تغيَّرت الصورةُ قليلاً عمَّا كانت عليه لأسابيع.. خلاصةُ جولة الدوحة أنَّ الوسطاء حقَّقوا بعض الاختراقات فى الخطوط العريضة للهُدنة، وعبَّرت واشنطن عن تفاؤلها بالبداية المُشجِّعة؛ وإن أرفقته بإشارةٍ للتعقيدات وأنها لا تتوقَّعُ صفقةً سريعة. سيعودُ الجميع للقاء فى القاهرة خلال أيام، وليس معروفًا إلى الآن هل تلتحق «حماس» بالطاولة؛ أم تظلّ على موقفها بانتظار تفعيل ورقة يوليو، ورَفضِ النقاش فى الشروط التأسيسية المحسومة من جانبها. والموقف هكذا ربما يبدو مُعلَّقًا ولم يُغادر نقطةَ الاختناق؛ إنما بعض المُؤشِّرات المُتفرِّعة عن المحاولة قد تحملُ من علامات الإيجابية، قدرَ ما فيها من نُذر القلق، ومحاولات الالتفاف الإسرائيلية المُعتادة. ربما لم تنصرف إرادةُ الطرفين بكاملها نحو التهدئة؛ لكنَّ المحاولات غير اليائسة يُحتمَل أنْ تفتحَ كُوّةً فى الجدار، والرهان اليومَ على أن يُرتِّبَ الوقتُ والحوارُ ما بعثرته الفوضى والجنون، والأجنداتُ الانفعاليَّة المشحونة بالأيديولوجيا والهُويَّات الصاخبة.
لدى الحماسيِّين مطالبُ منطقيّة يتمسَّكون بها، ولديهم بطبيعة الحال التزاماتٌ تجاه محور المُمانعة، وإذا كانوا يتطلَّعون بجدّية واحتياجٍ حقيقىٍّ لوقف الحرب؛ فإنهم غير مُطلَقِى اليد تمامًا فى الوصول لتفاهُماتٍ لا تُوافق أولويَّات الشيعية المُسلَّحة؛ أمَّا الصهاينةُ فإنهم محبوسون جميعًا فى رؤية نتنياهو وأهدافه الشخصية، وهو إذ يعود عنها بطيئًا ولوهلة قصيرة، سرعان ما ينقلب على نفسه ويتشدَّدُ فى الشروط والترتيبات. والمُبرِّر الأخلاقى المُساق منهما: أكان مُعاناة الغزِّيين تحت النار، أم الأسرى المحبوسين فى الأنفاق منذ شهور، لا يبدو سوى ورقةٍ لتمرير حالة التصلُّب؛ بدلاً من أن يكون دافًعا للتعقُّل وتليين المواقف. فكأنَّ المأزومين الذين يجرى التفاوض باسمهم صاروا رهائن للفريقين، ومهمَّة الوساطة هنا كما ينظرُ إليها كلُّ فريق، أن تُجنِّبَه الخسائرَ وتستخلص له المكاسب، والعكس مع الغريم، بينما تعريفُها الواقعىُّ والعملانىُّ لدورها أن تُوزِّع الأنصبة باعتدالٍ، فى ضوء ما جناه كلٌّ منهما على نفسه؛ إذ لا يستقيمُ أن تعودَ الأحوالُ لِمَا قبل 7 أكتوبر، للاحتلال أو الفصائل على السواء. تحرَّك الزمان والمكان؛ ولم يعُد مُمكناً شَطب الشهور الماضية، ولا الرجوع لتوازنات ما قبل الطوفان.
فرضَ الميدانُ شروطَه على خَصمى الحرب؛ وإنْ اعتصما بلُغةٍ قديمة لا تُشبه ما آلت إليه الأحوال.. يعرفُ «السنوار» فى مكمنه العميق أنَّ الحركة تضرَّرت فى العدد والعتاد، ويحتاجُ القطاعُ وأهلُه للوَضع على أجهزة الإنعاش فى رحلة علاجٍ طويلة ومضنية، كما يعرف نتنياهو وراء مكتبه المُحاط بالغاضبين والمُعترضين أنه عاجزٌ عن استكمال الحرب بالعناوين القديمة، ولو استمرَّ فيها فلن يُحقِّق ما يُضاف للسابق؛ اللهم إلَّا مزيدًا من القتلى والفشل والإدانة وتشقُّق الصورة. كلاهما يحتاجُ الهُدنةَ على وجه السرعة؛ إنما يمنعُه عنها الطمعُ أو الكبرياء أو مواصلة لُعبة «عضّ الأصابع» لآخرها، على أمل أن يتوجَّع الغريمُ فينزل عن الشجرة ويرضخ للضغوط. والحال أنَّ الجبهتين تضرَّرتا للغاية؛ لكنَّ الزعيمين يُمكنهما البقاء طويلاً فى المناخات القاتمة، والصراع حاليًا ليس بين تل أبيب وغزّة، ولا على إفناء الفلسطينيين أو تمكينهم من دولتهم؛ إنما بين رجلين يختزلان المسألةَ فى شخصيهما أوَّلاً، ثمّ فى التحالفات والالتزامات التى يُؤسِّسان حضورَهما السياسى والحربى عليها، وهى دائرةُ الأُصوليَّة التوراتيَّة للأول، وبرنامج الصفويَّة المًغطَّى بالدين والمذهب لدى الثانى.
الأسبابُ التى تُصلِّبُ ظهرَ كلٍّ منهما، هى نفسها يُمكن أن ترُدَّه عن المقامرة المفتوحة. لقد بزغت تشقُّقاتٌ فى بِنية الائتلاف الحاكم لإسرائيل بشكلٍ يُهدِّد بقاءه وفاعليَّته، و»الحريديم» اليوم غاضبون من بعض السياسات، والجنرالات ليسوا على وفاقٍ كامل مع رئيس الحكومة، حتى أنه سرّب لإعلامه المُوالى ما يُبشِّر بقرب إقالة وزير دفاعه يوآف جالانت، وبين غضبة حزب شاس وداعميه، أو وصول أثر الموجة لداخل الليكود نفسه؛ قد لا تكون تهديدات بن جفير وسموتريتش الأخطرَ أو الأعلى صوتًا، وهنا ربما يتَجه نتنياهو لترويض حليفيه المخبولين، مُنطلِقًا من وعيهما الكامل بأنَّ مُغادرة السلطة ستكون رحيلاً بدون عودة، وعلى الأرجح سيرضخان عندما تنسدُّ مسارات التمرُّد أمامهما.. أمَّا بالجانب المُقابل؛ فالقائدُ الجديد لحماس يتلقَّى ضربةً إضافيّة من أصدقائه المُقرَّبين، لا تختلف فى شىءٍ عن سابقتها. لقد أطلق «طوفان الأقصى» مُتعشِّمًا أن يلاقوه فيه بفَتح الجبهات الرديفة؛ لكنه تُرِكَ عاريًا مع شعبه الأعزل فى مُواجهة الإبادة الصهيونية، وإن كانت آمالُه انتعشت ثانيةً بعد اغتيال إسماعيل هنيّة فى طهران، وارتفاع حناجر الملالى والحرس الثورى وحزب الله باللطميَّات والثارات، فما طال الوقتُ ليكتشفَ أنها دعاياتٌ لا تتجاوزً الأفواه، بعدما تعلَّلوا أوَّلاً بدراسة الردِّ، ثمَّ بفلسفة العقاب بالانتظار، وأخيرًا إفساح المجال للمُفاوضات حتى لا يُؤثِّروا عليها؛ فبدا الموقفُ واضحًا لناحية أنهم لا يجنحون للتهدئة وعصمة دماء الغزِّيين؛ إنما يبحثون عن أعذارٍ أمام أنفسهم وحواضنهم الشعبية.
العقولُ ميَّالةٌ لإخلاء الميدان؛ لكنَّ النفوسَ أمَّارةٌ بالسوء. قاطعت «حماس» جولة الدوحة؛ وانتظرت موافاتها بالنتائج عبر الوسطاء، ولم تقطع إشاراتها الخضراء بالإقدام على صفقةٍ أقلّ كثيرًا مما طلبته سابقًا، وكذلك نتنياهو يُقدِّم شروطًا صعبة، ويلتَفُّ على النقاط سابقة الحسم؛ لكنّه يُرسِلُ وفدَه الأمنىَّ مشمولاً بأحاديث التفويض بكامل الصلاحيات. ولا يُمكن النظر لإعلان الحركة قبل أسبوع عن مقتل أحد الأسرى برصاص عُنصرٍ قسَّامىّ، فيما وصفته بالاستجابة الانفعالية بعدما تلقَّى نبأ استشهاد طفليه؛ إلَّا أنه ضغطٌ لأجل الحلحلة، واعتمادٌ لمَنطق العدوِّ فى «التفاوض تحت النار» وفقَ إمكاناتها الحالية، وبالمثل كانت «مجزرة التابعين» حصَّةَ زعيم الليكود من الآلية نفسها؛ لكنه بجانب ذلك أوعز لفريقه بخَلط الأوراق؛ فأعلنت هيئةُ البثِّ الإسرائيلية نقلاً عن مسؤولين أمنيِّين، أنَّ الجيش أنهى عملياته فى غزَّة ويُمكن الذهاب لصفقة تبادُل، مع احتمال التوغل مُجدَّدًا بحسب الظروف والمعلومات الاستخباراتية، وهكذا فإنه يُقدِّم العصا والجزرة معًا، بينما الحركةُ رفعت عصاها ولم تُلوِّح بجزرتها. ربما يكون مُفيدًا البحث من جانبها عن بدائل للإحماء الدائم؛ لا سيما أنه لا يُفضى لشىءٍ تقريبا، والخيار العقلانىُّ هنا أن تُعلِنَ مثلاً وقفَ القتال ولو من جانبٍ واحد، وهو شِبهُ مُتوقَّفٍ بالفعل، كأنها تُلقى القفَّازات وتُقيم الحجَّة على الجُناة، دون إرخاء مُبرِّرات الاشتباك غير المُتماثل، وتسويغ المقتلة تحت غطاء «حرب العصابات» وآثارها الجانبية. لن يكون هذا استسلامًا على الإطلاق؛ بل رجوعًا لخندق التكتيك بعدما تبدَّت استحالة الاستراتيجية، وتضرَّرت القُدرات العملانيّة، وغامت سماءُ الحِسبة الجيوسياسية بضباب إيران والحزب؛ الذى لا يُمرِّر الضوء ولا يكفى لإظلام الأُفق تمامًا.
ما تزالُ الفجوات واسعةً بحسب المنقول من أجواء التفاوض، ولعلَّ الاتساع ناشئٌ عن تشدُّد الصهاينة، بقدر ما هو من غياب الحماسيِّين، فالحال أنَّ المُنازعة الثُّنائيةُ لا تستقيمُ نقاشاتها لو انسحب أحد الطرفين، وقتَها تتسيَّدُ أجندةُ الحاضر، ولا يكون بوُسعِ الوسطاء أن ينوبوا عن الغائب. بإمكانهم حراسةُ المنطق والاعتدال؛ لكنَّ مُعادلةَ الكَفَّة المائلة بثِقَلٍ مُقابلٍ لا تتأتَّى إلَّا من صاحب الشأن، وبحضوره الأصيل لا عبر وكلاء؛ فمهما كانوا مُنحازين لروايته إنسانيًّا وأخلاقيًّا، سيعجزون عن ترجمة الانحياز لُغةً صلبة قد تفُضّ الطاولة. إنَّ القاتلَ إذ يحضرُ فى ظلِّ العباءة الأمريكية؛ فلا بديلَ عن استحضار السرديَّة الفلسطينية بجانب الوسيطين المصرى والقطرى؛ فهكذا تستقيمُ الصورةُ وتعتدل. وبعيدًا من المُناكفات المفاهيميَّة، وأننا لا نحتاجُ لإعادة تعريف الحق والباطل؛ فنحن إزاء سياقاتٍ فرضَتْ نفسَها، وعلينا التعاطى معها بالأدوات المُتاحة، لا التعالى عليها بالعاطفة أو المثاليَّات مهما بدت مُستحَقَّة. وقد جرَّبت الفصائلُ شهور القتال دون نتيجةٍ سوى الإبادة؛ فماذا يضيرُ فى تجربة الدبلوماسية على طولها ومشَقَّتها؛ لا سيِّما أنها لا تأكلُ ما تأكله الميادين المُشتعلة، وإن لم تفد المظاليم؛ فلن تُكبَّدَهم أكثرَ من جولات الحديد والنار.
كلُّ طرفٍ يُعرِّفُ ما وصل إليه تحت صِفة النصر؛ وكلاهما مهزومٌ وخاسر ولو تفاوتت الدرجات. لا أحسبُ نتنياهو مُغيَّبًا لدرجة أن يعتقدَ فعلاً، وعندما يختلى بنفسه، أنه بطلُ وأنجز ما يُنَصِّبَه بين ملوك اليهود التاريخيين، كما أتصوَّرُ عن رجاحة عقل «السنوار» أنه لا يبيعُ لنفسه أوهام الإنجاز وكَسر شوكة العدوِّ. وإزاء الأزمة المُشتركة؛ فالخروج من ميدان الحرب مصلحةٌ للطرفين، بينما يُقدِّر كلُّ منهما شكلَ الانسحاب بما لا يمسّ صورتَه المُتخيَّلَة عن ذاته. الذهابُ للحلول الخَشِنة يصبُّ فى صالح الأقوى بطبيعة الحال؛ لكنه لا يُجنِّبه الوَصْم والخَدشَ وإهدارَ المكانة. ربحَ القسَّاميَّون نفسيًّا، وخسروا على الأرض، وعدوُّهم فازَ فى ناحية وهُزِمَ فى غيرها، لكنّه إذ يحاولُ صرفَ الفائدة كُلِّها لنفسه ودولته، يبدو مُنافسُه كأنه راسخٌ فى جغرافيا فلسطين، وعينه مُعلَّقة على تاريخ فارس وحاضرها. وهكذا قد يتيسَّر للقاتل أن يصرف مكاسبَه ويتهرَّب من خسائره؛ بينما يدفع القتلى وحدهم كُلفةَ الجولة، وتذهب منافعُها لآخرين!
انطلاقًا من التصوُّر المنطقىِّ عن فائدة الهُدنة؛ فالمُعضلة الكُبرى تبدو محسومةً تقريبًا: الحربُ لن تفضى لشىءٍ غير تضخيم جناياتها، دون إمكانية إلغاء الفلسطينيين أو إلقاء الصهاينة فى البحر. والعدوُّ إذ يطلبُ أسراه؛ فإنهم فداءٌ لمليونين مَوضُوعين على مذابح الإبادة، لا لعِدَّة آلافٍ فى السجون يُمكن أن يُخرجَهم من بابٍ ويُدخِلَهم من غيره، أو يستعيض عنهم ببُدلاءٍ من الضفَّة والقطاع، وقد فعلها سابقًا وما زال. لنحصر نقاطَ الاتفاق: وَقف النار، ومُبادَلة الأَسْرى، والبحث عن تهدئةٍ طويلة المدى، وبدء جولة جديدة ومُتكرِّرة من الإعمار على موعدٍ مع تخريبٍ جديد. إذا كان المُحتلُّ يُوقن أنه فى امتحانٍ وجودىٍّ، وتعرفُ الفصائلُ أن الهُدنةَ استراحةٌ بين حربين؛ فلماذا لا يُسارُ إليها اليومَ قبل أنْ يستبدَّ اليأسُ بخزَّان النضال الوطنىِّ، أى البشر الذين قاربوا على الكُفر بالمقاومة كما بالاحتلال؟ البحثُ عن وقفةٍ مثاليّة يُوحى بأنَّ الحركةَ تنتظرُ ترتيبًا للحلِّ النهائى، والتشدُّد الغبىُّ يُستَشَفُّ منه أنَّ الليكود يتوخَّى إنجاز خطّة الإفناء الآن؛ وكلاهما واعٍ تمامًا بخفَّة الخيارين، وإجبارية العودة للقتال مُجدَّدًا، طالما لم يتوحَّد الضحايا، ولا يتقبَّل الجُناةُ أىَّ حديثٍ عن دولتين. الضغط المُتبادَل على الأعصاب لن يجعلها الجولةَ الأخيرة، وإن أتاح للعدوِّ تأخير تاليتها؛ وهكذا فإنَّ التصلُّبَ الحماسىَّ اليومَ يخدمُ الإجرامَ الصهيونىَّ غدًا، بأكثر ممَّا يُزعجه كما قد يتوهَّم الرومانسيِّون والسُّذَّج.
الخلافُ بحسب المُتداوَل ينحصرُ بالدرجة الأكبر فى محورى فيلادلفيا ونتساريم، وبدرجةٍ أقل فى الجداول الزمنية وقوائم الأَسْرى وطبيعة الانتقال بين المراحل. ومسألةُ الجنوب لن تمُرَّ إطلاقًا بما يمسُّ المصلحةَ الفلسطينية؛ إذ تتقاطعُ مع ثوابت الأمن القومىِّ المصرى، ولدى القاهرة ما يكفى من الأوراق لتحييد نوايا تل أبيب عن استبقاء مسمار جُحا عند أطراف رفح، كما أن ملفَّ المعابر سيُصارُ إليه فى النهاية وفقَ اتفاق 2005، عبر السلطة الوطنية حصرًا، أو بعودة الأوروبيِّين كما كانت الأحوال قبل انقلاب حماس. أمَّا محور الوسط فالفكرة الصهيونية فيه أن يضمنوا عدم عودة المقاتلين للشمال، والحال أنهم لم يعودوا قادرين على القتال شمالاً أو جنوبًا، ولا تملك إسرائيل بياناتٍ وافيةً عن عناصر القسَّام لتفرزهم من المدنيِّين العائدين، طالما ساروا بينهم دون سلاح، والأهمُّ أنها نقطةٌ قابلةٌ للتذويب بالضغط والتفاوض الجاد. وفيما يخصُّ المُعتقلين فلَسْنا فى وارد الحديث عن بلدٍ يحترمُ تعهُّداته، وقد يُخرِجُ البرغوثى وسعدات وغيرهما ثمَّ يُعيد اعتقالَهما، أو يغتالهما كما فعل مع «هنيَّة» فى طهران و»العارورى» فى بيروت. المشهد فى واقع الأمر لا يخلو من خِفَّة؛ إذ يُمسِكُ «السنوار» بالبطاقات لاستعراض القوَّة لا أكثر، بينما لا يغيب عنه أن عدوَّه الساقط أخلاقيًّا قد يمنحه ما يُريد ثم يُحرقه فى يديه، وهو نفسه لا يضمنُ حياتَه لحظةً خارج الأنفاق، ولو باتفاقات الدنيا وضمانات كلِّ أهل الأرض. فكأنَّ الثباتَ المَمدوحَ اليومَ يخصمُ من الغزِّيين العُزَّل، ولا يُضيِفُ لمقاومتهم المُسلَّحة؛ هذا لو استبعدنا فكرةَ ارتباطه بباقة الأهداف المُحدَّدة من عاصمة المحور الشيعىِّ.
النقطةُ السابقةُ تُعيد ربطَ الجبهات ببعضها؛ حتى لو بدا فى عَمليًّا أنَّ «وحدةَ الساحات» مُجرَّد شعارٍ غوغائىٍّ لا ظِلَّ له فى الواقع. لقد قُتِلَ أرفع القادة العسكريين للحزب على بُعد أمتار من حسن نصر الله فى حارة حريك، وقُطِفَت رأسُ «هنيَّة» فى أحضان المُرشد، وتأخَّر الردُّ عن أطول إرجاءٍ سابقٍ عندما قُصِفَت قنصلية إيران فى دمشق، بينما حجَّلت أحيانًا برسالتها قبل أن ينقضى الأسبوع، كما فى حالة قاسم سليمانى بالعراق. والمعنى أنَّ فلسطين بكاملِها أداةٌ لا موضوع نزاع، وحماس والجهاد بيادق على رقعة الشطرنج، وما يعنى «محور المُمانعة» مصالحه فى نطاق التمدُّد الأصلىِّ والعواصم الرديفة. لقد اتَّخذ من غزَّة ذريعةً للتسخين حينما كان مُفيدًا، وحُجَّةً للتبريد عندما وجدَ نفسَه مُضطرًّا، أو فَرَضَتْ البراجماتيَّةُ أن يتلافى مخاطرَ الحرب. وإذا كان إفساحُ المجال للمُفاوضات تبريرًا مُقنعًا لخِراف الحظيرة الأُصوليَّة؛ فَتَعَطُّل الاتِّفاقِ يُطوِّقُ القيادةَ من ناحيتين: لا جاءَ الردُّ، ولا الخُطَبُ أخافت الاحتلال وأجبرته على التنازل، والعقاب بالصمت والانتظار يضرُّ لبنان أكثرَ من إسرائيل، ولا يُوقِفُ طاحونةَ الدم فى غزَّة، وحينما يأتى الثأرُ هَشًّا واستعراضيًّا ستكونُ الضربةُ مزدوجةً: إحباط الفصائل، وهدية جديدة لا نعرفُ كيف سيُوظِّفها نتنياهو فى مهمَّته الإبادِيّة.
هكذا أُضِيرَت فلسطين من شَرخِها بالعقيدة، ومن انقسام أُصوليَّتها عن الأجندة الوطنية، ثم التحاقها بالشيعة. وهذا ما ضاعفَ تضرُّرَها من الاحتلال ولم يكبحه. أراد المُمانعون تقطيعَ الوقت تحت راية التفاوض، فخسروا وأُحرِجُوا وأضعَفوا المنكوبين؛ إذ بدت «حماس» عاريةً من الإسناد، وتكشَّفَتْ خِفَّةُ الورقة التى يُخبِّئها الداعمون وراء ظهورهم، وبينهما يصيرُ الاتِّفاقُ صعبًا لأنه لا تغيير فى التوازنات، وتصيرُ الحربُ الإقليميّةُ مُستحيلةً لأنَّ الحركةَ غير قادرةٍ عليها، والمُمسِكين بزمامها من الخارج لا يًريدونها. وإذا كانت كُلفةُ المُواجهة الشاملة مزيدًا من نزيف الدم والاقتصاد، وخراب فلسطين ولبنان وغيرهما، وضَغطًا على رئة المنطقة حتى تُجْهِدِ أو تنقطعِ أنفاسُها؛ فالحال أنَّ الإقليم يُسدِّدُ الفاتورةَ كاملةً، دون أثرها العُنفىِّ الذى قد يكون مُفيدًا أحيانًا، لأنه يصدمُ النزوات ويُرشِّدُ الخيارات، ويفتحُ الباب لتسويات بقَدر الخسارات الكُبرى. هكذا لا يقعُ الحَسْمُ الخَشِن، ولا يُفتَحُ الأُفقُ لتسويةٍ ناعمة؛ والرابحُ الوحيد مخابيل اليمين الدينىِّ والقومى فى إسرائيل؛ لأنهم يقطفون ثمارَ العملية التفجيرية دون أعبائها، ولم يطرأ ما يضطرُّهم لتغيير المُعادلة التى تستنزفُ خصومَهم، وتُحقِّقُ مُرادَهم بأقلِّ التكاليف، وحتى تلك يدفعُها الأمريكيون وذيولهم الأوروبية.. الهُدنة وسيلةٌ لا غاية؛ لكنها مهمَّة إنقاذية لا يجوز التقاعسُ عنها، وهى بعيدةٌ بُعدَ الأوهام والفَهم المغلوط للصراع بصِفَتِه الوجودية، وقريبةٌ بمقدار ما يستوعب مُحتاجوها حجمَ الضرر المُتصاعد مع كلِّ يومٍ من الحرب غير المحسوبة، وقد اندلعت أصلاً بتطميناتٍ مُخادعة، واختلالٍ فى الأهداف والتحالُفات، وغالبًا وفقَ مواقيت نابعةٍ من أجندةٍ «فوق فلسطينية».