تمر اليوم الذكرى الأربعين على رحيل أول أخ لى عرفته فى حياتى، وأول صاحب وصديق لى فى دُنياى، وأول شيخ لى كان يؤمنى فى صلاته، وأول ناصح ومرشد لى فى هذه الدنيا الموحشة، وأول مُعلم علمنى كيف أخطو خطواتى الأولى فى هذا العالم، وأول حطّاب عرفته فى حياتى يُذلل الصعاب من حولى، رحل سيدى ضوان – بل إن شئت قُل مات أبى – تلك الكلمة التى يرفض قلبى وعقلى أن يستوعبها ولسانى النُطق بها، وتعجز يدى عن كتابة كلمة "مات" وكأنى انقل جبل أُحد من مكانه.
مات أهم رجل فى هذا الكون بالنسبة لى، مات التقى النقى الولى، صاحب القلب الطيب والضحكة الجميلة – وإن كانت شهادتى في أبى مجروحة – مات الشيخ رضوان كما كان يُطلق عليه مُحبيه لمُلازمته بيوت الله، وحُب آل بيت رسول الله، رحل من كان قلبه ولسانه رطبا بذكر الله، رحل من كانت مسبحته وعصاه تفوحان عطرا، وعمامتهُ تعتلى السماء عزة وفخرا، وجلبابه يزيده مهابة وجمالا وإجلالا، وعباءته تنشر الدفئ لكل من حوله، مات الرجل الذى لم يتأخر عن أحد ما استطاع إلى ذلك سبيلا، رحل الرجل الذى كنت أترك الدنيا لأجالسه.. لأنظر إليه.. لأحدثه ويحدثنى.. لأشكو إليه ويسمعنى.. لأرتمى في حضنه ويُطبطب علىّ وعلى قلبى.
فكما كان تاريخ 5 مارس 2021، يوم لا ينسى فى حياتى برحيل أمى وشهداء حادث الكريمات، فأيضا أصبح 6 يوليو 2024 هو اليوم الذى قصم فيه ظهرى برحيل السند والعون فى الحياة، وفى الحقيقة يدخل المؤمنون الجنة في الأخرة عن طريق رضوان – خازن الجنة – ولكنى اُشهد الله أننى دخلت جنة الدنيا على يد "سيدى رضوان" – الحمد لله على نعمة كونه أبى – فكانت على يده تُفتح لى المغاليق، فما أصعب أن يكتب الإنسان إلى أحب الناس لقلبه وعقله، وعجزه عن نقل تجربة فقدان الأب، الذى لم أحمل هما ولم يزُرنى غما في حياته، فرحم الله تلك الابتسامة الرقراقة من ذلك الوجه المشرق وتلك القسمات الجميلة والخلق الحسن النبيل.
واليوم الجمعة يوافق مرور 40 يوما على رحيل - سيدى رضوان – إلا أننى أكتب هذه السطور بيد مرتعشة وقلب ينتفض ألما، ويبكى كمدا على فراقه، وهو من هو "ابوى" الذى اختبرنى الله في حبه، كما اختبر الله تعالى سيدنا إبراهيم في حب إسماعيل بذبحه حتى لا يكون لله شريك في قلبه، كما جاء في بعض التفاسير، أن المقصود ذبح الحب وأن يكون الإخلاص وحده لله تعالى لا شريك له، فهذا تفسيرى في رحيل "الشيخ رضوان"، وهو الذى كنت اعتمد واستند واتكائ عليه في كل شئون حياتى، فطالما هناك "سيدى رضوان"، فأنا في آمان، طالما أولى وجهى شطره، آما وقد رحل سيدى رضوان، فعلىّ أن أولى وجهى شطر المسجد الحرام لإستعن بالله، في كل شيء في حياتى.
لست وحدى الذى افتقدت "سيدى رضوان"، وليس إخواتى فقط، بل افتقده الكثيرين من آهله وأحبابه وأصدقاءه وجيرانه - كما يؤكدون - فالكل يروى له قصة، والجميع يحكى له حكاية، ولكل منهم موقف معه بين مضحك ومبكى، فلا اعتراض على قضاء الله تعالى ولا راد لحُكمه، فلم أتخيل يوماً أنى سأفقد "سيدى رضوان"، لم أتخيل ولو ساعة أن أفقد سماع اسمي على لسانه، لم أتخيل أنى سأتجول في أماكنه المفضلة التي كان يُحب الجلوس فيها دون أن أرى الوجه البشوش والابتسامة الجميلة، واستقباله لى كل مرة كأننى قادم من سفر رغم أننا نعيش في نفس المنزل، لم أتخيل أن يمر اليوم دون اتصال من "سيدى رضوان" للاطمئنان علىّ وعلى إخوتى، رغم أن هذا الأمر يجب أن يكون من اختصاصاتى لكبر سنه، إلا أنه لم يترك لى الفرصة قط.
نعم رحل "سيدى رضوان"، ولكن ستظل ابتسامته وحُسن وطيبة أخلاقه وعلوها يذكرها القاصي والداني، فلقد كنت دائما أدعو الله عز وجل أن يجعل الله يومى قبل يومك ولكنها إرادة الله عز وجل، أن يرحل ذلك السند والعون في الحياة، فلو أردت وصفه، فالقلم لن يتوقف عن ذكر صفاته وسمته ورسمه، فقل عنه ما تشاء، ودودا، حنونا، كريما، جوادا، معطاءا، مصليا، شجاعا، إنسانا، مخلصا، جابرا للخواطر، مصلحا بين الناس، إلى أخر هذه الصفات النبيلة التي قلما تجتمع في شخص في أيامنا هذه، فهو الفارس النبيل "رضوان أبو عيد".
"سيدى رضوان" كان يطلق عليه الناس "حلال العقد"، وذلك نسبة للنزاعات التى يعجز المصلحين عن حلها، وتطول فيها أيام الحل، فبمجرد إجرائه مكالمة هاتفية لأصحاب النزاع، فيصبح كأن شيئا لم يكن، وكأن الله كان يده بمدد من عنده، وكل هذا لإخلاصه وتفانيه فى إنهاء الخصومات، لدرجة أن أحد الإخوة المسيحين قال عنه: "رضوان بتاع الكل، مش بتاع مسلمين بس ولا مسيحين بس، ولا بتاع بلد ولا عيله، رضوان بتاع الكل".. أسأل الله أن يجعل عمله فى ميزان حسناته.
"سيدى رضوان" كان له خبيئة مع الله، لا يعلم عنها أحد شيئا حتى أقرب المقربين منه، لا يعلم ما هي تلك الخبيئة، فقد ترك لنا حب الناس من أعماله الطيبة وأخلاقه الحميدة، رحمك الله أيها الفارس النبيل بقلبك الحنون الذاكر لله فى كل الأوقات وأسكنك الله فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.