حازم حسين

حروب الوعى ونزاعات الدوافع.. فلسطين فى امتحان تحرير المفاهيم والتحرر من الأوهام

الثلاثاء، 20 أغسطس 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تُحسَمُ المعاركُ فى نفوس المُتقاتلين قبل أن تحسمَها الميادين، ولا تنفصلُ تجليَّاتُها الخَشِنَة عن تأسيسها الأيديولوجىِّ والثقافى الناعم. والمسافةُ بين كلِّ رصاصةٍ ومُستقرِّها الأخير، مُعبَّأةٌ بفَيضٍ من الدوافع والدعاية والسرديَّات المُتشاحِنة، وقد يتيسَّرُ لها أنْ تُصيبَ الهدفَ؛ إنما لا تقتلُ الفكرةَ نفسَها. ظلَّت الفاشيَّةُ كامنةً تحت جِلد الغرب المُتمدِّن رغم انتصار طَيفِه الليبرالىِّ فى الحرب العالمية الثانية، وبينما يبدو أنها تستفيقُ اليومَ فى أوروبا؛ فقد عبَّرت عن حضورها سَلَفًا فى شىءٍ من مُمارسات الولايات المتحدة وظهيرها الأطلسى، ولم تخفُت إطلاقا لدى قاعدتهم الصهيونية المُتقدِّمة فى إسرائيل. والحال أنَّ الذين عانوا من عدائيَّات هتلر ومُمارساته، ساروا على خُطاه التوسُّعية بنَزعةٍ امبراطورية صارخة، أو أعادوا إنتاج لُعبته بالآلية الشوفينيَّة والإفنائيَّة ذاتها. فكأنَّ خطابَ القِيَم لم يكُن تعبيرًا صادقًا عن وعىٍ حداثىٍّ ومواريث حضاريّة راسخة؛ بقدر ما أنَّه اعتُبِرَ أداةً للنزاع على المكانة، واستخلاص الغاية النازيَّة ولو بصَوتٍ أخفت وغُشومةٍ أقلّ. ما يشى بأنَّ الصدامَ الكونىَّ انتهى فى الشكل، وما تزال مفاعيلُه حاضرةً فى المضمون؛ إذ لم تُزَحْ أوهامُ الرايخ الثالث كاملةً بإزاحة الحزب، ولم تهزِمْ حقائقُ الأرض ما كان يتشكَّلُ ويتجذَّرُ فى صدور البشر.


تُولَدُ الحروبُ من توحُّش المخاوف وتنازُع الإرادات، وإذ تتمظهرُ فى وعى البعض سبيلاً لتحييد الأُولى وتسييد الثانية؛ فإنها لا تُؤمِّنُ النصرَ الكاملَ إلَّا بإبقاء الغريم مُرتعبًا ومَردوعًا عن القرار والمُبادأة. والدافعيَّةُ هنا سلاحٌ يُضافُ لترسانة القوَّة العارية، حيث لا معنى للحُكم على حركيَّة الجبهة بمعزلٍ عن أغراض المُتمترسين على جانبيها، أو أهدافهم التكتيكية والاستراتيجية، ومادة الغيظ السارية فى عُروقهم تجاه الآخر المُعادِى.. فالأيديولوجيا أثمنُ أُصول العداوة، ومعيارُ الفرز والتقييم عندما تتعادَلُ القُوى، أو يعجزُ طرفٌ عن فَرض مُعادلته الإذعانيَّة على مناوئيه، وهى لا تُبشِّر وُجوبًا بالنصر التام أو الموت الزؤام؛ إنما تفرضُ قضاءها المبرمَ على الجميع بالبقاء داخل جدران المتاهة، وإعادة تكرار التجارب القديمة بالأخطاء نفسها؛ وإنْ على صورةٍ أشرس وأكثر فجاجةً وأشدّ فى الوحشيَّة والتكاليف.


فى المسألة الفلسطينية، بُنِىَ النزاعُ على ثُنائيَّةٍ مُتضادَّة فى الوجود، وبالتبعية فى الوسائل والغايات. أتى الصهاينةُ على نِيَّة البقاء الأبدىِّ، مصحوبًا بأطماع استخلاص الأرض كاملةً، وإزاحة حائزيها الأصليِّين. والفلسطينيِّون فى المُقابل يعتقدون، صادقين طبعًا، أنهم سُرقوا بالاحتيال والنار، وتآمر عليهم العالمُ لتجريدهم من حقوقٍ أثبتَها التاريخُ وطُولُ المُمارسة. وعلى هذا التقابُل الصارخ؛ فالدولةُ العِبريَّة ليست نُسخةً مُحدَّثة من الاستعمار القديم، الذى يستوطنُ الأرض على صِفَة الزائر العابر مهما طالت إقامتُه، كما أنَّ المُلّاك القُدامى ليسوا شواخصَ عمرانيَّة تسهلُ تصفيتُها أو إعادة تغيير معالمها. الدافعيَّةُ هُنا تقع فى نطاق الشَّطْب والإلغاء؛ بينما لا يملكُ أحدُ الطرفين أن يُنزِلَ حُكمَه على الآخر، ومن ثمَّ فإنهما يخوضان جولاتٍ مُتقطِّعةً غرضها الأوَّل تغييبُ الحلول السِّلميّة تمامًا، وإبقاء جمرة الكراهية متوقِّدَةً تحت الرماد، ربّما على أمل أنْ تُلاقيهم الظروفُ المُواتية مُستقبلاً؛ لحسم ما أعجزهم فى الماضى. وتلك المبدئيَّةُ المُتطرِّفة فى نواياها لا تُبقِى نافذةً للسلام، ولا بابًا للصدام الشامل والنهائى. والحال أنَّ المعاركَ لن تتوقَّف عن الاندلاع، كما لن تنطفئَ إلَّا لتستَعِرَ مُجدَّدًا؛ طالما لم تُحسَمْ المُنازلةُ الأصليَّةُ فى نطاق الثقافة والوعى، وعلى أرضيَّة الأُصوليَّات الساخنة والهُويَّات المُتلاطمة، وبما يقودُ لتعديل الدوافع الأَوَّليَّة أو تفكيكها، وإعادة بناء دافعيَّةٍ مُغايرة، تقودُ إلى توظيف القوَّة والسياسة لفائدة التعايشُ المُمكن، بدلاً من الاستنزاف الدائم والاستبعاد المُستحيل.


حركيَّةُ الدوافع مُتحقِّقةٌ بالفعل؛ إنما تحت المظلَّة الجامدة. عندما أطلق يحيى السنوار طوفانَه فى فواتح أكتوبر الماضى، لم يكُن يقصُّ شريطَ حرب التحرير، ولا أحسبُ أنّه توهَّمَ إمكانيَّةَ الوصول إلى ما تعذَّرَ على أجيالٍ من المُناضلين، وحتى مع افتراض أنه كان يتعشَّمُ فى تسخين الداخل انتظارًا لاشتعال الخارج؛ فأقصى ما كان يتمنَّاه أن ينزعَ القيودَ الثلجيَّة من معصم القضيَّة، ويصدمَ الذهنيَّةَ الإسرائيليَّةَ فى أُحاديّتها وافتتانها بالذات؛ رغبةً فى أن تنتفضَ وتُطيح نتنياهو. أمَّا الأخيرُ فقد انطلقَ فى رَدِّه من فائض الغضب وإهدار الكرامة، ومن شعورٍ شخصىٍّ مُزدوجٍ بثِقَل المخاطر ومثاليَّةِ الفُرصة معًا. دافعُ الأوَّلِ فى الأيام اللاحقة كان محمولاً على انفعاله بما عَدَّه إنجازًا صالحًا للترقية والتثمير لصالح الحركة والقطاع، أمَّا الثانى فكان دافعه الرفض والإنكار، والطبيعىُّ أن يترافقَ مع زَهو المُنتصر شىءٌ من الديناميكية والتدرُّج المحسوب، ومع حَسرة المُنكسر فيوض من الغطرسة والتشدُّد؛ إنما حدثَ العكسُ من جانب الحركة، أو تلاقى الطرفان على صيغةٍ صِفريَّة، سمحت بفارقِ الإمكانات أن يتبادلَ الخاسرُ موقعَه مع الرابح، وأن تتبدَّل الدوافعُ أيضًا. وهكذا صار الضبعُ الصهيونىُّ مدفوعًا بشهوة الإنجاز، والسَّبْعُ الحماسىُّ مدفوعًا بالرفض والإنكار. اختلفت الدوافعُ ولم يختلف إيقاعُ الحرب؛ لأنها أُدِيرَت بالاستراتيجية فى غُرف القرار، وغَيَّبت التكتيك فى الميدان، فما توقَّفَ نزيفُ المُسلَّحين والعُزَّل فوق الأرض، ولا انعكست التطوُّرات على المُمسك بالزمام فى الأنفاق.


الدافعيَّةُ التى أنتجت مُغامرةَ الطوفان لم تكُن نابعةً، على الأرجح، من القضية فى سلسالها المُتَّصل؛ إذ لو أرادت التأسيسَ لجولةٍ ضمن الصراع الكبير؛ لكَانَ عليها استباقُها بترتيب البيت وإنهاء نزوة الانقسام، ولو انصرفت غايتُها إلى خلخلة البيئة الصهيونيَّة وتعميقِ شُروخَها؛ فما كان الأمرُ يتطلَّبُ أكثرَ من الصمت قليلاً، لانتظار سقوط الائتلاف اليمينى الحاكم بأثر نزاعات الإصلاح القضائىِّ، وقضايا الفساد التى تُلاحق نتنياهو. ربما تعودُ البواعثُ لرغبةٍ فى تعطيل مسار التطبيع بين الرياض وتل أبيب، أو إنهاء موجةِ الاتِّفاقات الإبراهيميَّة وتنصيب المصالح الاقتصادية بديلاً عن الحقوق والتسويات السياسية، كما يُحتَمَلُ أنها كان تجربةً للتصريح بالحضور الشيعىِّ المُسلَّح وجاهزيَّته للتفاوض، وحَجز مقعدٍ خلف الطاولة لإيران، بينما تسعى لانتزاعِ مكاسب إضافيَّةٍ بعد صفقة الرهائن مُقابل المليارات، أو استباق الانتخابات الرئاسية بتفاهُماتٍ مع الشيطان الأمريكىِّ الأكبر، من خاصرته الهَشَّة مُمثّلةً فى العجوز بايدن، قبل أن تُفاجئَهم الدراما بعودة ترامب للبيت الأبيض. والحِسبةُ الأخيرةُ أنَّ القسَّاميين أصابوا وأخطأوا فى باقة العناوين الإقليمية، لكنهم ما جَنوا سوى المتاعبِ والآلام فى عنوانهم الوطنى. ولأنهم لم ينطلقوا من دوافعَ محليَّةٍ واضحة، وتحت لافتةٍ سياسية ناضجة ولا تفتقدُ للبدائل العقلانيّة والبراجماتية، صار التقدُّم عسيرًا، وأعسرَ منه الرجوع.


أقصى ما يأملُه «السنوار» اليومَ أن يشطُبَ ذكرى الطوفان ويعودَ إلى السادس من أكتوبر. وشروطُه أن يتوقَّف إطلاقُ النار ويتحقَّق الانسحابُ الكامل، فكأنَّ عقاربَ الساعة تدورُ للوراء؛ بفارقِ أنَّ غزَّة صارت رُكامًا من الأطلال والأشلاء، ولا أُفقَ لحماس فى مشهدها المُستقبلىِّ، بينما تملكُ تأخيرَ الالتئام الوطنىِّ وليس فى مَقدورِها تعطيلُ أجندة الاحتلال. الدوافعُ هُنا تلعبُ دورًا مُزدوجًا؛ إذ يتلاقى فيها الموضوعىُّ مع الذاتىِّ والمَصالحىِّ، بمعنى أنها تستنكفُ النزولَ عن الشجرةِ كراهيةً لرمزيَّةِ انسحاق المُقاومة أمامَ الاحتلال، وتتعالى على مُقترحات «اليوم التالى» حتى لا ينصرفَ حصادُها إلى صوامع السُّلطة الوطنية، وفيما بينهما تترتَّبُ عليها التزاماتٌ تجاه محور المُمانعة، وقد رَفَدَها بالدعم اللوجستى والإسناد الدعائىِّ؛ حتى لو تقاعس عن تفعيل «وحدة الساحات»، وأذاقها مرارةَ الخذلان حينما تُرِكَتْ وحيدةً فى مهبِّ العاصفة.. والحال هكذا؛ فالحربُ صارت رُوتينًا يوميًّا مُملاًّ، لا يتوخَّى الحَسمَ أو ترتيبَ الطاولة، بقدر ما يمدُّ الخطوطَ على استقامتها بالاعتلالات نفسها، وفى حال الاستنزاف يخسرُ الأُصوليِّون الطيِّبون ويربحُ الأُصوليِّون الأشرار، أقلّه من زاوية القُدرات الحاضرة، وإمكانات التعويض، وتفاوت أحجام الرُّعاة والداعمين.


فى تلك المناخات المشحونة يسودُ الضبابُ، وتُغيَّبُ الحقائقُ عَمدًا. ما عادت القضيَّةُ نفسُها موضوعَ النزاع؛ بل تمثُّلات عنها وانتحالات لا تُطابق حقيقتها. يُديرُ الحماسيِّون مُحرِّكاتهم على قاعدة «حرب العصابات»؛ فيصير بقاءُ الحركة وحده، أو على الأقل عدمُ اعترافِها بالهزيمة، عنوانًا صالحًا للنصر ولو أُبيدَ القطاعُ كاملاً. والعدوُّ يُحارب برايةِ الدولة المأزومة أمام ميليشيا مذهبيَّة، فيُبرِّرُ لنفسِه ومُحازبيه التنكيلَ بالمدنيِّين لأنه فى مهمَّة وُجوديَّة مُقدَّسة، أمَّا جانبُ المُمانعة فلا يَعنيه الدمُ إلَّا بمقدار ما يُلهِبُ العاطفةَ، ويستبقى حظيرةَ الداعمين على حماستها المُتأجِّجة.. وهكذا يتبادَلُ الطرفان مواقع الفعلِ وردِّ الفعل، فحماس تبتدئُ بالضربة الافتتاحية ثمَّ تلوذُ بالخنادق، وإسرائيلُ مُتأخِّرةٌ هُنا ومُبادِرَةٌ فى لبنان وطهران، والأخيرتان تبلعان الإهانة فى الساحات الواسعة، وتُعقِّبان عليها فى القطاع. كأنها دائرةٌ مُغلقة يُمسِكُ كلُّ واحدٍ منهم ذيلَ الآخر، ويدورون فى لُعبةٍ استعراضية مُتسارعة، حتى ليَتَعذَّرَ على الناظر أن يفرزَ القُلنسوةَ اليهوديَّة من العمامة الشيعية السوداء.


كانت غزَّة ساحةَ اختبار، ولأنها مَعزولةٌ عن بقيَّة الجُغرافيا الفلسطينية الضائعة: بالانقطاع ماديًّا عن الضفة الغربية، ومعنويًّا بحَجم القطيعة والتشاحُن بين حماس ومُنظَّمة التحرير؛ فإنها لا تقومُ بذاتها دافعًا للاشتغال على القضية مع الجزم بصفاء النِّيَّة ونقاوة الأهداف. وبصيغةٍ أوضح؛ فقد كانت الحربُ الأخيرةُ تكريسًا للانقسام لا تجميعًا لمُتفرِّقات البيئة الوطنية، وهو إنْ وقعَ قديمًا بالتعاون الضِّمنىِّ مع نتنياهو، يتكرَّرُ اليومَ بتخادُمٍ مُعلَنٍ عُنوانه الخُشونة، والنزاع على صكِّ الملكيَّة واحتكار راية الوطن؛ حتى ليَسْتَحِيلَ الدمُ عائقًا بين الخرائط المُتقطِّعة، ويختزل القسَّاميِّون المسألةَ فى ذواتهم وداعميهم، ويصير السياسيِّون مَرفوضين من الجانبين: الاحتلال يراهُم طَوقًا حَريريًّا حول رقبته، والمُقاومة تعدُّهم ناقصى الأهليَّة والإخلاص؛ لأنهم لم يبذلوا أرواحَهم على المذبح المُقدَّس. وحتى لو تلاقت الظروفُ والإراداتُ على انتداب رجال «رام الله»؛ لتصفية تركة الفصائل بحسناتها ومساوئها؛ فإنَّ الرئيس عبَّاس وقبيلته ما زالوا عاجزين عن قراءة السياقات وتحوُّلاتها؛ ناهيك عن الاعتراف بقصور أُطروحتِهم وحاجتها للهيكلة أو التحوير. وتلك معركةٌ جديدةٌ تشتعلُ فى أمعاء فلسطين، ظاهرها فريقان من حاملى الأسلحة ومُحترفى الدبلوماسية، وباطنُها غيابُ الأجندة الجامعة، وعدمُ مُواكبة الميثاقيَّة القديمة لحقائق الزمان والمكان.


ما فاتَ لا ينبعُ من مازوخيَّةٍ كامنة، وليس باعثُه استسهالَ الحُكم، ومَأمونيَّة تأنيب الضحايا. العدوُّ بكلِّ نواياه الخفيَّة والمُعلَنَة يظلُّ كتابًا مفتوحًا، والجنين فى رَحْم أُمِّه يعرفُ أن إسرائيلَ تعيشُ على حدِّ السيف، وتطلبُ الحربَ بأكثر ممَّا يتعطَّشُ المنكوبون للسلام. السؤالُ ليس عن مشروعيَّة النضال واستحقاقه ووُجوبيَّته؛ بل عن السُّبل الكفيلة بإبقائه حَيًّا ومُستدَامًا، وألَّا ينتكسَ بين وقتٍ وآخر بمُناوشات «جَزّ العُشب»، أو بالمغامرات الطائشة، ومَنطق «كلّ شىءٍ أو لا شىء». الفاعليَّةُ هُنا تنبعُ من عُمق الرؤية، ونجاعة التخطيط، والتوصُّل لحساسيَّةٍ حَركيَّةٍ لا تتخلَّى عن المأمول، كما لا تُفرِّط فى المُتاح أيضًا. وهكذا يتعيَّنُ ألَّا تكونَ الحربُ كلاميَّةً ولا استفزازيّة، وهذا ما نجحت فيه «حماس» عندما اختطفت الجندى جلعاد شاليط قبل ثمانى عشرة سنة، فتلقّت ضرباتٍ فى حدود الاحتمال، ثمَّ أنجزت صفقةً مِثاليَّةً للغاية. أمَّا الإفراطُ فى التخطيط بمَنطقِ المُتوالية الحسابية، وافتراض أنَّ ما تحقَّق بأسيرٍ واحدٍ سيكون مُضاعفًا بتعداد مائتين وخمسين آخرين، فإنه قد يقلبُ المُعادلةَ كما حدث بالفعل، ويُشَرِّعُ الجبهةَ على خياراتٍ من خارج الحسبان. باختصارٍ؛ كان «الطوفان» عارمًا لدرجة أنه استنهضَ الوحشَ فى إسرائيل، بدلاً من السياسىِّ العاقل أو الجنرال المَردوع، فكانت المُفارقةُ أنَّ نتنياهو الذى أبرمَ صفقةَ 2011 هو نفسُه مَنْ أطلقَ حرب 2023 الكاسحة. الجرعةُ الزائدةُ عن الحدِّ؛ حوَّلت ما كان يُمكن أن يصيرَ إنجازًا نسبيًّا، إلى ما لا يُمكن تَوصيفُه إلَّا بالإخفاق الكامل.


لدى الفلسطينيين كلُّ الدوافع الكافية لتسويغ أن يُقدِموا على النضال بمعانٍ انتحاريَّة؛ وهى نفسُها تُبرِّر اللجوءَ إلى مُقاربة المسألة بعقلٍ بارد. الاحتلالُ مُتوحِّشٌ ويتغوَّلُ على الأرض والبشر؛ لكنَّ الصراعَ وُجودىٌّ ولن يُحسَمَ إلَّا بالصبر وتراكُم النقاط. وكلا المذهبين مقبولٌ طالما انطلق من أرضيَّةٍ وطنية، واحتكَمَ لسقفِ الأجندة الفلسطينية الصافية، بما اسْتَبْقَته من ثوابتِها القديمة، وما ألحقته عليها من مُستجدَّاتٍ فرضتها الأحوال وتبدُّلات موازين القُوى. والشِّقاقُ يطرأُ عندما تتجمَّدُ الدوافع عند خياراتٍ تجاوزها الزمن، أو تتحرَّكُ على إيقاعٍ تتوالى دقَّاتُه خارج الحدود. وإذا كانت مُنظَّمةُ التحرير فى حاجةٍ لتنقيح أوراقها، دون افتتانٍ بالقليل المُتبقِّى من أوسلو؛ فالحماسيِّون عليهم أن يُحدِثوا الانتقالةَ الضرورية من أُصوليَّة الاعتقاد إلى حداثيَّة الفكرة الوطنية، ومن التحالُفات المُؤسَّسَة على مُشترَكٍ عقائدىٍّ، أو قِيَمٍ رجعيَّة صاخبةٍ وتتمسَّحُ بالنصوص والمنابر، إلى قطيعةٍ معرفيّة وعملانيّة حقيقية عن كلِّ ما يشدُّ القضيَّةَ للوراء، أو يستتبعُها لصالح عناوين أُخرى تدَّعى المثالية والضخامة، بينما فلسطينُ كبيرةٌ بذاتها، وبما يُغنيها عن أنْ تستظلَّ بسماءٍ غير سمائها، وشعاراتٍ غير ما يقولُه أهلُ الأرض ويستطيعون الوفاءَ به؛ دون أن يُسلَبوا حقَّ الإقدام حِينًا، والتكاسُل أو الهشاشة الاختياريَّة أحيانًا.


المُبادأةُ قيمةٌ حربيَّة عُليا؛ لو تأتّى لصاحبها أن يُنفِذَ إرادتَه بالحديد والنار، أمَّا فى ثُنائيَّة الذئب والحمل الماثلة الآن؛ فإنها تصيرُ لعنةً تستتبعُ وراءها ما لم يدر فى خلد المُبادر بالضربة الأُولى؛ لا سيَّما لو تبدّدت التطميناتُ وأخلفَ أصدقاؤه مواعيدَهم معه. وبينما تُدوِّى المدافعُ، فإنَّ ضبابيَّةَ الدوافع هى ما أوصلتْ غزّة للحال التى صارت عليها، إذ لا حاضرَ يُمكن التشبُّث به، ولا أُفقَ واضحًا للمُستقبل، والعودة شرٌّ والمُواصلة شرور، والذين صنعوا نكبتَها من الطرفين لن يكونوا مُلزَمين بالتعويض عنها. تحتاجُ القضيَّةُ للانعتاق من أوهام أصحابها أوَّلاً؛ قبل النظر فى مسارات التحرُّر من هيمنة المُحتلِّ وظلاله الثقيلة. ويحتاجُ الفلسطينيِّون للاتفاق على فلسطين؛ ليعرفوا كيف يطلبونها ومَمَّن بالتحديد، بدلاً من البحث عنها فى عواصم بعيدةٍ، وتحت راياتٍ أغلبها ليست شريفةً ولا مُخلصةً، وتقضم من اللحم الحىّ مثلما يقضم العدوُّ تمامًا.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة