذي يحمي العقل من الوقوع في براثن التيارات المتشددة، بل ربما يكون البعد عنها سببا واضحا في هذا التشدد، ولعل ذلك هو السبب في كون كثير من خريجي الكليات العليا ينتمون إلى تلك التيارات، ناهيك عن كونهم يفتقدون إلى الإبداع الحقيقي حتى في تخصصاتهم، وإن كانوا مهرة فيه.
ولهذا ربما يبدو أن الوقت قد حان لكي نتجاوز معا ذلك التعريف الذي يجعل من العلوم الإنسانية مجرد كلام، ونجعل لها مكانا معتبرا داخل خريطة المناهج الدراسية.