خضعت مصر للاحتلال منذ نهاية الحضارة المصرية القديمة حتى رحيل آخر جندى بريطانى عنها فى العام 1956.
هكذا يختصر البعض مراحل حضارية كاملة من التاريخ الطويل لمصر، بنفس جرأة الجهل التى تحدثت عنها فى الأجزاء السابقة من هذه السلسلة من المقالات.
ويا له من قول يحمل إساءة بالغة لمصر وشعبها عبر العصور بإظهار أن المصريين خانعون يحنون رقابهم لكل غازٍ ومعتدى..
فلنستدع إذن شاهدنا القوى.. التاريخ.
فى العام 1177 ق.م. الموصوف بـ«عام سقوط الحضارات»، تعرضت حضارات الشرق القديم لتلك الموجة المدمرة من غزوات شعوب جزر البحر المتوسط التى دمرت حضارات قوية كمملكة أوغاريت الفينيقية ومملكة خيتا المعروفة بدولة الحيثيين فى آسيا الصغرى، وحدها مصر بقيت صامدة فى وجه تلك الهجمة البربرية، التى عاصرت عهد الملك رمسيس الثالث الذى قاد الأسطول المصرى فى أولى المعارك البحرية الكبرى فى التاريخ القديم، ومزق المعتدين شر ممزق.
لكن نهاية عهد ذلك الملك العظيم كانت بداية المرحلة الأخيرة من عمر الحضارة المصرية القديمة، فقد اجتاحت البلاد حالة من فوضى وعدم استقرار الحكم، انتهت بالغزوات الآشورية ثم الفارسية المدمرة التى انتهت بها حضارة أجدادنا العظيمة، تلك الغزوات ووجهت بمقاومة مصرية شرسة حتى إن العاصمة التاريخية طِيبة قد تعرضت لدمار رهيب على أيدى كل من الملك الآشورى آشور بانيبال والملك الفارسى قمبيز لقمع ثورات المصريين ضد الاحتلاليين
فى العام 332 ق.م.
استقبل المصريون الإسكندر الأكبر المقدونى الذى انتزع مصر من الفرس، لتصبح مصر جزءا من إمبراطورية الإسكندر الذى يعد صاحب أول تجربة لـ«العولمة»، حيث أراد أن يشيد إمبراطورية تجمع بين الثقافة الهيللينية «اليونانية» والثقافات الشرقية، وعرفت تلك التجربة الحضارية بـ«الهيللينيستية»، تلك التجربة التى حمل مشعلها بعد الإسكندر ورثته البطالمة، نسبة لقائده وصديقه بطليموس بن لاجوس الذى ورث مصر بعد وفاة الإسكندر.
لم يكن قبول المصريين للإسكندر وخلفائه خضوعا مستكينا لاحتلال، فالمصريون قد أدركوا أن الزمن قد تغير وأن عليهم أن يلعبوا دورا إيجابيا فى تلك المرحلة الجديدة من الحضارة الإنسانية، خاصة وقد أعلن الإسكندر احترامه ثقافة وديانة المصريين، خاصة بقيامه بزيارة معبد إلههم آمون فى واحة سيوة وقدم له فروض الاحترام، وأعلنه الكهنة ابنا لآمون.
وأما البطالمة فقد استمروا فى رعاية مشروع المزج الحضارى الهيللينستى، وأعظم نماذج ذلك كان فى تبنى البطالمة وعاصمتهم الجديدة الإسكندرية لأبرز الآلهة المصرية القديمة، فقد مزجوا بين الإلهين أوزيريس وأبيس فى شخص الإله سيرابيس، وجعلوا من إيزيس- الأم الكبرى المبجلة من المصريين- زوجة له، ومن حورس الذى عرف آنذاك بـ«حربوقراط» ابنا لهما، كما حرص كل من بطليموس الأول وابنه بطليموس الثانى على جمع ما تبقى من موروثات الكتابات العلمية والثقافية المصرية القديمة مع الإنتاج الحضارى لحضارات شرقى المتوسط خاصة اليونان فى المشروع الخالد مكتبة الإسكندرية.
لم يمنع ذلك من وجود أوجه سلبية لحكم البطالمة، كالتمييز العنصرى للعنصر اليونانى وجعله الأعلى شأنا، وكذلك من اعتنقوا الثقافة الإغريقية من المصريين، الذين عرفوا بـ«المتأغرقين» وفى مظالم بعض الحكام البطالمة التاليين لبطليموس الثالث، ولكن تلك المظالم قوبلت بثورات شعبية عنيفة بعضها كان فى العاصمة التاريخية طيبة والبعض الآخر-الأشد خطورة- كان فى العاصمة الإسكندرية نفسها، لكنها لم تكن ثورات موجهة نحو محتل غريب، بل ببساطة ضد ملوك فاسدين أو ظالمين أو لاهين عن مصالح الشعب...
بلى.. فالمصريون منذ ما قبل عصر البطالمة بقرون قد استوعبوا فكرة «التمصر»، والبطالمة وإن كانوا من أصل أجنبى، إلا أن أغلبهم قد ولدوا ونضجوا على أرض مصر وتحت شمسها، وعاشوا وماتوا ودفنوا فيها، وقد شهدت الحضارة المصرية القديمة تجربة حكم سابقة لأسرة متمصرة هى الأسرة المعروفة بالليبية التى أسسها الملك شيشتق الأول، الذى هاجر جده السابع إلى مصر فى زمن سابق ليبدأ نسلا من المتمصرين أشهرهم الملك شيشنق «ملحوظة: بالنسبة للأسرة النوبية التى يعدها البعض أجنبية الأصل، فإننى لا أعدها كذلك لأن أسلاف ملوكها كانوا من الكهنة المصريين الذين انتقلوا من طيبة إلى نباتا فى بلاد كوش». ..
فكان القانون غير المكتوب للمصريين هو: مرحبا بمن جاءنا وقد أراد أن يصبح واحدا منا وشريكا فى تجربتنا الحضارية.
بموجب هذا القانون تقبل المصريون شيشنق والبطالمة، وبموجب نفس القانون رفضوا ولفظوا الهكسوس والآشوريين والفُرس، وعندما طرق الرومان بقيادة يوليوس قيصر أبواب مصر، وسار قيصر بغطرسة فى شوارع الإسكندرية حاملا شاراته الرومانية، ثار السكندريون ضده وأذاقوه مقاومة شرسة حتى إنه اضطر لاستدعاء الإمدادات، وقام بإحراق السفن الراسية بميناء الإسكندرية ليصنع ساترا ناريا يفصله عن الثوار، فامتدت ألسنة اللهب للمدينة وأحرقت قطاعا كبيرا منها، وكانت مكتبة الإسكندرية بما فيها من كتب قيمة أكبر خسارة فى هذا الحادث.
وعندما أكمل أوكتاڤيانوس المعروف بـ«أغسطس قيصر» ضم مصر للإمبراطورية الرومانية، سرعان ما اندلعت ثورات ضده وضد الحكم الرومانى، عندما أرسل رجاله لفرض الضرائب الثقيلة على المصريين، فى إعلان ضمنى أن روما قد قررت معاملة مصر وشعبها كـ«بقرة حلوب» تستنزف حتى يجف ضرعها وتصبح جلدا على عظم.
لم يستكن المصريون للحكم الرومانى، فكانت الثورة تلو الأخرى تندلع فى الإسكندرية وطيبة ومدن الدلتا، وكان الرومان يضطرون لاستدعاء الفرق ثقيلة التسليح لإخماد تلك الثورات بالقوة الغاشمة.
لم يخضع المصريون إذن للاحتلال الرومانى، وحتى إن كان ذلك الاحتلال الغاشم قد استمر لعدة قرون، فما كان ذلك عن خنوع من شعب مصر، بل كان لمجرد فارق القوة المسلحة، وتكرار ثورات المصريين رغم ذلك الفارق هو خير دليل أن شعب مصر لم يكن ليقبل أن يكون لقمة سهلة الهضم على المعدة الرومانية المسلحة بالحديد والنار، بل إن ثورات المصريين على الاحتلال الرومانى قد أخذت بعدا لا يقل قوة، أظهر فيه الشعب المصرى إبداعا فى تمرده على الهيمنة الرومانية، تجلى فى تجربة حضارية فريدة من نوعها تستحق أن تدرس للأجيال القادمة، تلك التجربة أحدثكم عنها إن شاء الله فى المقال المقبل من تلك السلسلة من المقالات.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة