بعضُ القضايا يكون ظاهرُها بسيطًا، وجوهرُها مُتداخلاً وشديدَ التعقيد. ينطبقُ ذلك على مسألة الحبس الاحتياطى، وما تُثيره من مآخذ وجدليَّاتٍ خلال الفترة الأخيرة، بين من يختزلونها فى قضايا السياسة وحرية الرأى والتعبير، ومن يُغلِّبون الوقائىَّ فيها على الحقوقىِّ، وفى منطقةٍ وسيطة بينهما يقفُ الساعون لضَبط الملفِّ؛ بما لا يُقيِّدُ العدالةَ أو يجعلُها طائشةً، والحقُّ أنها موضوعٌ خلافىٌّ قديم، يعودُ لسنواتٍ طويلة مضت؛ وليس طارئًا ولا ناتجًا عن سياقاتٍ مُستجدَّة. والمُقاربة الموضوعيَّةُ تقعُ فى نطاقٍ مُتوازنٍ بين حقِّ المُتَّهم وحقوق المجتمع، وفاعليَّة الإجراءات الأمنية ومنظومة التقاضى، وألَّا تُنزَعَ القيودُ تمامًا، أو تضيق لدرجة الاختناق، ومهمَّة المُتصدِّين لها أن يبحثوا عن هذا التوازن، وأن يُحقِّقوه بأفضل السُّبل فى الكُلفة والفاعليّة. ولعلَّ هذا ما استدعى أن يُوضَع الملفُّ على طاولة الحوار الوطنى، وأن يتجاورَ فيه المجتمعُ المدنىُّ مع الحزبيِّين والتنفيذيين وفُقهاء القانون؛ لأجل استكشافه من الجوانب كُلِّها، وتقليب الصورة على كُلِّ وجوهها المُمكنة؛ لتكونَ الاستخلاصاتُ النهائيَّةُ تجسيدًا لرؤيةٍ شُموليَّة غير مُبتَسَرة، تُراعى كلَّ الأبعاد، ولا تضعُ جانبًا من الملاحظات والأفكار فوق الآخر.
النظرةُ العابرة تشى بالبساطة؛ إذ النزاعُ على ما يبدو فى توقيفِ شخصٍ ما على ذمَّة جريمةٍ أو اتِّهام، وقد تطولُ المدة فى قليلٍ أو كثير من الأحيان، والحلُّ أنْ تتحدَّد الآجالُ وتُقيَّدَ بحدودٍ وقتية وإجرائيّة. لكنَّ الشِّقَّ المُعقَّدَ يكمنُ فى التفاصيل، وأننا لسنا إزاء عنوانٍ واحدٍ تحسمُه جُملةٌ جامعةٌ مانعة، وهذا ما يتكشَّفُ من احتياج الحوار الوطنى لجلساتٍ عديدة، وساعاتِ عملٍ مُطوَّلة، أفضت إلى رفع أربعٍ وعشرين توصيةً إلى رئيس الجمهورية. صحيحٌ أنَّ منها عشرين بالتوافق، وأربعةً فقط بدت خلافية، ما فرضَ تمريرَها بباقةٍ مُتنوِّعة من المُقترحات؛ إلَّا أنَّ زَخْم النقاش وكثافة الأطروحات يُشيران إلى أنها مهمَّةٌ غير بسيطة، لا فى التداول عليها، ولا فى حسمِها بيُسرٍ أو إجماع.
أعلنَ الرئيسُ السيسي، أمس الأربعاء، إحالةَ التوصيات الواردة إليه للحكومة، مع التوجيه باتخاذ الإجراءات اللازمة لتفعيل النقاط محلِّ التوافق منها. وأكَّد فى بيانه أنَّ الاستجابةَ للحوار الوطنى نابعةٌ من رغبةٍ صادقة فى إنفاذ أحكام الدستور والاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، مع أهمية النظر فى تخفيض الحدود القُصوى للحبس الاحتياطى، والحفاظ على طبيعته الأصيلة، باعتباره إجراءً وقائيًّا وليس عقوبة. وتنفتحُ النظرة لتصفية تركة الموضوع على باقةٍ من البدائل الإجرائية والتنظيمية؛ لإنهاء المآخذ، واستحداث آليَّةٍ لجَبر الضَّرَر، والتعويض ماديًّا وأدبيًّا فى حال الخطأ. هكذا لا يبدو الخلافُ عميقًا؛ بل ثمَّة توافقات إيجابية على الخطوط العريضة، وما يتبقَّى أن تُتَرجَمَ التوافقاتُ فى نصوصٍ مُحكَمة، قابلة للإنفاذ السهل والمُثمر، وقادرة على ضَبط السلبيات وتثبيت الإيجابيَّات، وضمان ألَّا يتشوَّه الإصلاحُ فى التطبيق، وألَّا يتحوَّل إلى فوضى أمنيَّةٍ وجنائيَّةٍ أيضًا.
فلسفةُ الحبس الاحتياطىِّ تنبعُ من احتياج العدالة إلى إجراءاتٍ مُعينة على التصدِّى للتفلُّت والألاعيب، المُتَّهمُ قد يعبثُ بالأدلَّة والقرائن، أو يُهدِّدُ الخصومَ والشهود، وربما يهربُ من المُحاكمة أصلاً. وفى الوقت نفسِه؛ فإنَّ بعضَ القضايا لا تُهدِّدها تلك النوعيَّةُ من المخاطر والشبهات، وبعضَ المتهمين قد يكونُ بقاؤهم فى بيوتهم أجدى من إرهاقهم فى السجون، وإرهاقها بهم. لكنَّ القانونَ بطبعه يسعى إلى قواعدَ عُموميَّةٍ مُجرَّدة، ولا تعنيه هُويَّة الماثل أمامه، ولا أصلُه وثقافتُه وحالتُه الاجتماعية؛ وعليه فالواجب ألَّا يكونَ التشريعُ ثقيلَ الوطأة دون داعٍ، ولا خفيفًا باهتًا فيما يحتاجُ للجدّية والحَزم. وباعتبار التوقيف المُؤقَّت واحدًا من أذرُع العدالة كما أسلفنا؛ فإذا صار مُعطِّلاً لها أو مُتصادِمًا مع جوهرها الصافى؛ يكون من الضرورى إخضاعُه للفحص والتقويم، وإعادةُ ضَبطِه على مُرتكزاتٍ أكثرَ كفاءةً وديناميكيَّة. باختصار؛ كانت الصورةُ المعمولُ بها خيارًا ظَرفيًّا لإحقاق العدل، والغايةُ نفسُها تتطلَّبُ اليومَ أن يُعادَ البحثُ عن تكييفٍ جديد، طالما أنَّ القديمَ لم يُنجز أثرَه المطلوب، أو أنجزَه بأعباء وتكاليف باهظة، يُمكن ترشيدُها دونَ مساسٍ بالتزاماتِ الأمن، ونجاعة المُساءلة، وإلزاميَّة الحفاظ على حقوق الإنسان وصَونها من التغوُّل عليها، وكُلُّها مِمَّا يُوطِّدُ الأُسُسَ القانونيَّةَ ويصونُ حجِّيّة الدستور، وينضبطُ بالعَقد الاجتماعىِّ، ولا يُكبِّلُ السُّلطةَ فى ولايتها على المجال العام، كما لا يُطلِقُ يدَها تمامًا؛ تأسيسًا على أنها تنوبُ عن الناسِ أصلاً فى إدارة شؤونهم، ولصالحهم العُمومىِّ قبلَ كلِّ شَىء.
ربما لم يشهَدْ الحوارُ الوطنىُّ خلافًا بين المُشاركين على وجوبية بحث الموضوع، وحاجته إلى المُراجعة والتطوير، تفاوتُ الآراء كان فى حجمِ النقد ومِقدار التحسين المطلوب، وفى الآثار الجانبيَّة المُحتمَلَة عن إبقاءِ الأُمور على حالها، أو إطلاقِها الكامل دون قيودٍ نسبيَّة أو قواعد ناظمة. والداعون إلى دفعِ المسألة لآخرِ حدود الانفتاح، كانوا يتناولونها من جانبها السياسى فحَسْب، ويردُّ مُخالفوهم بإثارة الشقِّ الجنائىِّ الذى تتجسَّدُ فيه المخاوفُ عند حُدودِها القُصوى، بينما تفرضُ الوسطيَّةُ العاقلةُ ألَّا ينحصرَ النقاشُ فى هذا أو ذاك، وألَّا يُعاقَبَ السياسيِّون على مقياس الجنائيِّين، أو يربحَ عُتاة الإجرام تحت مظلَّة الاجتزاء والنظر من زاوية قضايا الرأى وحدها. ومهمَّة التوفيق بين صِفَة العُموم والتجريد فى القانون، والفصل بين نوعيَّة الاتهامات والمُتَّهمين، تتطلَّبُ جهدًا مُضاعَفًا لتجاوز ثغرات الانحياز وشُبهات عدم الدستورية، وقَطع الطريق على الالتفاف، أو التسرُّب من زوايا التعدُّد فى وجهات النظر، وما يُمكن أن يُحدِثَ التباسًا، مقصودًا أو عَارِضًا، لدى الدفاع وجهات الادِّعاء. إنها عمليَّةٌ مُركَّبةٌ وشديدةُ التعقيد، للمُوازنة بين حقوق المُدَّعين والمُدَّعى عليهم والمجتمع، والتحسُّب لمحاولات التلاعُب مع إغلاق منافذها، وأن يظلَّ هذا تحت سَقف الحُرِّية والانضباط، وكفاءة التقاضى وضمان العدالة الجنائية.
لا يخلو المجالُ هُنا من وقفاتٍ منطقيَّة، كما هى الحالُ مثلاً إزاءَ تعدُّدِ الجرائم وتعاصُرِها وارتباطها ببعضها. قد تحدُثُ من المُتَّهم الواحدِ خُروقاتٌ مُتزامِنةٌ ومُتشابكةٌ للقانون، أو تتوالدُ الجرائمُ من بعضها، كأن يُضبَطَ فى جريمتين، أو يرتكبَ إحداهما وقتَ توقيفه على ذِمَّة غيرها، وهُنا نحتاج إلى إطلالةٍ بانوراميّة مُتحرِّرة من الأيديولوجيا والانفعالات الشخصية والمواقف المُسبَقَة، مثلما يحتاجُ الحبسُ الاحتياطىُّ إلى ضَبطٍ فى الآجال، وفى الصياغة أيضًا؛ بما لا يسمحُ بإرخاء حَبلِ المَوقوف تحت مظلَّة تحجيم سُلطة التحقيق، أو يفتحُ منفذًا للدفاع أن يخدُمَ مُوكِّلَه على حساب الضحايا والحقِّ العام، مع ما يترتَّبُ على ذلك أحيانًا من فُسحةٍ للعب فى مادّة القضية، أو للترهيب وابتزاز الخصوم والشهود. وبعيدًا من المُعضلات الشبيهة، ويفهمُها رجالُ القانون وفقهاؤه أكثرَ مِنِّى قطعًا؛ فبَقيَّةُ العناوين يُمكِنُ التوصُّل فيها إلى بدائلَ إجرائيَّةٍ ونظاميَّة عن الحبس، تكونُ فعَّالةً وقليلةَ المثالب، وقد سِيْقَت فى ذلك مُقترحاتٌ عديدة بالفعل، منها تحديدُ الإقامة أو حَظرُ السفر أو التَّتبُّع عبر أقسام الشرطة والأساور الإلكترونية. ومع انصراف إرادة شُركاء المجال العام نحو التوافق، والرغبةِ الباديَّة من جانب الدولة فى كلِّ مُستوياتها، وصولاً إلى مقام الرئاسة الرفيع؛ فلن يكون الْتِمَاسُ الموضوعيَّة والاعتدال مُستحيلاً، ولا التركةُ القديمة للملفِّ المشحون عصيَّةً على الفرز والتصفية.
الشِّقُّ العاجلُ حُسِمَ فى الحوار الوطنى؛ بمعنى الاتفاق على غياب المِثاليَّة عن الوَضع القائم، والحاجةِ الضروريَّة إلى تطويره أو تغيير معالمه بالكامل. إنما الجوانبُ المُهمَّة ما تزالُ خاضعةً للنظر، بمُوجب المسار الطبيعىِّ لفحص التوصيات وإنزالها منزلةَ التطبيق. تحريكُ المُخرجات الحواريَّة من الرئيس للحكومة سيستتبعُ عملاً قانونيًّا وتشريعيًّا؛ إذ المُنازعةُ ليست ممَّا يُحسَمُ بقرارٍ من السُّلطة التنفيذية، وعليه ستعملُ الجهاتُ المَعنيَّةُ مع وزارة الشؤون القانونية على النظر فى التشريعات، واقتراح أفكارٍ وصياغاتٍ مُحدَّثَة فى ضوء الطُروحات الجديدة، بجانب ما يعمل عليه مجلس النواب فى مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد؛ لتذهبَ القضيَّةُ برُمَّتها إلى البرلمان. وهذا يتطلَّبُ جهدًا إضافيًّا من المستشار محمود فوزى فى البُعد النيابى كما فى شِقِّ التواصل السياسى، بغَرَض استكمال حالة التلاقى على منصَّة الحوار، بحالةٍ شبيهة تحت القُبَّة، دون استبعاد آراء وتصوُّرات الأحزاب غير المُمثَّلَة فى برلمانيًّا، ولا المجتمع المدنىِّ والحقوقيين المُعتبَرين، بعيدًا من فئاتٍ معروفة بينهم، تُحرِّكها المنافعُ الشخصية لا الصالح العام، وترتبطُ بأجنداتٍ تعلو فيها المُكايدةُ على نزعة الإصلاح، والابتزازُ على التشارُكيَّة والتوافُق البنَّاء. لا حجَّةَ لدى المُعارضة وقد أبدى الرئيسُ بنفسه تقبُّلاً حَسِنًا لمواقفها، ولا مُبرِّرَ لأنْ يتشدَّد آخرون وقد تلقَّت الدولةُ المسألةَ بكل مستويات خطابِها على نحوٍ هادئ، وتتعاطى معها بإيجابيَّةٍ ظاهرة، وباستشعارٍ حقيقىٍّ لأهميّة تصفية الجيوب المفتوحة، وإغلاق ثغراتها على الوجه الصحيح.
قد لا يصلحُ الماضى تبريرًا للحاضر؛ لكنَّ الانطلاقَ الصحيحَ يبدأ من وضعِ الأُمور فى نصابها، والنظرِ إليها وفقَ اعتباراتِ الزمان والمكان، للوصول إلى أوفقِ السُّبل الكفيلة بتجاوز الموروث المُستهَجَن، وابتكار المُستحدَث على هيئةٍ ناضجة ومُستَحسَنَة. وقضيَّةُ الحبس الاحتياطىِّ من موروثات المجال العام، ولعلَّها محلُ نزاعٍ يمتدُّ لعقودٍ سابقة، وليست نتاجَ ما تعرَّضت له البيئةُ الأمنيَّة من ضرباتٍ فى 2011 وما بعدها؛ وكانت تُستَدْعَى للواجهة حِينًا وتخفُت أحيانًا، وكثيرًا ما وُظِّفَتْ فى النقد والتعريض السياسى دون بحثٍ عن حُلولٍ حقيقية؛ حتى أنها لم تُثَرْ بجدّية خلال فترة حُكم الإخوان، وكانوا يُسيطرون على السُّلطة التشريعية بغُرفتيها، وما كانت القُوى المدنيَّةُ فى مجموعها غائبةً عن البرلمان والشارع.. والحال أنَّ الرواسبَ كُلَّما طالَ عليها الزمنُ تكبُر وتتكلَّس، ويحتاجُ تفكيكُها إلى جهودٍ مُركَّزة، وإلى تدرُّجٍ فى العمل واستحصال النتائج بنَفَسٍ طويلٍ ورُوحٍ مُنفتِحَة. قد لا نصلُ للصورةِ المُثْلَى من المُحاولة الأُولى، وقد نستشعرُ بعد التجربة؛ مهما بدت إيجابيَّة ومُرضِية للطموحات، أننا نحتاجُ لمُراجعتِها بتعظيم الإيجابىِّ وتحجيم السلبىِّ. والمعنى؛ أننا فى ورشةٍ إصلاحيَّة مُمتدَّة، لن تنتهى أو تُغلَقُ أبوابُها بانقضاءِ الجولة الحالية، ويتوجَّبُ ألَّا نُعرِّضها للمُناكفة، وألَّا نُساقَ خلالَها بالخِفَّة فى استعجال الكمال.
فى مرحلةٍ سابقة، أوجَبَتْ الضغوطُ الأمنيَّةُ إجراءاتٍ مُشدَّدةً فى التعامل مع سياقٍ طارئ. لم تكُن الفوضى الناشئةُ بعد ثورتين عارمتين مناخًا اعتياديًّا، ولا موجةُ الإرهابِ الإخوانيِّ مِمَّا تجهَّزت له مُؤسَّساتُ إنفاذ القانون فى روتينها اليومىِّ. ربما نتَجَتْ أخطاءٌ من طبيعة المرحلة وظروفها القاسية، أو من تساهُلٍ فى المُمارسة الفرديَّة؛ والآن غادَرْنا نطاقَ الاستثناء، ونسعى لاستعادة الأجواء العاديَّة فى إدارة البيئة الاجتماعيَّة وما يقعُ على أطرافها من تجاوزاتٍ؛ إنّما الإصلاحُ الشامل لن يتأتّى من القانون فحسب، بل يمتدُّ إلى الثقافة العامة، والسلوكيَّات الشخصية، وتطوير منظومة الأمن فى الآليَّات والوسائل وقُدرات القائمين عليها، مع تحسين عملية التقاضى على مستوى السرعة والكفاءة وإنهاء التراكُمات القديمة. التشريعُ سيحفظُ حقوقَ المُتَّهمين بنصوصٍ واضحةٍ، ويفرضُ قيودًا على الجهات الرسمية؛ لكنَّ تعقيدات الواقع لها اعتباراتٌ تتعيَّنُ مُراعاتها، وتطويرُ إجراءات الضَّبْط والتحرِّى والتحقيق والفصل السريع فى القضايا؛ ستكون السبيلَ للتثبُّت فى الاتهام، والتعجيل بفحص الوقائع بكفاءةٍ وانضباط، وضمان ألَّا يتعارضَ مسارُ التقاضى مع الحدود الموضوعة للحبس، وهكذا لا يقعُ الخلافُ أصلاً بين أمان المجتمع، وحُرّيّة الشخص وحقِّه فى مُحاكمةٍ عادلة.
قبل ساعاتٍ من بيان الرئيس، تحدَّثَ وزيرُ الشؤون النيابية من مدينة العلمين الجديدة، مُستعرِضًا خُلاصةَ ما توصَّل إليه المشاركون فى الحوار الوطنى، وموقفَ الحكومة التى يُمثّلها من المسألة، ومن الورشة الحواريَّة بكاملِها. الفكرةُ واضحةٌ فى أذهان التنفيذيِّين وخطاباتهم، ومفادُها أنهم يسعون لبناء حالةٍ من التوافُق فى المجال العام، وإرساء نمَطٍ مُغايرٍ لما أُدِيْرَت به العلاقاتُ فى السابق؛ حتى ما قبل ثورة 30 يونيو وتشكُّل نظامها الجديد، فلسفةُ اللقاء على مائدةٍ واحدة تستندُ أصلاً إلى اعترافٍ بالاختلاف، ورغبةٍ فى جَبره على قاعدة الاتِّصال لا القطيعة، والحوار لا الخصام. وإذا كانت الدولةُ تسيرُ باتجاه المُختلفين معهاشِبرًا؛ فعليهم أن يسيروا إليها ذراعًا، إذ العمليَّةُ تكامليُّةٌ ولا تنتظمُ على ساقٍ مُفرَدة، كما أنها مُتدرِّجة وتراكميُّة، ولن تُنجَزَ بالعصا السحرية لمُجرِّد النيّة فى إنجازها. مثلما تحتاجُ المرافقُ النظاميَّةُ لهيكلةٍ وتأهيل؛ فإنَّ النُّخبةَ وأبنيَتَها فى حاجةٍ للوقوف مع النفس، والتحلِّى بفضيلة المُراجعة، ومُداواة أعطابها الموروثة أو الناشئة عن سنوات التخبُّط والسيولة؛ أىْ أنَّ المجالَ العام يحتاجُ تأهيلاً مُرافِقًا لعمل السُّلطة، يبدأ من الوعى بالقُدرات والإمكانات، وضَبطِ الخطاب والمُمارسة، وتنقية حظيرته من الاعتراض والشعبوية والذوات المُتضخِّمة، وُصولاً للاعتراف بالشراكة الحقيقية فى الواجبات كما فى الحقوق، وبأنَّ التجارب الناضجة تُبنَى من داخلها، بالصدق والصبر والعمل الجاد؛ وليس بالشعارات والانعزال عن الواقع، والطمع فى المزايا دون الأعباء.
ما أعلنَه الرئيسُ أمسِ مُقدِّمةٌ مُهمَّة لتصفية ملفٍّ ثقيل؛ لكنه ليس الخطوةَ الأُولى على طريق الانفتاح وبناء التوافق، وقد كان فى صُلب تكليفاته للحكومة الجديدة، العملُ على إنعاش المجال العام، وتعبئة القُدرات، وتفعيل المُشاركة السياسية. وعلى الدكتور مدبولى وفريقِه أن يُنجِزوا ما وردَ فى التوجيه الرئاسى بشأن الحبس الاحتياطىِّ، وما تكرَّر فى توجيهاتٍ عديدة بخصوص مُخرجات الحوار الوطنى؛ لكنَّ الحزبيِّين والنخبةَ وتيَّارات الأيديولوجيا المُتباينة عليهم أن يُواكبوا الجهودَ بالرقابة الموضوعية، والتفاعُل الخلاّق، وأن يتحضَّروا لما وراء ذلك من التزاماتٍ فى الجدل العاقل، والتفاهُم الهادئ، وبناء قواعدهم الشعبية، وإنجاز برامجهم العملانيَّة ببدائل مُقنعة وصالحة للتطبيق، ومُخاطبة الجمهور، والتحضُّر للانتخابات، والتشابُك الجاد مع محور التواصل السياسى وخططه المقترحة، كما عرضها الوزير محمود فوزى. لقد فتح الرئيسُ السيسى بابَ التداول فى كلِّ الخلافيَّات، وقصَّ شريطَ الحَسم لكثيرٍ منها، ويتبقّى أن يُحسِنَ الجميعُ استغلالَ الفُرصة بحقِّها، وأن يبنوا على ما تقدَّم، دون كَللٍ، وبما يجعلُ اختلاف الآراء عاملَ قوَّةٍ وثراء، وبناءَ التوافُق واجبًا، والحوارَ الدائمَ سبيلاً وحيدًا، ومهمَّة وطنيّةً مُقدَّسة.