في الذكرى الثالثة والأربعين لرحيل شاعر مصر الكبير صلاح عبد الصبور، باغتني ذلك السؤال الخاطف، هل ما زال عبد الصبور قادرًا على أن يقول لنا شيئًا جديدًا مثلما كان يكتب ويفيض على الجميع دائما شعرًا ومسرحًا ونقدًا وترجمةً وأفكارًا متجددة في الفن والحياة؟
ومثلما كان السؤال خاطفَا فالإجابة "بنعم" كانت حاضرة فورًا أيضًا، ليس فقط لأنّ صلاح عبد الصبور أحد الموسوعيين والمثقفين الكبار الذين كانوا قادرين على إثراء الحياة الأدبية بخصوبة إبداعية وفكرية متجددة طوال الوقت، ولكن لأنه كان أيضًا صاحب رؤى عميقة وبصيرة نافذة مرّرها لنا في إبداعه ونقده على حد سواء، وكانت تلك البصيرة تتكئ على صفاء ذهني لافت وثقافة معاصرة وتراثية في الوقت نفسه، فعند رصده للظواهر الفنية أو الأدبية أو الشعرية كان لا ينظر إلى الظاهرة نظرة جزئية معزولة عن مؤثراتها الحضارية والنفسية والمجتمعية المحيطة بها، (خذ مثلًا دراسته العميقة الثريّة عن علي محمود طه) بل كان لحدقته الناقدة ذلك الشمول الإنساني الممتد بامتداد الإنسان ذاته وتفاعلاته مع مؤثراته الخارجية والداخلية المتنوعة. تأملْ في هذا السياق حديثه عن الإنسان في مفتتح كتابه الأهم حياتي في الشعر: "حين قال سقراط اعرف نفسك، تحوّل مسار الإنسانية، إذ سعى هذا الفيلسوف إلى تفتيت الذرة الكونية الكبرى المسماه بالإنسان، والتى يتكون من تناغم آحادها ما نسميه بالمجتمع، ومن حركتها ما نطلق عليه اسم التاريخ، ومن لحظات نشوتها ما نعرفه بالفن" لترى ثراء نظرته التي لا ترصد الإنسان المطلق -هنا والآن- بقدر ما تمتد إلى فجر الحضارة اليونانية البعيد، حيث تمايزت فيه مواهب الفنانين والفلاسفة والمؤرخين، وتعددت مناحي تفردهم بسبب سعيهم إلى معرفة ذواتهم الفردية. تأمّلْ أيضًا قوله في أحد حواراته مع نبيل فرج في كتاب " صلاح عبد الصبور الحياة والموت": "هناك مطلقات حديثة أشد فتكًا بالإنسان من الموت مثل اللامبالاة العامة والخوف العام، وبعض الأفكار التسلطيّة التي تقتل الفاعليّة في الإنسان"، ص 87.
إذ لا يمكنك إلا أن تعجب بذلك العمق الممتد والتشخيص الدقيق للمؤثرات الفاعلة والعيوب المجتمعية التى تظهر في الآونة الحديثة إذا تخلّى الإنسان بصفة عامة والفنان بصفة خاصة عن دوره المنشود وحيويته الدافقة في دفع قاطرة الحياة باتّجاه النماء والتجدد. والوقوف أمام أعدائها الذين يكرسون للكسل العقلي والتبعية والخنوع والاتكال، ولا ينفصل هنا صوت الناقد المفكر عن صوت الشاعر المبكر الذي كان يندد بأعداء الحياة في نص شنق زهران:
مات زهران وعيناه حياة
فلماذا قريتي تخشى الحياة
ولن يتحقّق ذلك- كما يقول عبدالصبور في سياق مغاير وإن كان يعزف على الوتر ذاته- إلا "بأن يكون الفرد مستقلًا روحيًا له معتقداته التي لم تفرضها عليه القوانين القسرية أو التلقين الجماعي": السابق ص 134 . إن ذلك الوعي هو أحد دروس عبدالصبور العميقة التي يجب أن يتأملها كل مبدع متطلع إلى معرفة نفسه واجتلاء ذاته الفردية وانتشال صوتها الخاص من ذلك الهدير الجماعي والصخب المحموم الذي اختلط فيه الحابل بالنابل وضاعت معه قيم الحق والخير والجمال والانتماء. وإذا كانت أغلب رؤى صلاح عبدالصبور قاتمة لا تسرّ أصحاب التفاؤل الساذج الذي لم يصدقه الواقع -هنا والآن-فقد ظلّ حتى الرمق الأخير مؤمنا بأن دوره الحقيقي هو أن يفتح عيون الناس على الحياة، تلك التي كان يتنفسها بشغف ومرارة كما كان يقول في مقال مبكر له بعنوان "حول الشعر المصري الحديث أيضًا". لقد آثر عبدالصبور منطق "الصدق" على منطق "الزينة" فكان يخاطب محبوبته قائلًا في قصيدة رسالة إلى صديقة:
: وسامحيه كيف يرجو أن يُنَمّقَ الكلامْ
وكل ما يعيش فيه أَجردٌ كئيبْ؟
مؤمنًا بأن الشاعر الحق هو الذي يتجذر بصدق في قلب لحظته الراهنة، فكان يطلّ على قارئ شعره ومسرحه بوجهه الأسمر الحزين الصامت الساخر، بلغةٍ ترفض كل مساحيق التجميل وألفاظٍ ترفض أن تكون كالفخّار المدهون- على حد تعبيره في مسرحية مأساة الحلاج- لتتجلّى مناهِضَةً مَنطق البلاغة القديمة التي تحاول تزيين الحياة بمنطق الكذب البلاغي الطامح إلى مرتبة أو حظوة أو ثراء سريع، فكثيرًا ما كان يرصد تلك الرؤية المداهنة في مسرحة وشعره بحدقة ساخرة تقوّض ذلك الصنيع وتكشف عن أغراضة المادية المرائية كما نرى مثلًا في قوله على لسان السجين الثاني للسجين الأول في مأساة الحلاج :
"هيا احملني للقصر الأبيض
كي أمدح مولانا والي الشام
بمُعَلّقة ٍمن حرف اللام
وأعودَ بمهرٍ وفتاةٍ وغلام
لذلك فقد ظلّ عبدالصبور في إبداعه مناهضًا للكذب والطغيان والظلم منتميًا لقيم الصدق والحرية والعدالة، يقرع أجراس الخطر حتى لو كانت الآذان صماء والعقول لاهية عما حولها، مختارًا دور "النذير" لا دور "البشير" على حد توصيف حلمي سالم لتجربته الشعرية في كتابه "هيا إلى الأب". وإذا كانت حياة صلاح عبدالصبور قد عبرت سريعًا في خمسين عاما وثلاثة أشهر؛ فقد خلَّف وراءه تراثًا ضخمًا مازال ينتظر قارئه في كل لحظة، بالرغم من حلمه الدائم بالإضافة، وطموحه المتجدد إلى المزيد. لكنّها الحياة التي تحدّث عنها عبدالصبور نثرًا في كتابه "على مشارف الخمسين" في نبرة أسيانة بالغة العذوبة تشارف مقام الشعر الرفيع: "أليس ذلك الشعور هو ما يخامر جميع الناس حين يهبطون جانب التل، إذ يدركون أن الحياة قد أعطت لهم أملًا واسعًا وقدرة محدودة، وأن ما تخايل لأعينهم في أيام الصبا الذهبي كان مدى واسعا لا يُمْتلكُ إلا لأهل الحظوة الماشين على الماء أو السابحين في الهواء... أليس الإنسان محكومًا عليه بالإحباط في هذا الكون المتشابك المتناثر الشذرات، وهل عرفنا كل ما كنا نريد أن نعرف، وقرأنا كل ما نريد أن نقرأ من كتب، ووطأنا كل ما كنا نريد أن نطأ من أرض وتجلينا في عيون كل من أحببنا من نساء". أجل يا صلاح لقد انقضت الحياة سريعًا لكنك مازلت قادرًا على أن تقول لنا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة