مثلما الزمنُ لا يعود للوراء؛ فالذين قضوا فى جحيم غزَّة صاروا رقمًا فى أرشيف الضحايا. يتأسَّى العالم عليهم لكنه لا يسعى لاستيفاء حقوقهم؛ وما استدعاؤهم فى مجال النزاع إلَّا لاستنقاذ الباقين على قيد الحياة. هكذا يُنظَرُ للجوعى بإنسانيّةٍ إلى أن ينتقلوا لكشوف القَتْلى؛ فيصيروا جُملةً بلاغيّةً لا يتَّسع لها مقامُ الحرب الصاخبة. يقفزُ الاحتلالُ على ضخامة العَدَد وأثر الوحشيَّة؛ لأنه يتوخَّى دائمًا شَطبَ الماضى للتسلُّط على المستقبل، بينما لا يُفهَمُ لماذا تنظرُ الأُصوليَّةُ المُضادَّة للمسألة باعتبارها أثرًا جانبيًّا عارضًا، ووقودًا لا بدَّ منه لإدارة مُحرِّكات المهمَّة المُقدَّسة، وهى هُنا ليست استخلاصَ الحقوق العادلة من أنياب غاصبيها؛ إنّما تثبيت الأيديولوجيا فوق القضية وقبل الأرض والأرواح، ومع عدوٍّ طاغٍ يتحوَّلُ السياقُ إلى تمرينٍ يومىٍّ على الموت الرخيص؛ لأنه لا يُحصِّنُ الجغرافيا، ولا يُضيف للأجندة الوطنية، كما لا يحرمُ الخصومَ من لذَّة تفريغ الصراع من مضمونه؛ وتحويله إلى مُناكفةٍ عقائديَّةٍ يتداخلُ فيها النصوصىُّ مع القومىِّ، ويُعادُ إحياءُ ذاكرة العداوة على مُرتكزاتٍ رجعيَّة قديمة. فيصطدم اليهود بالمسلمين، والفُرس بالعرب، وتضيعُ فلسطين بين سارقٍ مُراوغٍ، وتاجرٍ مُتلوِّن.
محنةُ غزَّة ليست وليدةَ «طوفان الأقصى» على ما يُردِّد الصهاينةُ الكذّابون ويسعون لإقناع العالم، والثابتُ أنها حصيلةُ تراثٍ طويل من القتل والتنكيل وتغييب الحلول السلمية؛ لكنها أيضًا لا تبدأ من محطَّة النكبة فى 1948 كما يَشيعُ لدى العامة، أو تُورِدُ الأُصوليَّةُ الإسلامية فى سرديَّاتها الرسمية. يقعُ بشكلٍ عارضٍ أو مقصود، قدرٌ كبير من التحريف والتزييف وابتسار التاريخ، ولعَلَّه ناشئٌ عن احتياجٍ عميق لدى الطرفين: الدولة العبرية تُسوِّغُ حضورها بالقرارات الأُمَميَّة والحرب العربية وفَرض وجودها تحت ظلِّ السلاح، والمقاومة تبحث عن شمّاعةٍ قريبة لتحميلها مسؤولية الخسارة، بدلاً من الرجوع للمُنطلقات الفعلية. وما حدثَ قديمًا يتكرَّرُ اليومَ للأسف، لا من ناحيةِ العجز عن رؤية السياقات والنفاذ لجوهر الصورة؛ بل بالتمادى فى تخليق روايةٍ غير حقيقية ولا منطقيَّة عمَّا آلت إليه الأمور، والأسباب الكامنة وراء الانتقال من سيِّئٍ إلى أسوأ، مع التسليم قَطعًا بأنَّ الطرفَ الآخر لم يكن مُحايدًا ولا موضوعيًّا إطلاقًا، ولم يُقصِّر فى انتهاز الفُرَص وتفعيل كلِّ إمكاناته الجارحة لإزاحة الجانب الفلسطينى؛ أكان بقَتله حِينًا، أم بانتداب وتسييد بعض أجنحته على حساب البقيَّة أحيانًا.
زُرِعَتْ إسرائيلُ فى المنطقة بتوافُقاتٍ غربيَّة خالصة، أخذت مجالَها فى الزمن وتوازنات القُوى حتى استوت وتكاملت معالمُها. والحال أنَّ الظلَّ الثقيلَ للدولة العثمانية كان واحدةً من روافع المشروع الصهيونى، ولا فارقَ بين القصد والاعتباط؛ إذ المُحصِّلةُ أنَّ الامبراطوريّةَ العجوزَ سمحت بتمرير أفواج المُؤسِّسين الأوائل للأرض المقصودة، وبدلاً من ردعهم أو تنظيم وفادتهم، تكفَّلت بإضعاف الحاضنة العربية عبر تفكيك الولايات عن بعضها، وتقديم الأُمَميَّة على القومية أو روابط الثقافة والمكان، ومُقايضة المصالح بما يخدمُ المركزَ ولو تقطَّعت الأطراف. قد لا يفيدُ اليومَ الوقوفُ على الأطلال؛ إنما توزيعُ الأنصبة يظلُّ شرطًا لازمًا لاستيفاء الحقوق والمسؤوليَّات، وتحرير الصراع من استقطاباته الجديدة، باستكشاف ما فعلته به نسختها القديمة. لم يكُن العربُ مسؤولين عن خسارة فلسطين، وعندما تصدَّوا للعصابات الصهيونيَّة بكلِّ ما فى وِسعهم، كانوا مُثقَلِين بأعباء المٌحتلِّ الراحل بينما يُواجهون غطرسةَ المُحتلِّ الوافد؛ وهكذا فإنهم ضحايا أيضًا كأهل البلد أنفسهم، ولا يصحُّ تحميلُهم أوزار ما جناه الآخرون.
القصَّةُ اليومَ شبيهةٌ بسابقتها فى الجوهر؛ ولو اختلفت فى التفاصيل الظاهرة. يحقُّ للفلسطينيين أن يغضبوا ويُقاوموا ويتصدَّوا للاحتلال بكلِّ طاقتهم، والبحثُ عن التحرُّر والدولة المُستقلِّة غايةٌ لا تخضعُ للمُساومة؛ إنما يتوجَّب أن تُدارَ بحسبةٍ حصيفة؛ كى لا تجُرَّ من ورائها نكباتٍ جديدةً. و«السنوار» عندما أطلق عمليَّته الضخمةَ فى غلاف غزَّة، يبدو أنه غَيَّب شروطًا ظرفيَّة وموضوعية عديدة، أو غُيِّبت عنه بأثر الانقسام الداخلى، والتحالُفات الخارجية، ولُعبة المحاور والأجندات ذات الصِّفَة الإقليمية. وبينما يُحتَمَلُ أنه نسَّق مع تيَّارات المُمانعة الشيعية، أو استشارهم، أو اتَّفق معهم على الخطوط العريضة وخالفَهم فى الهوامش والتوقيتات؛ فالمُؤكَّد أنه لم يُخطِر بيئتَه المحليّة، ولم يُرسِل إشارةَ انتباهٍ وتحوُّطٍ للدوائر العربية القريبة أو اللصيقة؛ بل ربما لم يعرِفْ شُركاؤه الحماسيِّون من قيادات المكتب السياسى فى الخارج بالأمر. فُوجئ الجميعُ إلَّا طرفًا واحدًا؛ وبعدها لا يُلامُ المُنفِّذ ولا العارفُ الوحيد، إنما تُنتَخَبُ قِلَّةٌ من المجموع لتكون هدفًا للنقد والتصويب. غاب العُثمانيِّون بجريمتهم العتيقة، ويغيبُ الصَّفَويِّون وراء الدماء الطازجة، بينما تنصرفُ إرادةُ الأُصوليَّة إلى استكمال تكبيد الحاضنة المُباشرة مزيدًا من الخسائر، بفوائض المُزايدة والوَصْم والتشويه.
إذا لم يكُن تفخيخُ الجغرافيا من النهر للبحر غرضَ الصقور من الجانبين؛ فخطأُ الحرب الراهنةِ مقسومٌ بين نتنياهو والسنوار. كراهيةُ الاحتلال لا تصلُح تبريرًا للمُقامرات غير المحسوبة؛ مثلما الخلافُ الأيديولوجىُّ مع الأُصوليَّة الإخوانية لا يُجيزُ القفزَ إطلاقًا على إجرام الصهاينة. والحال أنَّ الطرفين فى اشتباكٍ غير مُتكافئ، ويموتُ الغزِّيون دون مُقابلٍ واضحٍ للدم والنضالات الجَبرية، بينما ينفخُ طرفٌ بعَينه فى النار من بعيد، ويَسوقُ البعضُ دعاياتٍ سوداء بحقِّ الساعين إلى إيقاف المَقتَلَة. لقد أطلقَ «حزب الله» حربَه المُسمَّاة على سبيل التدليل بالإسناد والمُشاغَلة قبل أكثر من عشرة أشهر، وكان شاهدَ عيانٍ على سقوط أربعين ألف قتيلٍ أغلبهم من النساء والأطفال، ودمار أكثر من ثُلثى القطاع، ولم تتحقَّق المُساندة للفصائل، ولا انشغل القَتَلَةُ عن مهمَّتهم الإفنائيَّة. وإلى ذلك قُتِلَ «العارورى» فى أحضان حسن نصر الله، وقُتِلَ إسماعيل هنيَّة فى أحضان المرشد نفسه، وما تزال «وحدة الساحات» شعارًا مُعلَّقًا فى ميكروفونات الشيعيَّة المُسلَّحة دون ظلالٍ حقيقيّة على الأرض. لا حاجةَ للتذكير بأنَّ قادةَ الفصائل لم يُقتَلوا فى عواصم الاعتدال، كما أنها لا تنفخُ فى النار ولا ترقصُ على جُثث الضحايا، وقدَّمت للقضية أقصى المُتاح بحسب التوازنات الدوليَّة؛ كما لم تُورِّطها فى نزواتٍ حارقة أو تتَّخذْها ستارًا لنواياها، وبَيدقًا على رُقعةِ تفاوضِها مع القُوى المُناوئة، أكانت الشيطان الأكبر أم ربيبها الأصغر. والفَهمُ العاقلُ يتطلَّبُ تصفيةَ الأجواء من أثر العاطفة والانفعال، والنظرَ بجدّيةٍ وتعمُّقٍ لِمَا وراء الخُطَب الرنَّانة، وارتداداتها العُنفيَّة على القضية وناسها؛ ووقتَها فقط قد تنجلى الحقائقُ ويتكشَّفُ المُساندون الفِعليِّون من التُّجَّار المُتربِّحين!
أُدِيرَت جولةُ التفاوض الأخيرة على الهُدنة قبل أيَّامٍ فى الدوحة. استبقَتْها إيرانُ بإشاراتٍ عن إرجاء رَدِّها المُنتظَر على اغتيال «هنيَّة» حتى لا تُؤثِّر فى الصفقة؛ ثمَّ نشرَ الحزبُ بالتزامن مقطعَ فيديو لإحدى مُنشآته الصاروخية، أسماها «عماد 4»؛ ربما إحياءً لذكرى قائدِه العسكرىِّ الأبرز عماد مغنية، الذى قتلته إسرائيلُ قبلَ قُرابة عقدين فى سوريا ولم يتحقَّق ثأرُه إلى اليوم. رقصةٌ جديدة مع الدعايات الصاخبة، تُضافُ لطلعاتِ «طائرة الهُدهد» الثلاثة فوق حيفا، وهذا كلُّ حَظِّ المُمانعة من التنكيل بالعدوِّ، إذ يُكتَفَى بالتلصُّص عن الإيلام، وبالفخر عن الفعل، ويصيرُ «الانتظارُ» عقابًا رادعًا، والصبرُ الاستراتيجىُّ حصافةً حربيَّة ودينية. والواقعُ أنَّ العبرةَ ليست بالحضور فحسب؛ إنما بالفاعليّة والتأثير، وقد أجهز الصهاينةُ على القطاع تحت حماية الطبول الشيعية الزاعقة، ولم يُوفِّروا أهدافَ المحورِ وأُصولَه القَيِّمة من الحُديدة اليمنيَّة إلى عاصمة الأُمويِّين وتمركُزات الحشد الشعبى، وحتى فى ضاحية بيروت الجنوبية وقلب طهران.. يواصلُ نتنياهو «كَىَّ الوعى» وإعادة تكييف مُعادلة الردع، ويردُّ خصومُه بالتهييج حِينًا وبالاستعراضات الفارغة من المضمون أحيانًا، وبين كلِّ جولتين ينسحبُ بعضُ الضوء عن غزَّة، ويُراق دَمٌ غزير، ويُضْغَط على صاحب القرار فى أنفاقه؛ ليتشدَّد بيده الفارغة وقبيلته العزلاء، بينما يُفرِّط الحُلفاء بصواريخهم ومُسيّراتهم وعواصمهم الرديفة.
لولا الإسنادُ الهَشُّ ربما ما كانت ضربة القنصلية فى دمشق، وبعدها ليلةُ الألعاب النارية التى وظَّفَها نتنياهو فى حَرفِ الأنظار عن نكبة الغزِّيين، ثمَّ فى كَسر الخطوط الحمراء سابقًا واجتياح رفح.. ولولا المُشاغَلة الدعائيَّة ربما ما كنت حادثة «مجدل شمس» التى قتلت 12 طفلاً دُرزِيًّا من العرب السوريِّين فى الجولان، وارتدَّت على «حارة حريك» بقَتل فؤاد شكر، وعلى عاصمة المُرشد بتصفية «هنيّة»، وكلاهما ساعد «العجوز بيبى» على ترميم شعبيته المتداعية، وتحييد جانبٍ مؤثِّرٍ من خطاب المُعارضة المدنيّة وغضبة الجنرالات. وعلى إيقاع الردِّ المُمانع، وردِّ الصهاينة المُعتاد على الردِّ؛ يتعشَّمُ القسَّاميِّون أن تلتهبَ المنطقةُ كما كان يُراد من «الطوفان»، ويُمنِّى زعيمُ الليكود نفسَه بحربٍ شاملة يسحبُ الأمريكيين إليها، ويُجهِزُ على قُدرات الحزب وما يطاله من برنامج إيران النووىِّ. أمَّا البحثُ عن تهدئةٍ لاستنقاذ الأبرياء فآخر ما يشغلُ الفريقين؛ إذ من آثارها أن تُزاحَ «حماس» من مشهد المستقبل، القريب على الأقل، ولو ظلَّت حاضرةً فى بطون الخنادق، وأن يُعاد ترسيمُ التوازنات الإقليمية بما يُطوِّقُ الأجندةَ الشيعية، ويهتزّ الائتلافُ الحاكم فى تل أبيب، ويُوضَع الجميعُ أمام أنصبتهم من الخسارة، بينما الربحُ الوحيد أنْ تتوقَّف نافورةُ الدم. هكذا تصيرُ أبدانُ الغزِّيين حطبًا لأفران العدوِّ والصديق، يختلفان فى التوصيف وزاوية النظر إليهم؛ لكنهما يتَّفقان على تحويلهما ميدانًا للقتال وحَصد النقاط السهلة.
تُدارُ ورشةُ التهدئة من جانب الوسطاء على أصلٍ واحد، وقف المَقتَلَة وتبادُل المسجونين، والبقيَّةُ فروعٌ يعرفُ الجميعُ أنها لن تحلَّ الصراعَ الآن، ولن تمنعَ تجدُّدَ الصدام لاحقًا. أمَّا من جانب الأُصوليَّتَيْن المُتنازعتين؛ فالصفقةُ لها معنىً واحد، أن يُمسكَ أحدهما رايةَ النصر ولو بساعدٍ مبتور، المُهمُّ ألَّا يقتنصَها الآخرُ أو تنتهى الجولةُ بالتعادُل السلبىِّ. وهكذا تبدو الوساطةُ أكثرَ استيعابًا للميدان من طَرفيه المُباشِرَيْن؛ إذ باعتبار الحربِ صورةً مُغايرةً للسياسة، وتنشطُ بالوكالة عندما يعجزُ الأصيل عن إنجاز دوره؛ فالواجبُ وقتَما يتعطَّلُ المُقاتلون أن يتقدَّمَ الساسةُ والدبلوماسيِّون، وطالما كان الاختناقُ عامًّا وعَصِيًّا فى الحالتين، فلْيَكُن بأيسرِ الوسائل وأخفِّها ضررًا. باختصارٍ، كانت المعركةُ شرطًا ضروريًّا لإحداث الصدمة، وإنعاش القضيّة بعد سُباتها الطويل؛ لكنها ليست هدفًا فى ذاتها، ولا بديلَ عن مُغادرتها بعدما صارت تكاليفُها أضخمَ من الجُمود والسياسة المُعطَّلَة. والمُعضلةُ أنَّ عُمقَ العداوة بين اليمين من الجانبين يُسعِّرُ خطابَ السَّحْق والإلغاء، بينما علاقةُ التخادُم المُثمرة لكليهما تمنعُ أحدَهما من الإجهاز على الآخر؛ ولو استطاع. والصورةُ هكذا؛ فليس دقيقًا أنَّ نتنياهو يُريد القضاء على حماس فعلاً، ولا أنَّ محورَ المُمانعة يسعى لإلقاء الصهيونيَّة فى البحر. ربما تكونُ دعاياتٍ لاستنزاف الوقت والمشاعر، أو تكونُ أهدافًا استراتيجيَّة مُؤجَّلة؛ لكنهما فى المدى الراهن يختصمان فى بلاد العرب، ويتصارعان على مصارين المنطقة.
ما أضافتْ الأُمَميَّةُ لفلسطين إلَّا تعميقَ نكبتِها، وحرمانها من فُرصة بلورة هُويَّتها الجامعة، واستكشاف إمكاناتها الذاتية الكامنة، والتصدِّى لامتحان الغزو الإحلالىِّ على بَيِّنةٍ من اختلالات الحاضر واعتلالات التاريخ. وفى حقبةِ المدّ القومىِّ سُحِبَتْ بعيدًا عن أولويًّاتها العُليا، وخاضت نزاعاتٍ خَشِنَةً مع الجيران بدلاً من الأعداء. وما أفسدته الأُمميَّةُ والقوميَّةُ قديمًا لن تُصلحَه المَذهَبيَّةُ المُفارقة للعصر، بخروجها على قِيَمه الحداثية، وافتتانها برواسبه البدائيَّة المحمولة على القوّة والإخضاع. وإذا كان التحرُّرُ فى جُملة معانيه، يتجاوزُ استعادةَ الأرض إلى تحرير الإرادة واستقلال الاقرار؛ فإنَّه يصيرُ مُعادلاً للوطنيَّة لا غيرها من الروابط الاجتماعية والمذاهب السياسية، بينما يصيرُ الاستتباعُ عنوانًا لاحتلالٍ من نوع آخر، يُجرِّدُ القضيَّةَ من صِفتِها الخاصة، ويُلحِقُها بأجندةٍ تتخطّى إحداثيَّاتها المكانيَّة والبشرية، لتصيرَ مفعولاً بها تحت راية الإسناد، بقدر ما تتعرَّضُ للتنكيل من جانب المُحتلِّ بالاستبعاد أو الاستعباد. والمعنى؛ أنَّ الفصائل فى ترويضها العنيف بالآلة الصهيونية، لا تختلفُ كثيرًا عن تسليمها الأليف لقرارات الحُلفاء وإملاءاتهم؛ طالما لا تنبعُ الرؤيةُ من داخلهم حَصرًا، ولا تحتكمُ لشواغلهم وتحكمُ بما فى صالحِهم فحسب؛ بقدر ما تستجيبُ لاعتباراتٍ عُنفيَّة أو إغرائيَّة واردة من الخارج.
ستكون الهُدنة ختامًا لمعركةٍ؛ إنما يتعيَّنُ أن تفتتحَ مسارًا جديدًا فى النظر للقضية من داخلها، وإعادة تكييف ثوابتها وتحالُفاتها على ما يُوازن بين الوسائل والغايات، فلا يزهد المحطّة ولا يُضيِّع الطريق إليها، كما لا يضعُ العربة أمام الحصان، أو يُفرِّطُ فى المتاح على أمل المستحيل.
ستتوقَّفُ الحربُ حَتمًا؛ هكذا يقضى المنطقُ بأنّه لا حروبَ من دون نهاياتٍ؛ لكنَّ الكُلفةَ المدفوعةَ فى الميدان لن تكون الوحيدةَ فى جَردة الحساب؛ وستتبعُها أعباءٌ فى التهدئة قد لا تقلُّ عن مثيلتها تحت النار. ستنزفُ فلسطين وتتعافى كما اعتادت؛ إنما المهمُّ ألَّا يكون نزيفًا فى الأُصول والمُرتكزات العميقة، ولا استحداثًا لِمَا يُقوِّض السرديَّة من حيث يتوهَّم أنه يُسيِّدها ويستعيدُ بهاءها. القضيَّةُ كبيرةٌ بما يكفى لتَقُومَ بذاتِها، ولا تحتاجُ لعناوين ودعاياتٍ ضخمةٍ تستظلُّ بها، وقد سقطَتْ ودائعُ الأُصوليَّةُ كلُّها على رؤوس أصحابها، فما تحصَّل منها سوى خرابٍ فى العراق وسوريا واليمن ولبنان وليبيا والسودان، ومُهدِّداتٍ أفلتت منها مصر وتونس باستعصاءٍ وفواتير باهظة، فضلاً على القاعدة وطالبان وداعش وجبهة النُّصرة والحزب والحوثيِّين والحشد الشعبى، وراياتٍ عديدةٍ أكلت من روح المنطقة وثرواتها، واستحثَّت السَّفَلَة والطامعين؛ بأكثر ممَّا أقامت دِينًا أو خدمت دُنيا. إنه الخندقُ العميق الذى أُسقِطَتْ فيه دُولٌ كانت شامخةً ذات يومٍ ولو بعِلَّة ظاهرة؛ وإذ يستصرخُ فلسطينَ التى ما صارتْ دولةً بعد، ولا استولَدَتْ رايتَها من العَدَم أصلاً حتى تُغامر بوَضعِها فى مهبِّ الريح؛ فإنه يُهدِّدها بسَحقٍ مُزدوج، أكان بتمكين العدوِّ منها بدرجةٍ أكبر وأعنف، أمْ بالتكالُبِ معه عليها.. الوطنيَّةُ الصافية وحدها يُمكِنُ أن تكونَ شعارًا للمُخلصين فى النضال وطلب التحرُّر، ولا شىءَ يَسِدُّ مَسَدَّها مهما كانت دعاياتُه عاطفيَّةً ومُتوضِّئة، ومهما رُفِعت فيه المصاحفُ على أَسِنَّة الحِرَاب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة