البعض قد أدمنوا الدونية حتى تكاد تحسبهم يستمتعون بالترويج لفكرة أن مصر قد تناوبها المحتلون منذ نهاية حضارة المصريين القدماء حتى منتصف القرن العشرين، وأن شعب مصر خانع يقول «آمين» لمن يفرض عليه حكمه بالقوة.
ألم تتعرض مصر فى تاريخها للاحتلال ولو مرة؟ بلى.. تعرضت مرات، لكن الفارق كبير بين أن تتعرض للاحتلال وأن تخضع له.. فنجاح المحتل فى فرض سيطرته على عنصر الإقليم وعنصر السلطة الحاكمة لا يعنى بالضرورة نجاحه فى السيطرة على العنصر الثالث من مكونات الدولة، وهو الشعب.. التاريخ المصرى القبطى دليل قوى على ذلك، ولنر كيف.. خلال الاحتلال الرومانى لمصر، كانت للمقاومة والثورات ضد الاحتلال عدة أشكال، فمن ناحية، كانت الثورات تندلع من وقت لآخر، عنيفة مدمرة، مما كان يجبر الاحتلال أحيانا أن يستدعى الإمدادات لقمعها، مثل ثورة أهل الدلتا، بقيادة الكاهن إيزيدورس فى عهد الإمبراطور الرومانى ماركوس أوريليوس، التى نجح الثوار خلالها بالتحالف مع الثوار السكندريين فى السيطرة على العاصمة الإسكندرية، وقد كادت أن تنجح لولا إرسال المحتل كتائب ضخمة مدججة بالسلاح للقضاء على تلك الثورة أو مثل تحالف السكندريون مع الملكة العربية زنوبيا، التى حاربت الرومان فى الشام وآسيا الصغرى، وسعت لانتزاع مصر منهم، فتحالف معها ثوار الإسكندرية بقيادة السياسى تيجامينيس والثرى فيرموس، وبعد انسحاب زنوبيا من مصر، استمر فيرموس فى قيادة الثورة ضد الرومان حتى كاد أن يقيم نفسه حاكما على مصر، لولا فارق القوة المسلحة التى كانت فى صالح المحتل.
كذلك فى عهد الإمبراطور ديوكلتيانوس المعروف بدقلديانوس، الذى يوصف عهده بعصر الشهداء ويؤرخ التقويم القبطى ببداية ذلك العهد، استغل السكندريون تمردا لبعض القادة الرومان، وأعلنوا الثورة على الإمبراطور الذى اضطر لقيادة جيشه بنفسه وضرب الحصار على المدينة التى بقى تسعة أشهر عاجزا عن دخولها، حتى إذا ما أنهك الحصار أهلها ونجح ديوكلتيانوس فى اقتحامها، انتقم بأن أوقع بأهلها مذبحة مروعة، وقد أقسم ألا يرفع السيف عنهم حتى تبلغ الدماء منتصف قوائم فرسه!
من ناحية ثانية، يخبرنا التاريخ عن صورة للمقاومة السلبية كانت موجعة بحق للمحتل، هى «هجر الأراضى الزراعية»، فالمصريون كانوا يدركون أن أهم دوافع الرومان لاحتلال مصر هو أنها «سلة غلال العالم»، حيث كانت بدون مبالغة «تطعم العالم قمحها»، وكان تأخر السفن الحاملة لشحنات القمح المصرى عن روما يعتبر كارثة على رؤوس الرومان من الناحيتين الاقتصادية والسياسية - حيث كان السياسيون والحكام الرومان يستخدمون تقديم «هدايا » القمح للجماهير وسيلة لاستمالتهم وكسب تأييدهم - بل ومن الناحية الأمنية، فقد كان تأخر القمح يعنى تعرض بلاد الرومان للمجاعة وأعمال الشغب من الغوغاء الساخطين.
أدرك المصرى القبطى بذكائه المعتاد أن الأرض التى يزرعها، ويلتهم جباة الضرائب الرومان كل أرباحه منها، لو لم تخرج القمح والغلال فإن المحتل سيتوجع بشدة، فلجأ الفلاحون للهرب بشكل مستمر وجماعى من أراضيهم وتركها خاوية.
أما الشكل الفريد من نوعه من المقاومة، فكان تجربة حضارية من أعظم ما شهدت حضارات الشرق القديم.. الثقافة القبطية.
مجرد أن ينشئ قوم حضارة بلغتها وفنها وفكرها وموروثاتها المادية واللامادية، وهم تحت حكم محتل غاشم يحاصرهم من كل اتجاه، ويحاول التدخل فى نمط حياتهم وحتى معتقداتهم، لهو أمر يستحق الإعجاب والاحترام.
البداية الأولى للثقافة القبطية كانت فى العصر البطلمى، عندما خشى المصريون اندثار لغتهم العريقة أمام غزو اللغة اليونانية، فابتكروا اللغة القبطية وهى ببساطة لغة المصريين القدماء- بالطبع بعد قرون من التطور- مكتوبة بالحروف اليونانية، وقد أضيفت لها سبعة أحرف من اللغة المصرية الشعبية «الديموطيقية»، وجدير بالذكر أن «قبطى لا تعنى مسيحى» بالضرورة بل تعنى «مصرى»، فمصدرها هو الكلمة اليونانية «كبتوس» للدلالة على مصر، حيث كان من أسماء مصر «حت كا بتاح» أى حائط معبد بتاح، فحرفها اليونانيون إلى مبتوس.
عظمة تجربة الثقافة أو الحضارة القبطية قد تجلت خلال عصر الاحتلال الرومانى، وبالذات بعد دخول المسيحية إلى مصر على يد القديس مرقس فى القرن الأول الميلادى، فقد كان هذا تمهيدا لأن يأخذ الصراع ضد الاحتلال طبيعة مزدوجة، فثمة طبيعة وطنية هى رفض المصريين للاحتلال، أما الطبيعة الأخرى فقد كانت دينية، فالرومان لم يتدخلوا فى عبادات الشعوب التى احتلوا بلادها، لكن السياسة الرومانية قامت على الفرض الصارم للاحترام لرموز ومؤسسات الدولة بشكل مبالغ فيه تمثل فى فكرة «عبادة الإمبراطور».
لم تكن عبادة الإمبراطور كمثل عبادات الآلهة، وإنما كانت بمثابة تقديس أو مبالغة فى تعظيم الدولة الرومانية ممثلة فى أباطرتها، ولذلك فقد فرض الرومان على رعاياهم من الشعوب الأخرى تقديم القرابين لتماثيل الأباطرة كعلامة على الولاء والخضوع.
أعتقد أننا نستطيع استنتاج رد فعل المسيحيين - فى مصر وخارجها - على الأمر الرومانى بذلك، فمن الطبيعى أن يرفض المعتنقون للمسيحية المؤمنون بإله واحد أن يقيموا طقوسا وثنية، وهذا الرفض أعدته السلطات الرومانية خروجا على الطاعة وثورة على الإمبراطور، فمن هنا بدأ عصر كامل من الاضطهاد والمجازر الرومانية بحق المسيحيين.
إذن بالنسبة للمصرى/ القبطى المسيحى، لم يعد الرومانى مجرد محتل للأرض، بل هو أيضا عدو لله وللإيمان. وكانت هذه نقطة البداية لامتزاج المعنيين الوطنى والدينى فى مقاومة المصريين للرومان، فالتمسك بتحرر الوطن منهم هو خدمة للدين، والتمسك بالدين أمام اضطهادهم هو خدمة للوطن.
وحتى عندما اعتنق الرومان المسيحية- بداية بالإمبراطور قسطنطين الكبير- فإن الاضطهاد لم يرفع عن المصريين، فقد استبدل الرومان «اعتناق مذهب الإمبراطور» بـ«عبادة الإمبراطور»، ويا لهما من مسميين لنفس الشىء!
تخيل معى فى تلك الظروف احتلال غاشم، استنزاف للثروات، ثورات متكررة وقمع وحشى لها، اضطهاد دينى ومحارق جماعية للمؤمنين بالمسيحية «ديوكلتيانوس قتل ما بين 10000 و20000 مصرى فى الإسكندرية»، فتن ودسائس رومانية متكررة بين مختلف فئات الشعب، تخيل أن المصريين العزل فى مثل تلك الظروف وتحت تلك الضغوط استطاعوا أن يقدموا تجربة حضارية كاملة، من لغة، وكتابات فكرية ودينية، ومدرسة لاهوتية كاملة بإنتاجها الغزير «مدرسة الإسكندرية التى احتلت لاحقا المكانة التى كانت للموسيون/دار الحكمة»، وإنشاء لحركة الرهبنة سواء الفردية على يد القديس أنطونيوس أو الجماعية على يد القديس باخوميوس، هذا غير وجود نوع ثرى من الفن يحمل اسم «الفن القبطى».
قد يسأل البعض: «وهل نجحت تلك الفنون والآداب فى تحرير مصر من الرومان؟».. والإجابة هى: نعم.. فإن كان الرومان قد احتلوا الأرض بالسلاح، إلا أنهم فشلوا فيما اعتادوه من محو هويات الشعوب التى احتلوا بلادها.. هم احتلوا الأرض، لكنهم لم يستطيعوا هزيمة الحضارة وإرادة البقاء.
هم احتلوا مصر ونهبوا ثرواتها، لكن المصريين لم يقولوا «آمين» كما يروّج البعض!
وللحديث بقية إن شاء الله فى المقال المقبل من تلك السلسلة.