محمود السعيد

فى نقد فكرة الاستغناء عن المواد الأدبية والكليات النظرية

الأحد، 18 أغسطس 2024 04:53 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

فى الآونة الأخيرة دار نقاش موسع حول مدى أهمية تدريس المواد الأدبية للطلاب، كالفلسفة والمنطق والتاريخ والجغرافيا، وعن جدوى وجود كليات نظرية تدرس اللغات وتخصصات العلوم الاجتماعية والإنسانية حيث إنها، فى رأى البعض، غير مرتبطة باحتياجات سوق العمل، وفى هذا المقال نوضح للقارئ أنه لا يمكن عملياً الاستغناء عن تدريس المقررات ولا الكليات التى تنتمى لحقل العلوم الاجتماعية والإنسانية لعدة أسباب.

فى البداية نؤكد على أن العلوم الاجتماعية والإنسانية جزء لا يتجزأ من بناء المعرفة الإنسانية الشاملة بالتكامل مع العلوم الطبيعية الأخرى والتى تشمل الطب والهندسة وغيرهما، فالعلوم الاجتماعية والإنسانية مثل الفلسفة والمنطق وعلم النفس والاجتماع تهدف إلى فهم السلوك الإنساني، والتفاعلات الاجتماعية، وتساعد فى تحليل الظواهر الاجتماعية والتاريخية والسياسية والاقتصادية التى تشكل المجتمعات. وتكمن أهمية هذه العلوم بشكل خاص فى كيفية تأثيرها على تحسين حياة الإنسان وتعزيز فهمنا للعالم المعاصر من خلال دراسة الماضي.

من ناحية أخرى تسهم العلوم الاجتماعية فى تحقيق أهم أهداف التعليم وهو بناء شخصية الإنسان وإعداده ليكون مواطن نافع لنفسه وأهله ومجتمعه، فليس الهدف من التعليم هو الإعداد لسوق العمل فقط وحسب. فالعلوم الاجتماعية تقدم للطالب مجموعة من الأدوات العلمية لتحليل المشكلات الاجتماعية مثل مشكلات الفقر، البطالة، التمييز، والأمية، على سبيل المثال، وتساعد فى صياغة حلول ممكنة لهذه التحديات. من زاوية أخرى فإن البحث فى العلوم الاجتماعية والإنسانية يسهم فى صياغة سياسات عامة تستند إلى فهم عميق للمجتمعات واحتياجاتها، ما يؤدى إلى سياسات أكثر فعالية وعدالة، وأخيرا فإن العلوم الإنسانية تُعنى بالفكر الفلسفى والأخلاقى، وتساعد فى تعزيز القيم الإنسانية مثل العدالة، الحرية، والمساواة، هذه القيم تشكل أساسًا قويًا للتفاعل الاجتماعى والتطوير الحضارى، ولا يمكن أن يكتسبها الطالب من خلال دراسته لمقررات العلوم الطبيعية فقط حتى وإن ارتبطت هذه المقررات مباشرة بسوق العمل.

النقطة الأهم فى هذا الموضوع هو أن هناك استحالة عملية للفصل بين العلوم الطبيعية والإنسانية، فهذا الفصل يتنافى مع طبيعة العلوم وتفاعلها وتشابكها مع بعضها البعض، وقد كانت الفلسفة، التى يدعو البعض لإلغائها اليوم، تشمل كل العلوم الأخرى مثل الطب والهندسة والفيزياء ...إلخ، باعتبارها العلم الذى يهتم بالتساؤلات عن الكون والإنسان، وذلك قبل أن تنفصل العلوم عنها وتصبح علوماً مستقلة بذاتها، لذلك فإن كل العلوم الحالية بدأت علوم فلسفية، والعلم بشقيه الطبيعى والإنسانى ينتمى لجذر مشترك هو الفلسفة والتى يطلق عليها أم العلوم، ويكفى أن أدلل على ذلك بأن أهم درجة دكتوراة يحصل عليها الباحثون فى كل العلوم الطبيعية تسمى دكتوراة الفلسفة فى الطب أو الهندسة أو غيرهما.

وإذا نظرنا إلى أهم علماء الطب والطبيعة فى الماضى سنجد أنهم كانوا فلاسفة وعلماء فى المنطق أو الجغرافيا أو التاريخ، على سبيل المثال لا الحصر، العالم الكبير أبو بكر الرازى كان عالمًا فى الطب والكيمياء، ولكنه أيضًا كتب فى الفلسفة والأخلاق، أيضا ابن سينا كان عالمًا موسوعيًا، برع فى الطب والفلسفة، حيث كان يجمع بين الدراسة الطبية كجزء من العلوم الطبيعية والتأمل الفلسفى والبحث فى القضايا الإنسانية والأخلاقية. هذه الأمثلة من العلماء تعكس أهمية التكامل بين العلوم الاجتماعية والإنسانية والعلوم الطبيعية، وتبرز كيف أن هذا التكامل يمكن أن يؤدى إلى فهم أعمق وأكثر شمولية للعالم، مما يمهد الطريق لتحقيق التقدم العلمى والحضارى.

إن الواقع يؤكد أن العلاقات التبادلية بين فروع العلوم الإنسانية والطبيعية تُعد جزءًا أساسيًا من تعزيز الفهم الشامل للإنسان والعالم المحيط به، وللتدليل على عدم إمكانية الفصل بين العلوم بشقيها الطبيعى والإنسانى وعدم إمكانية الاستغناء عن أى من مكونات العلم وعدم منطقية إلغاء تدريس بعضها للطلاب، سأستعرض بعض الأمثلة الواقعية التى توضح فكرة تكامل العلوم من أجل تحقيق الأهداف السامية، مثلا فى دراسات البيئة والاستدامة تقدم العلوم الطبيعية ممثلة فى العلوم البيئية والبيولوجية فهمًا للأنظمة الطبيعية، مثل تغير المناخ والتنوع البيولوجى، بينما تقدم العلوم الإنسانية ممثلة فى علم الاجتماع والأنثروبولوجيا تفسيرات لتأثير الأنشطة البشرية على البيئة، وكيفية تكيف المجتمعات مع التغيرات البيئية. ولكى يتحقق الهدف الأسمى وخدمة الإنسان وتطور المجتمعات يتعاون العلماء من كلا الفرعين لتطوير سياسات الاستدامة التى تحمى البيئة مع مراعاة الاحتياجات الإنسانية.

كمثال آخر فى مجال الصحة العامة تقوم العلوم الطبيعية ممثلة فى علم الأوبئة والطب بتحديد أسباب الأمراض وطرق الوقاية منها، بينما تقدم العلوم الإنسانية رؤية لفهم السلوكيات الاجتماعية والثقافية التى تؤثر على صحة الأفراد والمجتمعات، مثل العادات الغذائية والنشاط البدني. وما لا يمكن إنكاره هو أن التكامل بين شقى العلوم يسهم فى صياغة استراتيجيات فعالة لتحسين الصحة العامة.

هناك أمثلة أخرى عديدة توضح فكرة تكامل العلوم الاجتماعية والإنسانية مع العلوم الطبيعية من أجل تحقيق رفاهية المجتمعات وتقدمها، مثل دورهما المتكامل فى التكنولوجيا وتطورها وتأثيراتها على الحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية، ودورهما المتكامل فى دراسة الاقتصاد البيئى من حيث دراسة الموارد الطبيعية واكتشافها ثم استغلالها لتحقيق النمو الاقتصادى مع الحفاظ على التوازن بين التنمية والبيئة.

وفى الختام أؤكد على أن العلوم الاجتماعية والإنسانية هما الركيزة الأساسية لفهم المجتمعات البشرية وتطورها، وأن هذه العلوم لها أهمية كبيرة فى بناء شخصية الطالب كأحد أهم الأهداف التعليمية، ومن ناحية اخرى فإنه لا يمكن إنكار أهمية التكامل بين العلوم الإنسانية والطبيعية، إن الخلل الذى حدث فى منظومة التعليم خلال العقود الماضية هو الزيادة المفرطة فى أعداد الطلاب فى تخصصات العلوم الاجتماعية والإنسانية وبشكل أدى لزيادة البطالة بين خريجى هذه التخصصات وأثر على جودة العملية التعليمية فى كليات العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهو خلل يحتاج بكل تأكيد إلى علاج سريع وفعال، ولكن ليس معنى ذلك التقليل من أهمية دراسة تخصصات لا غنى عنها فى فهم الإنسان والمساهمة فى بناء شخصيته.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة