الواقع أن من يتابع ردود الأفعال والمناقشات على مشروع وخطط تطوير أو تحديث التعليم سوف يرى عجبا، وقد قلنا إن الحوار مع ما يتم عرضه هو أمر واجب فقط مع مراعاة العقل والمنطق، وأننا نناقش قضية مزمنة وتعليم يعانى من تراكمات عقود وتجارب تمت على مدى عقود وبقيت من دون مراجعة أو مناقشة، وخلال السنوات الماضية، شهدنا تجارب عملية على وجود مراكز قوى وتكوينات مصالح، لا يهمها تطوير التعليم او التربية، ولكن فقط أن تظل مصالح هذه الطبقات قائمة ومستمرة، ولبعضها من داخل دواليب الدولة.
ولعل تجربة الدكتور طارق شوقى أبرز مثال على مدى تغلغل أصحاب المصالح داخل الوزارة، وأنهم نجحوا فى تنحية أى أفكار عن التطوير، بل إن بعض أباطرة الدروس الخصوصية خرجوا ليستعرضوا علنا حشد آلاف الطلاب فى مسارح ومدرجات وصولا إلى الاستاد، لنكتشف أن معلما يزعم أنه قادر على توصيل المواد لآلاف الطلاب فى مدرج، بينما يعجز عن التدريس فى فصل من عشرات الطلاب، خلال سنوات تمت الإطاحة بكل مظاهر الهيبة للتعليم وأصبح هناك أباطرة يتباهون بنشر الجهل والتجهيل.
وقد يكون هناك مجال لمناقشة بعض ما طرحه وزير التعليم من دمج وإلغاء بعض المواد، فى العلوم أو فى المناهج الاجتماعية، حيث يفترض أن عملية الدمج والإلغاء لمواد مثل الأحياء والجيولوجيا، قائمة على دراسة الكم والكيف وما هو مطلوب أن يعرفه الطالب قبل الجامعة ، بحيث يكون جاهزا لاستيعاب ما يتم تدريسه فى الجامعات، مع الأخذ فى الاعتبار أن أهم ميزات التعليم الأساسى الناجح أنه يجهز الطالب لمرحلة من حياته يكون فيها قادرا على العمل أو الدراسة الجامعية لتوسيع معارفه، بشكل يجعله قادرا على تحصيل العلم بنفسه أو بطرق متنوعة للاطلاع والبحث.
الحادث أن من يتباكون على الجيولوجيا من معلمين وأباطرة دروس خصوصية هم فى الواقع لا يدافعون عن المنهج وأهميته بقدر ما يتباكون على ضياع مصالحهم، وهو أمر ظاهر لدى قطاعات ممن بدأوا حملات لا تهدف إلى الدفاع عن اللغات وتعليمها وإنما عن مصالح الدروس الخصوصية، وهناك مدرس لغة عربية محترم يدافع بالفعل عن أهمية تعليم اللغات فى المدارس الحكومية، مع اللغة العربية طبعا، لكنه لم يقدم تفسيرا لضعف مستوى الطلاب فى اللغة الأولى والثانية بل واللغة العربية بالرغم من وجود كل هذه المراكز للدروس الخصوصية، ونحن بالفعل بحاجة إلى دراسة أسباب ضعف الطلاب فى اللغات، لدرجة أننا نسخر من نفسنا، ونقول «تعليم حكومة»، وبالفعل تراجع مستوى اللغات كثيرا ويتطلب دراسة لاستعادته، بشرط أن يبدأ من اللغة العربية.
الجزء الآخر الذى يتطلب نقاشا وحوارا وشرحا، هو مناهج التاريخ والمنطق والفلسفة، والعلوم الاجتماعية، وهى المواد التى يفترض أن تكون ضمن مناهج التعليم عموما، ولو بمساحات معقولة، لأن التاريخ مهم جدا فى كل مناهج التعليم للعلمى والأدبى، ويمكن التفكير فى طريقة لتدريسه من دون أن يتحول إلى بعبع، لأن استيعاب التاريخ والمنطق والفلسفة يدعم الثقافة ويشجع الطلاب على الإبداع وهى تفاصيل تتطلب مناقشة مع أهمية استعادة دور المكتبات والبحث الحر، وهى مفردات يمكن تطويرها «أونلاين» مع المدرسة، ولا يمكن تقبل بعض الآراء التى تطالب بإلغاء التاريخ والجغرافيا والفلسفة والمنطق، فهى مع الأدب والقراءة غذاء العقل.
كال ما يحتاجه المواطنون وأولياء الأمور هو استعادة هيبة المدرسة والتعليم، والانطلاق من أن التعليم من مهام المجتمع، ومع أهمية الحوار، فإن مواقع التواصل أحيانا تتجاوز المناقشة إلى تحريض أو نشر مفاهيم مغلوطة، وهو ما يفترض الانتباه إليه، ومثل هذه القضايا تتطلب منح مساحات للمختصين والمعلمين والخبراء، ممن ليس لهم مصالح.
ثم إن ما أعلنه الوزير فيما يتعلق بدمج مناهج العلوم أو الرياضيات، والكيمياء والفيزياء، ليس مفاجئا وإنما نتاج جهد سابق وتفكير، ثم إن الحوار مطلوب، وهنا نقصد حوارا بين عقول وليس مجرد جماعات من الشتامين ومحترفى اللطم، أو مجرد تعليقات سطحية هجومية أو دفاعية، والأفضل هو الانخراط فى محاولة فهم، وأفكار والاستعداد لاستقبال كل الأفكار، ويكون الحساب على النتائج، من خلال ثلاثة عوامل: عودة دور المدرسة والمعلم، وانتهاء نظام الملخصات والدروس الخصوصية، ومستوى طالب يمكنه التقدم فى الحياة العملية.