الاستثنائية التي تحظى بها الانتخابات الأمريكية المقبلة، والمقررة في نوفمبر، تتجلى في العديد من المشاهد، ربما أبرزها الانقسام الكبير في الداخل، مع تصاعد حالة الصراع الحزبي، بين الديمقراطيين، والذين يتولون زمام الأمور في اللحظة الراهنة، والجمهوريين، والذين يمثلهم المرشح دونالد ترامب، والذي بدوره خلق حالة متفردة في السياسة الأمريكية، منذ صعوده للبيت الأبيض، للمرة الأولى، في عام 2016، بينما تمتد حالة الانقسام إلى داخل الأحزاب، خاصة الديمقراطي، والذي بدا واضحا مع الضغوط التي مورست على الرئيس جو بايدن للتنحي عن الترشح للرئاسة خلال المعترك الرئاسي المقبل، خاصة بعد أداءه غير المقنع في المناظرة الأولى التي أجراها أمام غريمه الجمهوري، وهي الضغوط التي قادها أقرب حلفائه، وهم باراك أوباما ونانسي بيلوسي.
ولكن بعيدا عن الانقسامات، سواء في المجتمع الأمريكي، أو الحزبي، في الولايات المتحدة، يبدو انسحاب بايدن، ودخول نائبته كامالا هاريس، في الانتخابات المقبلة، يدشن في واقع الأمر حقبة جديدة، وربما غير مسبوقة منذ عقود طويلة، يمكننا تسميتها بـ"رؤساء الولاية الواحدة"، وذلك على خلفية حصول رئيسين متتاليين على فترة ولاية واحدة، وذلك لأول مرة منذ السبعينات، عندما فشل كلا من جيرالد فورد وجيمي كارتر من الحصول على أكثر من فترة واحدة، حيث تولى الأول السلطة تلقائيا دون انتخاب، بعد استقالة نيكسون، على خلفية فضيحة "ووترجيت"، بينما فاز بالانتخابات مرة واحدة، ليخلفه بعدها كارتر، ولم يتمكن من الصمود أمام خليفته ريجان، والذي تولى فترتين متتاليتين.
ولعل الالتفات إلى رؤساء "الولاية الواحدة"، في الدول ذات الطبيعة الديمقراطية، على غرار أمريكا، مؤشرا مهما، لحالة من عدم الاستقرار، في الداخل، بينما يمثل امتدادا في الوقت نفسه للارتباك في الموقف الدولي، ربما يبدو بوضوح، إذا ما نظرنا إلى النموذج الأمريكي، في حقبة السبعينات المشار إليها، والتي كانت تمثل ذروة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، خاصة وأنها جاءت بعد حوالي عقد كامل من عدم الاستقرار، بدءً من غزو خليج الخنازير في كوبا، عام 1961، ثم اغتيال الرئيس الأسبق جون كينيدي في عام 1962، ثم فضيحة نيكسون في بداية السبعينات، والتي أعاقته عن استكمال ولايته الثانية، ليتقدم باستقالته ويخلفه فورد.
وهنا تبقى تلك المرحلة بمثابة "مخاض" يؤشر لانطلاق مرحلة جديدة، وهو ما بدا في صعود ريجان في الثمانينات، فيما يمثل انعكاسا لنجاحه في تحقيق الانتصار عمليا على الاتحاد السوفيتي، وإنهاء الحرب الباردة فعليا، بينما جاء بعده جورج بوش الأب ليكون آخر رؤساء تلك الحقبة، ليسقط في عهده حائط برلين، ثم ينهار الاتحاد السوفيتي تماما، بينما لم يحصل سوى على ولاية واحدة، لتبدأ الهيمنة الأمريكية، مع ولاية بيل كلينتون، ويستمر بعدها رؤساء "الولايتين"، حتى عام 2016، عندما جاء ترامب، على حساب هيلاري، ثم بايدن، والذي لم يصمد لاستكمال ولايته الثانية.
وبعيدا عن هوية الفائز في الانتخابات المقبلة، سواء ترامب أو هاريس، يبدو أن ثمة مرحلة مخاض، تشهدها الولايات المتحدة، تعكس حالة من عدم الاستقرار في الداخل، وهو ما يرتبط في جزء كبير منه بالموقف الدولي للولايات المتحدة، ومكانتها، في لحظة تبدو حساسة في تاريخ النظام العالمي، تشهد أزمات وصراعات، باتت تحمل تداعيات كبيرة على الداخل من جانب، بالإضافة إلى صعود قوى بإمكانها مزاحمة واشنطن على عرش النظام العالمي، على غرار الصين وروسيا، وهو الأمر الذي ربما تدركه الإدارة الحالية، والتي تسابق الزمن للوصول إلى اتفاق بشأن غزة، من شأنه تعزيز موقف هاريس، والتي تعد امتدادا لها باعتبارها نائب الرئيس، قبل مواجهة نوفمبر، بالإضافة إلى ما تحقق لأوكرانيا من تقدم في مقاطعة كورسك، والذي يمثل هو الأخر نقاطا إضافية للإدارة الحالية، والتي قدمت الكثير من الدعم لكييف في مواجهة روسيا.
وأما عن الأوضاع في الداخل، فالأمور لا تبدو مختلفة كثيرا، فالأحزاب الأمريكية في حاجة إلى إعادة هيكلة، حيث يبقى رؤساء "الولاية الواحدة" رسالة ضمنية من الشارع، مفادها أن هناك حاجة ملحة للخروج عن الإطار التقليدي للسياسة الأمريكية، وهو الأمر الذي سبق وأن شهدته دولا أخرى، على غرار فرنسا لعقد من الزمان، وتحديدا بين عامي 2007 و2017، والتي شهدت حالة مماثلة من عدم الاستقرار السياسي، بدا في فشل نيكولا ساركوزي، في الحصول على ولاية ثانية، في 2012، بينما وللمفارقة انسحب خليفته فرنسوا أولاند من انتخابات 2017، في حين جاء الرئيس الحالي، إيمانويل ماكرون من رحم حزب جديد تماما على الساحة السياسية الفرنسية، في انعكاس لحالة التمرد الشعبي على الأحزاب بصورتها التقليدية، والتعلق بأي بديل من شأنه تحقيق طفرة في حياة المواطنين.
والمشهد الأمريكي نفسه، ربما يمثل شاهدا مهما على تلك الحالة، من الرغبة العارمة في الخروج عن نمطية السياسة المتبعة من قبل البيت الأبيض، خاصة خلال انتخابات 2016، والتي انتصر فيها الشارع لترامب، والذي لا يملك خبرات الساسة، على حساب سياسية مخضرمة بحجم هيلاري كلينتون، خاصة وأن خطابه الانتخابي حمل في طياته تمردا ليس فقط على سياسات سلفه الديمقراطي باراك أوباما، وإنما امتدت إلى أسلافه الجمهوريين أنفسهم.
وهنا تصبح الحالة الأمريكية المتفردة، والتي طالما نظر إليها باعتبارها أيقونة الديمقراطية في العالم، في حاجة إلى إعادة نظر، ليس فقط من خلال تقديم وجوه جديدا بعيدا عن التكرار، والذي سبق وأن تناولته في مقال سابق، وإنما عبر صعود أحزاب جديدة، يمكن من خلالها كسر الهيمنة الثنائية لحزبين فقط يتبادلان السلطة، لتقدم رؤى جديدة ومختلفة عن تلك المواقف التقليدية التي تتبناها واشنطن، فيما يتعلق بالعديد من القضايا سواء في الداخل أو الخارج.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة