إذا كانت جائزة نوبل لا تخلو من انحيازات، منها انحياز جغرافى لبلدان دون غيرها، وانحياز لغوى للغات دون أخرى، وانحياز سياسى جعلها تصل لمنشقين عن نظم معادية للغرب، وانحياز جعلها تنطلق من "المركز الغربي" على حساب "أطراف" هى دول، بل وقارات، تقع خارج هذا المركز.. وإذا كان نجيب محفوظ يلوح، بوضوح، خارج كل هذه الانحيازات.. فلماذا إذن منحته نوبل جائزتها؟!
حيثيات فوز نجيب محفوظ بـ"نوبل" أشارت إلى بعض (فقط بعض) الإنجازات وبعض المعالم البارزة فى مسيرته الغنية الطويلة التى قطعها حتى حصوله على الجائزة عام 1988، ومنها "المواظبة على الكتابة"، و"إسهامه فى تطور اللغة فى الأوساط الثقافية على امتداد العالم الناطق بالعربية"، بالإضافة إلى إشارات تضمنتها هذه الحيثيات حول أن "أعمال محفوظ تخاطبنا جميعًا"، ثم تنويه برواياته التاريخية الأولى، وبروايات له مثل (زقاق المدق)، و"الثلاثية"، و(أولاد حارتنا)، ومجموعة واحدة من مجموعاته القصصية هى (دنيا الله).. ثم أخيرًا أكدت الحيثيات على اهتمام محفوظ بوجه عام بـ"تسليط الضوء على مشوار الحياة كله".
والملاحظ طبعًا أن هذه الحيثيات لا تغطّى ما قدمه محفوظ من إنجازات على مستوى الرواية العربية، ولا ما تهتم بما أسهم به فى جماليات الرواية العالمية.. وفى هذه الوجهة الأخيرة يمكن الإشارة إلى مثال واحد فقط، هو روايته العظيمة التى نشرها محفوظ فى منتصف السبعينيات، أقصد (ملحمة الحرافيش) التى لم تكن قد ترجمت بعد إلى "اللغات" التى تصل إلى "نوبل" حتى سنة فوز محفوظ.. (كانت قد ترجمت إلى لغات أخرى، منها اللغة الصينية عام 1984). وهذه الرواية كانت، فيما كانت، اختبارًا جماليًّا هائلًا للتنظيرات السطحية التى شاعت، إلى حد الرسوخ، فى الأدبيات النقدية الغربية وغير الغربية، حول استقلال فن الرواية عن فن الملحمة، وتمثلت فى مقولات من قبيل أن "الرواية وريثة الملحمة".. بما يعني، ضمنا، أن هناك حقبة خاصة، هى فترة حياة، لكل منهما، وأن كل واحدة منهما مستقلة بحياتها وبفترتها عن الأخرى.
رواية (الحرافيش) أطاحت بمثل هذه التنظيرات التبسيطية، إذ زاوجت بين جماليات تنتمى إلى فن الرواية، وجماليات أخرى تنتمى إلى فن الرواية، وانطلقت بجانب مغامرتها الجمالية هذه من انشغال بقضايا كبرى مطروحة بإلحاح عبر التاريخ الإنسانى كله، وصاغت شخصيات وعوالم لا حد لغناها وتنوعها وتعددها.. بما جعلها فى تقييم كثيرين (منهم نجيب محفوظ نفسه) تعدّ أهم أعماله.. ومع ذلك كله لم تكن (الحرافيش) ضمن تقييم "نوبل"، ولم تكن جزءًا من الحيثيات التى صاغتها وسوَّغت بها فوز نجيب محفوظ.
هناك أسباب ومسوغات أخرى، كانت حاضرة بوضوح وراء فوز محفوظ بنوبل.
من هذه الأسباب أن الاهتمام بعالم محفوظ قد بدأ مبكرًا، فى اللغات التى تعتمدها نوبل.. ومن تمثيلات هذا الاهتمام المبكر كتاب صدر بالفرنسية كتبه الأب جاك جومييه، هو (ثلاثية نجيب محفوظ)، كتبه ونشره فى نهاية خمسينيات القرن الماضي، بعد سنوات قليلة جدًّا من صدور "الثلاثية" نفسها!
ومن هذا الاهتمام صدور ترجمات لبعض أعمال محفوظ إلى الفرنسية والإنجليزية منذ فترة مبكرة أيضًا، ومنها ترجمات لتريفور لو جاسيك وأندريه ميكيل.
ومن هذا الاهتمام مقالات ودراسات مبكرة كذلك عن بعض أعمال محفوظ، ومنها ما كتبه أندريه ميكيل وتريفور لو جاسيك أيضًا.
وبعد هذه الترجمات والدراسات المبكرة توالت ترجمات أخرى كثيرة لبعض أعمال محفوظ خلال الستينيات والسبعينيات وسنوات الثمانينيات التى سبقت فوز محفوظ بنوبل، أسهم فى هذه الترجمات أسماء كثيرة جدا، من بينها: دنيس جونسون ديفيز، وروجر آلن، ووليم هتشنز، وأوليف كني، وفرانسيس لياردت، وكاثرين كوبام، وفاطمة موسى، وعاكف أبادير، وفيليب ستيوارت، وفيليب فيجريه، وملك هاشم، وسعد الجبلاوي، وفوزية أسعد، وغيرهم وغيرهن... وبعض هؤلاء كتبوا دراسات ومقالات مهمة عن أعمال محفوظ، بالإضافة إلى دراسات ومقالات كثيرة مهمة أيضًا شارك فى كتابتها كثيرون وكثيرات، مثل: ديفيد كوان، وهيلارى كيلباتريك، وديزموند ستيوارت، وحليم بركات، وفرانسيسكو جابريلي، وحمدى السكوت.. وغيرهم كثيرون... فضلا عن عدد كبير من المتابعات والمراجعات الصحفية عن بعض روايات نجيب محفوظ وقصصه القصيرة.
هذا كله جعل أعمال نجيب محفوظ، أو بعضها، حاضرة ضمن الدوائر التى تهتم بها نوبل، وقد تزايد هذا الحضور إلى حد جعل من الصعب تجاهل هذه الأعمال أو التعامى عن رؤيتها.. حتى وإن بدا أن نجيب محفوظ نفسه، والعالم الذى ينتمى إليه، واللغة التى يكتب بها.. خارج "حسابات" نوبل.
لهذا كله.. ولغيره من الأسباب، فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، وهو فوز يبدو (حتى الآن) نوعًا من الاستثناء فى تاريخ الجائزة الطويل.. إلى أن يفوز بها كاتب عربى آخر!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة