كل منا لديه جُرح بداخله ما زال يدمى، من قصة ما، أو علاقة، أو صداقة، أو ارتباط وجدانى، انتهى بالفراق والابتعاد.. ونحن البشر لا نعى ولا نشعر بقيمة الأشياء إلا بعد زوالها، حتى إن الفراق يؤثر على طبيعة حياتنا، لا للفراق، ولكن للفراغ الذى يكون بداخلنا.. وأصعب شىء نواجهه فى الدنيا المحاولة مراراً وتكراراً أن نملأ ذلك الفراغ، ولكن لا نستطيع!.. فالفراق حديثه الصمت ولسانه الدموع ونظره يجوب السماء، الفراق هو القاتل الصامت والقاهر الميت والجرح الذى لا يبرأ، نداهنه بالصبر حينا وبالسلوان أحياناً.. الفراق هو حُزن، كلهيب الشمس يُبخّر الذكريات من القلب ليسمو بها إلى عليائها، فتجيبه العيون بنثر مائها، لتطفئ لهيب الحنين، ويا ليتها تنطفئ بلا رجعة، ولكنها تُخمد، وتبقى شرارة تشعل القلب وتعيده لسيرته الأولى.
معجزة الأدب العربى مصطفى صادق الرافعى، قال فى كتابه "السحاب الأحمر": (ما الفراق إلا أن تشعر الأرواح المفارقة أحبتها بمس الفناء لأن أرواحاً أخرى فارقتها، ففى الموت يُمس وجودنا ليتحطم، وفى الفراق يُمس ليلتوى، وكأن الذى يقبض الروح فى كفه حين موتها، هو الذى يلمسها عند الفراق بأطراف أصابعه، فعند الفراق تُنتزع قطعة من وجودنا فنرجع باكين، ونجلس فى كل مكان محزونين، كأن فى القلوب معنى من المناحة على معنى من الموت! ) .
والموت حقيقة يؤمن بها كل البشر، ومصيرنا الخروج من دنيانا التى محيطها الزمان والمكان.. والأيام تفقدنا الأعزِة بترحالهم من الدنيا وعنها إلى البرزخ، وهذه سنة الحياة إلى أن يرحل الإنسان عن دنياه، ويفقد الغير كما فقد بالأمس الأحبة.
أقول هذا لأننى تجرعت من كأس مرارة الموت، ووجدته يطرق باب بيتنا مرتين، ويسرق من بيننا أجملنا، حينما صعدت روح والدى إلى بارئها، رحمهما الله وأسكنهما فسيح جناته.. فما أصعب الموت، وما أشد فراق الأحبة فى طريق القدر.
فحينما تغيب شمس الأحبة عن سمانا يصبح الكون كله ظلام دامس، يصبح الكون كله من دون أى ألوان وملامح أو أصوات، لم يعد سوى صدى أصواتهم ترن فى أذاننا، لم نعد نرى سوى صور وجوههم، لم نعد نتذكر سواها، لم نعد نتذكر سوى نظرات أعينهم عند وداعنا.. يرحل الأحبة ويتركون فى القلب ندبات لا يزول أثرها حتى وإن توالت الأيام ومرت السنوات.. بدونهم يبكى القلب ويجف بكاء العين، فما أصعب ذلك حين تبحث عن مدامعك فلا تجدها، تبحث عنها كى تُطفئ بها جذوة الاشتياق ولهيب القلب المشتعل، تبحث عنها لتخفف وطأة الألم وحدته على نفسك، ولكنها تأبى النزول، فتظل تحترق ويحترق القلب إلى أن يصبح رماداً.
أكتب هذا وما زال الحزن يخيّم على كل الوسط الفنى وعلى كل العاملين بالشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، بعد الحادث الأليم الذى وقع منذ أيام على طريق الضبعة، وراح ضحيته أربعة منتجين من شركة سينرجى، هم الأعزاء: حسام شوقى المشرف العام على الإنتاج، والمنتجون الفنيون فتحى إسماعيل ومحمود كمال وتامر فتحى، الذين جمعهم العمل والوفاة معاً، رحمهم الله رحمة واسعة وأسكنهم فسيح جناته وألهم ذويهم الصبر والسلوان.
رحل الزملاء الأربعة، وتركوا خلفهم سيرة عطرة وذكرى خالدة بين محبيهم وأصدقائهم وزملائهم، رحلوا وتركوا ذكراهم تحيط بنا من كل جانب، وكأنهم يبعثوا لنا برسالة: (لا تنسونا، واذكرونا دوماً فى صلاتكم بدعواتكم، ولا تذرونا فُرادى).
سأظل أروى أرواح من فارقونا بالدعاء إلى أن نلقاهم بإذن الله، اللهم ارحم واغفر لكل غالٍ تحت التراب، اللهم ارحمهم رحمة تجيرهم من النار وتدخلهم جنات النعيم، اللهم إنا نسألك العفو والمغفرة لنا ولهم، واجمعنا معهم فى الفردوس الأعلى يا رب العالمين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة