الوضع الراهن للثقافة المصرية وضع يتراوح بين الفخر بالماضي والعجز عن الإنجاز بما يواكب المنافسة الشرسة في المنطقة على الصعيد الدولي والإقليمي، بل حتى عاجز عن استيعاب الطاقات الجديدة واكتشافها، مع مساحات محدودة من الفعل الثقافي سواء في فضاء المؤسسات الثقافية أو في الفضاء الرقمي، فمصر كانت هي المسيطر على السينما العربية، لكن تسببت سياسات التأميم في صعود الإنتاج السينمائي في لبنان على يد المصريين، ثم في تونس على يد المصريين أيضا حينما صورت أفلام مصرية في تونس، ثم برزت مؤخرا السينما في المغرب، وبدأ الأردن يجتذب أفلاما أجنبية للتصوير به، في الوقت الذي وضعت قيود روتينية على التصوير في مصر، إن صعود نشر الكتب في السعودية والمغرب والعراق يعني ضمنا أن المنافسة تكون على الفكر والأدب والثقافة، هذا منطقي في ظل انتشار التعليم ودور النشر في هذه الدول، فالصناعات الإبداعية صارت فيها منافسة شرسة بدءا من الصين وكوريا الجنوبية حتى الولايات المتحدة، الكل مدرك ذلك على الصعيد الدولي، بل إن جانبا من الصراع حول الانتشار اللغوي بين اللغة الانجليزية واللغة الفرنسية، حتى إن الإنجليزية صارت تهدد الفرنسية في معاقلها التقليدية مثل: تونس والجزائر والمغرب، فضلا عن أفريقيا، إذا أضفنا لهذا فرق الغناء الكورية الجنوبية التي ذاعت شهرتها دوليا، والسيطرة اليابانية على أفلام الكرتون للأطفال، سنجد بتحليل أولي أن مصر بعيدة تماما عن المنافسة في الساحة الدولية بما يميزها، فالانكفاء على الداخل سمة من سمات الثقافة المصرية، هذه سمة يجب التخلص منها، إذ أن هوس مصر للمصريين بقدر ما هو مفيد بقدر ما هو ضار حينما يصل لحد عدم رؤية ما لدى الآخر وما يتميز به عنا، وكيف يمكن أن نقدم أنفسنا عبر بناء الذات المصرية برسوخ يوطد الشخصية الوطنية عبر تراكم الخبرات المتوارثة، كما يجب نقد الشخصية المصرية لتلافي سلبيتها، هنا الثقافة هي مرآة الإنسان التي يرى من خلالها نفسه وهي المرآة التي يرى من خلالها العالم، هنا يبدو غياب مرصد للثقافة المصرية يصدر تقريرا سنويا أمر بحاجة للنظر فيه، إذ بدون الرصد والتحليل لن نعرف أين نحن وإلى أين نذهب ؟
من أين نبدأ في التعاطي مع الوضع الثقافي في مصر ، البداية ستكون عبر تحديد عدد من المفاهيم التي تصيغ الحياة الثقافية والثقافة .
رأس المال الثقافي
برز في السنوات الأخيرة مصطلح رأس المال الثقافي، وهو مفهوم يتكون من عنصرين هما: رأس المال (هو هنا رمزي يعبر عن القيمة) والثقافة، ويشمل ما يلي تحت مظلته: البراعة اللفظية، الإدراك الثقافي العام، والتفضيلات الجمالية، المعرفة العلمية، الموروثات الشعبية الشفهية، الموروثات التقنية، الموروثات المادية، المهارات الإبداعية، وهي حصيلة تتكون لدى الفرد والمجتمع من خلال الأسرة والدراسة والمجتمع.
هذا ما يجعل المجتمعات متمايزة، والأفراد لديهم قدرات متفاوتة طبقا لما اكتسبوه وتطبعوا به عبر الأسرة والتعليم والمجتمع، وهذا ما يفرق بين قدرات مجتمع عن مجتمع آخر، منظومات القيم والسلوك تشكل بعدا حافظا لتماسك المجتمع وقدرته على الصمود أمام الصعاب، هذا ما جرى هدمه في مصر خلال العقود الأخيرة، وما يجب العمل على إحيائه خلال العقود التالية، فثقافة "الفهلوة" والثراء عن طريق السينما مثلا صارت سائدة وأن الشخص سليط اللسان لفظيا هو مَثَل قُدم عبر السينما المصرية (أفلام المقاولات بدءا من السبعينيات) حتى غزا هذا المسلسلات، لتتصاعد الفردانية داخل الأسرة المصرية، فينعزل أفراد الأسرة بعضهم عن بعض حتى داخل المنزل، وتفقد الأسرة قيمتها حتى تتصاعد حالات الطلاق، لنرى الأم المعيلة كظاهرة تحتاج لعلاج، في حين أن عزوف قطاعات من الشباب عن الزواج هو إعلان تصاعد النزعة الفردانية وهو ما يهدد النمو السكاني لمصر مع تصاعد نزعة الهجرة خارج مصر، وهو ما يعكس فقدان الأمل في المستقبل وفي الوطن، هذا التغير في المفاهيم والثقافة عكس ما كان سائدا إلى التسعينيات من القرن العشرين، حين كان الشخص يسافر لسنوات لتأمين مال يؤمن له العيش المعقول، وكان المصريون يحلفون بالغربة (وحياة غربتي) باعتبارها أمرا صعبا، حتى غنت شادية لحبيبها تتمنى له رحلة يعود بعدها لمحبوبته (خايفة لما تسافر على البلد البعيد)، ولتغني نجاة أغنية فرح لعودة الحبيب (حمد الله على السلامة) الآن أغاني المهرجانات تعكس واقعا به مظالم لا حصر لها بدءا من غدر الصديق (فقدان القيم في المجتمع) إلى نقد كل شيء في الحياة، لتعبر عن عصرها.
اقتصاديات الثقافة والتراث
المقصود بذلك الموارد التي تصب في الدخل الوطني عبر كل منتج ثقافي وتراثي وفكري وأدبي، فعلى سبيل المثال صادرات الحرف التقليدية منتج تراثي يجري تسويقه وتصديره، كاتب مصري ترجمت كتبه ووزعت وصارت له موارد منها فهذا منتج ثقافي يدر عوائد، ولذا النظرة التقليدية إلى الثقافة أنها عبء على الموازنة العامة، هي نظرة قاصرة، لأن الثقافة كلما أنفقت عليها وأحسنت إدارتها أعطتك موارد تعظم من الاقتصاد الوطني، كما أن الثقافة هي صانعة القوة الناعمة لأي بلد وعليه، فكلما تزايدت قوتك الناعمة كلما زادت صادراتك.