ربما يكون الوقت الحالى هو الأكثر دقة فيما يتعلق بمصير الحرب فى غزة، ومدى قدرة الأطراف المختلفة على التوصل إلى اتفاقات توقف إطلاق النار، أو بمعنى أدق توقف الحرب على غزة التى تجاوزت الأشهر العشرة، وتدخل شهرها الحادى عشر، وهى أطول فترة فى تاريخ المواجهة والأعلى فى أعداد الضحايا، وحجم الدمار فى المبانى، وكل يوم يمر مع استمرار الحرب على غزة، يضاعف من أعداد الشهداء والجرحى، خاصة من الأطفال والنساء، وتبدو الحرب بالنسبة لنتنياهو ومعسكر التطرف الإسرائيلى، مبرر الوجود، وفى حال وقف الحرب بالتأكيد سوف تظهر المشكلات الاقتصادية والاجتماعية داخل إسرائيل كما تجرى العادة، حيث يقتات نتنياهو على الحرب، والتى أصبحت مبرر وجوده السياسى الوحيد.
فقد تكبد الاقتصاد الإسرائيلى أكثر من 67.3 مليار دولار حتى الآن، حسب ما أعلنته الخبيرة الاقتصادية راكيفيت روسك أميناح، الرئيسة التنفيذية السابقة لبنك لئومى، والتى قالت للقناة 12 الإسرائيلية إن الحرب كلفت الاقتصاد الإسرائيلى أكثر من 250 مليار شيكل، وأفاد تقرير للبنك الإسرائيلى بأن الخسائر طالت أغلب قطاعات البناء والعقارات والصناعة.
ووفق تقارير محافظ بنك إسرائيل، ارتفع حجم الديون لـ43 مليار دولار خلال خمسة أشهر من بداية الحرب، وهناك 21 مليار دولار ديونا إضافية، و304 مليارات دولار إجمالى الدين العام الإسرائيلى حتى نهاية 2023، و6 مليارات دولار إجمالى القروض عام 2022، مع ظهور توقعات سلبية تجاه الاقتصاد خلال عام 2025، وخفضت وكالة فيتش التصنيف الائتمانى لإسرائيل من «A+» إلى «A»، مشيرة إلى تفاقم المخاطر الجيوسياسية مع استمرار الحرب فى غزة، وسط تهديدات بانتقالها إلى جبهات أخرى، وأبقت نظرتها المستقبلية لإسرائيل عند مستوى سلبى.
الشاهد أن توقف الحرب قد يعنى محاسبة نتنياهو، وتداعيات المشكلات الاقتصادية والسياسية، وهو ما يفترض أن تنتبه إليه حماس والفصائل الفلسطينية، وهى تتعامل مع الوضع، وأن تضع فى مركز اهتمامها وقف الحرب كهدف أساسى، لأن وقف الحرب قد يعنى البدء فى مسارات تتجاوز تراكمات الحرب، بجانب أهمية تقييم نتائج المواجهة، التى أدت إلى هذا الحجم من الدمار فى غزة.
وفى هذا الإطار، تأتى جولة أنتونى بلينكن وزير الخارجية الأمريكية، فى المنطقة، حيث زار إسرائيل، وانتقل إلى مصر، ثم يتجه إلى الدوحة، ويتابع الجهود المصرية - الأمريكية - القطرية لوقف إطلاق النار فى غزة وتبادل المحتجزين، بعد الاجتماع التفاوضى الأخير الذى عقد الأسبوع الماضى بالدوحة، وسبل تحريك الموقف وإحراز تقدم فى المفاوضات الجارية بالقاهرة، وبالطبع فقد أطلع بلينكن الرئيس السيسى على نتائج زيارته لإسرائيل، وأكد التزام الولايات المتحدة بجهود التهدئة والتوصل لاتفاق.
من جهته، أكد الرئيس عبدالفتاح السيسى أن الوقت قد حان لإنهاء الحرب، والاحتكام لصوت العقل والحكمة وإعلاء لغة السلام والدبلوماسية، وحذر من خطورة توسع نطاق الصراع إقليميا على نحو يصعب تصور تبعاته، وأن وقف إطلاق النار فى غزة يجب أن يكون بداية لاعتراف دولى أوسع بالدولة الفلسطينية وتنفيذ حل الدولتين، باعتبار ذلك الضامن الأساسى لاستقرار المنطقة.
الواقع أن الموقف المصرى منذ بداية الحرب هو الأكثر اتساقا وتفهما، لأن مصر لديها خبرة فى التعامل مع الجانب الإسرائيلى، وربما الأكثر فهما لعقلية الحرب والتفاوض، ولهذا فقد واجهت اتهامات أو محاولات وأكاذيب إسرائيلية، فالدولة المصرية حاسمة فى رفض التصفية والتهجير، وأيضا رفضت التعامل مع الاحتلال فى رفح بعد احتلال المعبر من الجانب الفلسطينى، وهو موقف يتسق مع الاتفاقات ويدعم الموقف الفلسطينى، وبالتالى فإن وقف الحرب قد يكون بداية لإنهاء الوجود الإسرائيلى فى محور رفح من الجانب الفلسطينى، ومحور فيلادلفيا.
وتمتلك مصر قدرة احترافية فى التعامل مع كل الأطراف، خاصة طرف الاحتلال، وتخوض لهذا حروبا دبلوماسية وسياسية، وتواجه محاولات ابتزاز إسرائيلية أو مزايدات تتجاوزها، وتتمسك بالهدف الأساسى وهو وقف الحرب على غزة، الموقف المصرى تجاه انسحاب إسرائيل من محور فيلادلفيا ومعبر رفح حاسم جدا، مشيرا إلى أن مصر رفضت التنسيق بعد احتلال إسرائيل للمعبر.
ومن يتابع منحنيات الصراع الإقليمى، يكتشف أن الأطراف الظاهرة فى المواجهة مثل إيران وحزب الله، حرصت على تأكيد عدم الانخراط فى حرب إقليمية، وهو أمر يعنى عدم الرغبة فى مواجهة مع الولايات المتحدة، وربما تكتيك لتمرير وقف الحرب، وهذه الدول والأطراف كانت ضمن الأطراف الظاهرة فى المواجهة، لكنها الآن تنسحب وتضع الانتقام ردا على الاغتيالات كرد شخصى وليس مواجهة شاملة، وهو ما يكشف عن الفرق بين الخطابات التهديدية الإيرانية، والموقف السياسى البراجماتى، وإذا كان هذا موقف الدول التى تعرضت لاعتداءات، وتنفيذ اغتيالات، يصبح الموقف المصرى أكثر اتساقا ودقة بشكل يجعله نموذجا للتعامل الحاسم والواضح.