حازم حسين

جمرة عرفات وبرودة أنفاق غزة.. عن خطر أن يُنفق حاضرُ النضال من أرصدة المستقبل

الأحد، 25 أغسطس 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

أوشك أن ينقضى شهرٌ كاملٌ على اغتيال إسماعيل هنيّة فى طهران، وفؤاد شكر فى معقل حزب الله بالضاحية الجنوبية لبيروت؛ لا وقعَ الثأرُ الذى أنفق فيه محورُ المُمانعة كلامًا كثيرًا، ولا ساعدت تهديداتُهم الساخنةُ على تقريب الهُدنة المأمولة فى غزّة. يربحُ نتنياهو بالوقت ما ربحَه بالنار، وكلاهما يصبُّ فى صالح أجندته الساعية لإبقاء الميدان ساخنًا، دون برودةٍ أو انفجار، والمنطقةُ واقفةً على قدمٍ ونصف. وإذ تبدو نواياه واضحةً، فى ذهنه على الأقل، ورغم ما يُحيطها من صراعاتٍ داخلية وخارجية؛ فالطرفُ الآخرُ كأنّه يرتجلُ المواقفَ، ويتعثَّرُ فى ردود الفعل؛ لعجزِه عن التصدِّى لخيارات العدوِّ القاسية، أو لأنه لا يعرفُ ما يريدُه أصلاً من الصراع الذى يقترب لإغلاق عامه الأوَّل. التكاليفُ باهظةٌ على الطرفين قطعًا؛ إنما لا يُمكن لعاقلٍ أن يُساوى بين خسائر المال التى يُعوِّضها حلفاءُ إسرائيل، ونزيفِ الدم والحياة الذى يتكبَّده الغزِّيون دون أُفقٍ للحل، ولا أمل فى التعويض.


ما تزالُ جهودُ الوسطاء مُتّصلةً فى ورشة البحث عن تهدئة، أكانت مُؤقَّتةً لالتقاط الأنفاس، أمْ مُؤهِّلةً لإنجاز صفقةٍ طويلة المدى، لا تعودُ الحربُ بعدها كما كانت منذ الطوفان. والعَقَبةُ هنا مُزدوجةٌ للأسف؛ إذ يتشدَّدُ زعيمُ الليكود فى أهدافه المُعلَنَة لاعتباراتٍ تكتيكية واستراتيجية، بينما يقبضُ قائدُ حماس الجديد على ورقة الأسرى؛ مُتطلِّعًا لأن تمنحَه اليومَ ما حرمَتْه إيَّاه فى الأسابيع الماضية. ومع ارتقائهما للشجرة نفسها، ورفضِ كلٍّ منهما أن يكونَ المُبادرَ بالنزول؛ فاحتمال الوصول إلى تفاهُماتٍ موضوعيّةٍ لإنهاء المأساة يبدو مُستحيلاً. فُرصةُ الاتِّفاق الآن بعيدةٌ مثلما كانت فى السابق، وحتى لو أثمرت الضغوطُ لناحية تقريب الرُّؤى مرحليًّا؛ فمخاطرُ العودة للصدام قائمةٌ بقوَّة، وقد صارَ الحسمُ الخَشِنُ عَصيًّا على الطرفين، ومعنى النصر غائمًا فى عيونهما، والفواعلُ الخارجيَّة أعلى صوتًا من الحسابات الميدانية المُجرَّدة. إمَّا لاستشعار نتنياهو أنه قادرٌ على ترويض الإدارة الديمقراطية فيما تبقَّى لها من مُهلةٍ عاطلة، وإمَّا لأن «السنوار» محكومٌ بإملاءات الحُلفاء، والمصالح المُتشابكة بين حماس ودائرة الشيعيَّة المُسلَّحة.


ينحو كثيرون للتبسيط فى مسألة إغراق نتنياهو فى التفاصيل، وسعيه الدائم لإفشال المفاوضات. المدخَلُ الأساسىُّ أنّه يُطبِّقُ نظريَّتَه الراسخة عن «التفاوض تحت النار»؛ طمعًا فى استخلاص أقصى المكاسب، وليس زُهدًا فى الاتفاق كما يُشاع، وبينما يُغرِقُ أغلبُ المُحلِّلين فى سيكولوجية الذئب العجوز، ويحصرون الأمرَ فى هلعِه من مُغادرة الميدان والعودة للحالة الطبيعية، مع ما يتأتَّى عن ذلك من افتتاح مواسم المُساءلة والحساب؛ فالواقع أنها نقطةٌ بين الأسباب، لكنها ليست السببَ الوحيد. لقد تضرَّرت نظريَّةُ الرَّدع من «طوفان الأقصى»، وسقطت فلسفةُ الحماية التى نَظَّر لها رائدُ الحركة التصحيحية زئيف جابوتنسكى، وصاغها الأبُ المُؤسِّسُ ديفيد بن جوريون. وضعَ الأوَّلُ معيارًا لسلامة الدولة أسماه «الجدار الحديدى»، ويستندُ فى جوهره للقوَّة العارية، وتهشيم وعى الخصوم فيما يخصُّ التكافؤ والقُدرةَ على إيذاء إسرائيل، ومنحَه الثانى جسدًا ماديًّا وتصوُّرًا عملانيًّا يقوم على الإنذار المُبكِّر والضربات الاستباقية، ومنطق الحرب الخاطفة مع نقلها لأرض العدوّ. وما أحدثته غزوة السابع من أكتوبر على العكس تمامًا؛ إذ أسقطت الجُدران الفولاذية العالية، وحيَّدَتْ الرَّدعَ المعنوىَّ والمادىَّ، استباقًا أو تعقيبًا، وأطالت أمدَ القتال فى بطن الصهيونية وبين أمعائها، وليس على الأطراف أو فى بيئات الأعداء. ونتنياهو كغيره من القادة، لديه حساباتٌ شخصيَّةٌ قطعًا؛ لكنه يتطلَّعُ أيضًا لإعادة إرساء المُعادلة الساقطة.


يرقصُ رئيسُ الحكومة على حَبلٍ مُهتزٍّ بين غايتين: العودة لِمَا قبل «الطوفان» على مستوى الوعى والتوازنات، واستبقاء ما بعده من حركيَّةِ الحرب وآثارها المادية. وإذا جزمنا باستحالة الأمرين معًا؛ فالحال أنَّ تل أبيب قادرةٌ على التعايش مع أحدهما، بينما ليس فى مقدور «حماس» أن تُعيدَ الزمنَ للوراء قبل هجمتها، أو تستمر فى مواجهةٍ مفتوحة لا تعرفُ متى تنتهى، ولا عند أيَّة شروطٍ بشأن المستقبل. والغموض الذى يكتنفُ المسارَ ليس واحدًا للفريقين بطبيعة الحال؛ لأنَّ الأوَّلَ ينطلقُ من السَّبْق والهيمنة على المجال الحيوىِّ لغريمه، والآخرَ خرجَ من دائرة الفعلِ وصار مفعولاً به، ما يعنى أنه بقدر ما يتشدَّدُ المُحتلُّ فى إبقاء الدراما عالقةً دون حلول، يتعيَّنُ أن يبذلَ المُقاوِمُ كلَّ طاقته لاستجلاء النهاية الأقل عبئًا وتكلفة، وأن يخرُجَ من الحلبة بأنفٍ نازف، قبل أن يُدفَعَ خارجَها جُثَّةً هامدة.


لنَكُن منطقيِّين وأكثر وضوحًا؛ إنها دعوةٌ إلى النجاة لا الاستسلام. والفارقُ بينهما بقدر ما يختلفُ إقدامُ «حماس» فى الطوفان عن حالها اليوم، وتفكُّكُ دعايات محور الممانعة عن «وحدة الساحات»، وعن فاعليَّة الإسناد والمُشاغلة التى ما أنقذت غزَّة، ولا وفَّرت لبنان من مخاطر الوحشيَّة الصهيونية. وبأقلِّ قدرٍ من الأيديولوجيا والانفعال؛ سنقول إنَّ الشيعيَّةَ المُسلَّحةَ حُشِرَت فى رُكنٍ ضيِّقٍ، ولم تكُن تغامرُ أصلاً بالمسألة الفلسطينية فى نزوةٍ إقليمية لترتيب أوراق طهران ومصالحها؛ إنما بعيدًا من الواقع ونزاعات التوصيف؛ فقد آل المشهدُ لتعقيدٍ أكبر ممَّا كان يتخيَّله السنوار، أو يُرتِّبُ له مع داعميه، بعدما استبدَّت آلةُ الاحتلال بالغزِّيين، وتعذَّرت على الفصائل إدارةُ الحرب، أو استثمارُ فواجعِها فى الدعاية، وبدا أنها تعرَّضت لخديعةٍ من رأس المحور، أو على الأقل لانكشافِ هشاشته التى لم يكن يعلمُها. المُحصِّلةُ أنَّ الرهان الذى انطلق من تفجير الشرارة، على أمل الوصول لمحرقةٍ إقليميَّة تتعادلُ فيها الأوزان، قد خاب تمامًا للدرجة التى أوقعت الانفجارَ كاملاً فى القطاع، ولم تنقِلْ منه للخارجِ إلَّا أثرَ السخونة دونَ امتداد ألسنة اللهب؛ فحدَثَ آخرُ ما كان يتمنَّاه الحماسيِّون: صارت الحربُ رادعًا معنويًّا الداعمين؛ بدل أن تكون مُحفِّزًا لهم على الإقدام والانخراط فى القتال.


حماس التى استثمرت فى مركزها المادى والمعنوى بعد الانقلاب على السلطة الفلسطينية فى 2007، وعملت بدأبٍ لتمتين هياكلها وتعظيم عناصر قُوَّتها؛ لم تكُن بطبيعة الحال غائبةً عن حسابات الميدان وفوارق القوَّة مع الاحتلال. لقد شهِدَت على عدَّة حروبٍ صغيرة شنَّتها إسرائيل ضد حركة الجهاد، وكانت تعتصمُ بالحياد وموقعِ المُتفرِّج دون انخراطٍ مُباشرٍ أو إسنادٍ غير مُباشر. والمُتغيّر الذى دفعها لكَسْر الصيام الطويل بالطوفان كان عابرًا من خارج الحدود، وليس ناشئًا من داخل القطاع، ولا وفقَ حساباتٍ وطنية صافية. باختصار؛ دُفِعَتْ الحركةُ، أو اختارت بإرادتها، أن تكون رأسَ حربةٍ ضد مشروع التفاهُمات الإقليمية واتفاقات التطبيع الإبراهيمية؛ لا سيِّما بعدما بدا أنَّ خطَّ «الرياض/ تل أبيب» يُوشك أن يتَّصل، كما قال ولى العهد السعودى فى حواره مع فوكس نيوز قبل أسبوعين فقط من مُغامرة القسَّاميِّين. أراد «السنوار» أن يُعطِّلَ مسارَ تغليب الاقتصاد على السياسة، ويخلطَ أوراق المنطقة، ولعلَّه وُعِدَ بدخول حلقة النار الشيعيَّة معه فى المُواجهة، وإمَّا أن يُحقِّق تقدُّمًا عسكريًّا يتيسَّر له تأمينُه بصفقةِ تبادُلٍ كما كان فى تجربة شاليط قبل ثلاث عشرة سنة، أو لو أفلتت الأمورُ ستغرقُ إسرائيلُ فى أوحال غزة ودمائها، وتُستَثْمَر الخسائرُ الإنسانيّةُ الفادحة فى تسويد صفحة الاحتلال وتهشيم صورته أمام العالم. والحال أنَّ غرضَ الدعاية تحقَّقَ جُزئيًّا، ولم تكُن القضيَّةُ فى حاجةٍ إليه أصلاً؛ لأنَّ المُعضلة ليست فى خديعة النظام الدولى بشأن الصهيونية، وكلُّهم يعرفون حقيقتَها؛ بل فى انحياز قُواه الكُبرى لها خارج القانون والشرعيَّة، وعليه فما أحرزته الدعايةُ لم يكُن كافيًا لإنهاء المَقتَلة، وكالعادة فإنه يفقدُ بريقَه وتخفُت فاعليَّتُه بمرور الوقت وتحوُّلِ المسألة إلى روتينٍ يومىٍّ. وبقاءُ المقاومة عند الخيارات القديمة: الربح فوق الأشلاء، أو وَصْم العدو كلَّما تكوَّمَ المزيدُ منها؛ لم يعُد نهجًا عاقلاً للأسف؛ إذ لا يهزُّ صورةَ الصهاينة المتوحِّشين بأكثر ممَّا اهتزَّت سابقًا، ولا يُوقِظُ ضمائر المُمانعين النائمة، كما يحرِفُ مشاعرَ المنكوبين إلى كراهية الفصائل مثلما يكرهون الاحتلال. وجولةٌ واحدةٌ على حسابات الغزِّيين فى مواقع التواصل تفضحُ ما يتعامى عنه العاطفيِّون وتُجَّار الضلالات والنضالات الوهمية، وقد تكفَّلَ الرعبُ الذى يعيشونه بتذويب الفوارق بين من يتَّخذُهم أداةً للإرهاب وكَىِّ الوعى، ومن يعتبرُهم فائضًا للاستثمار الدعائىِّ وحروب الصورة وتأجيج العواطف المُلتهبة.


أُرخِىَ الحبلُ لنتنياهو من حلفائه ومُناوئيه على السواء. قُوى يمينِ الوسط التحَقَتْ بحكومة الطوارئ وقتما كانت أسهُم الائتلاف فى الحضيض، وغادرتها بعدما اشتدَّ ساعدُ زعيم الليكود ولم يعُد فى احتياجٍ لهالة الإجماع، ونزاعاتُ «حماس» معه اليومَ على خطوطِ فَكِّ الاشتباك تأتى مُتأخِّرةً كثيرًا عمَّا كان يُمكن وُضعُه على الطاولة قبل أن يُوجَد محور نتساريم أصلاً، وقبل دخوله إلى فيلادلفيا فى مايو الماضى. أمَّا الولاياتُ المُتَّحدة فتُجرِّبُ تفعيلَ أوراقها بعدما احترقت أرصدتُها تمامًا. لم يرضَخْ نتنياهو لبايدن فى أوج قوَّته، سيِّدًا للبيت الأبيض ومُنافسًا على أربع سنواتٍ جديدة، وبالتبعية فإنه لم يعُد يُقيمُ له وزنًا بعدما غادرَ السباقَ وصار «بطَّةً عرجاء». لدى الليكودى مُحترف المراوغة ميدانٌ مائلٌ لصالحه، ومَنفعةٌ مُباشرةٌ من تثبيت الأوضاع حتى تتَّضح هُويَّةُ الرئيس الأمريكى الجديد، بينما لا يملكُ «رجلُ الأنفاق» ما يُراهنُ عليه اليومَ أو غدًا، ويتصلَّبُ لأنه لا يجدُ بديلاً عن الصلابة، حتى لو كان واعيًا تمامًا بأنها تصبُّ فى أرصدة عدوِّه اللدود، ولا تمنحه شيئًا سوى فوائضِ الحماسة والخُطَب الناريَّة عن الصبر والصمود؛ ولو على الطَّلَل وأكوام الجُثَث.. وهكذا صرَّح القيادىُّ الحمساوىُّ عزت الرشق مُتفاخرًا بأنَّ «الاحتلال يغرقُ فى مُستنقع غزَّة»؛ دون التفاتٍ إلى أنه من دَمٍ جارٍ، لا من مياهٍ راكدة.


إذا كان القانونُ الدولىُّ عاجزًا عن كَبح الإجرام الصهيونىِّ بحقِّ الأبرياء، ومحورُ الإسناد الشيعى أضعفَ من استنقاذ نفسه؛ لكى يُؤمَلَ منه إنقاذُ القطاع؛ فإنَّ فتنةَ الاحتماء بالأنفاق تصيرُ تضحيةً مجَّانيةً بالأرض ومَنْ عليها، والإخلاصُ لأجندة المُمانعة ليس أكثر من تمريرٍ للقضية فى قنوات المَنفعة المذهبيَّة التى لا تعنيها فلسطينُ أصلاً. يعلمُ الجميعُ أنَّ نتنياهو سبب الاختناق، وكُلَّما يسرقُ مزيدًا من الوقت؛ يتشدَّدُ فى الشروط ويفرضُ على الفصائل أوضاعًا أشدَّ تعقيدًا، والحلُّ لن يكون فى مُجاراته الأبديّة تحت سقف التصعيد، بأكثر ممَّا يرى «السنوار» أنه ليس فى التسليم لِمَا يُريد. النقطةُ الوسيطة بين الأمرين أن تُوضَع القضيَّةُ فوق نوازع أطرافها، والناسُ فوقَ الجميع، وأن يتحلَّى الحماسيِّون بشجاعة افتداء الأبرياء بأىِّ ثمنٍ يستطيعون دفعَه، أكان الأسرى أم الآسرين أنفسَهم. يُمكن أن يبدأ ذلك من إعلان وَقف الحرب من طرفٍ واحد، وهى واقفةٌ تقريبًا من جهة الفصائل بالفعل، أو دعوة السُّلطة الوطنية لتسلُّم زمام الأمور فى القطاع، أو ما يُتَوَافَقُ عليه بعقلٍ وتجرُّدٍ مع الوسيطين المصرى والقطرى، شريطةَ ألَّا تُفكِّرَ الحركةُ فى مصالحها الضيِّقة بمعزلٍ عن الصالح العام، وبإنكارٍ كاملٍ لأنها أخفَقَتْ فى المُغامرة التى زعمت أنها محسوبة، ثمَّ تبدَّى لها وللجميع أنها كانت مدفوعةً بالغضب والعاطفة، وعاريةً من أيَّة حساباتٍ حربيَّة أو سياسية ناضجة؛ وإلَّا ما وصلت لِمَا هى عليه الآن.


لو سألنا «السنوار» نفسَه؛ فأقصى ما يتمنَّاه حاليًا أن يعود إلى ليل السادس من أكتوبر. بمعنى أن يُترَكَ له القطاعُ دون أسرى أو مُحتلِّين؛ لكنه لن يستردَّ 40 ألف رُوحٍ ولا عشرات آلاف المبانى المُهدَّمَة. تراجعت غزَّة فى الزمن إلى ما قبل الانتفاضة الأُولى وتأسيس حماس، وتراجعت الحركةُ ذاتُها لِمَا قبل الانقلاب والاستئثار بالقطاع، وبالإجمال دَفَعَتْ القضيَّةُ أثمانًا تفوقُ حصيلةَ الانتفاضات وأنشطةَ المُقاومة فى نصف القرن الأخير، وبالكاد يُمكن القول إنها تعيشُ مرحلةً شبيهةً بما بعد 5 يونيو 1967. لم تعُد المسألةُ فى إجلاء الغُزاة أو النزاع بين الحركة والسلطة؛ بل فى البحث عن تأسيسٍ جديد لا يفقِدُ زَخْمَ النكبة الثانية، ولا ينطلقُ من مرحلةٍ سابقة على نجاحات مُنظَّمة التحرير النسبية قبل أوسلو وبعدها. والهُدنة إذا كانت محكومةً اليومَ بمهمَّةٍ واحدة؛ وهى وَقْف المَقتَلَة الدائرة بين مليونين من العُزَّل مَعدومِى الخيارات؛ فإنَّ التأخُّرَ فى إبرامها لأىِّ سببٍ يخصِمُ من حاضر القضيَّة ومُستقبلها، ولا يُضيف للأسف إلى الجزء الحىِّ من ماضيها النضالى الطويل، ولا للأطلال الباقية من أبنية الفصائل.


كان اليمينُ الصهيونىُّ فى احتياجٍ ماسٍّ إلى خطابٍ مُكافئ. صحيح أنه لم يُنشِئ حماس؛ لكنَّه استثمرها بكلِّ السُّبل المُتاحة؛ لتكونَ عَونًا لسرديَّته على فلسطين. التلويحُ اليومَ بالعودة إلى العمليات الانتحارية ربما يرعبُ الاحتلالَ، لكنَّه يُعزِّز خطابَه الإجرامىَّ أيضًا، بالضبط كما فعلت النسخةُ السابقة فى التسعينيات بتمكينه من إفشال أوسلو، ثمَّ بقَطعِ الطريق على مُبادرة السلام العربية مبكّرًا. لا تملِكُ الفصائلُ المُسلَّحة ما تُقدِّمه للقضيَّة فى سياقٍ إقليمىٍّ ودولىٍّ مُرتبك؛ لكنها ترفضُ البدائلَ التى يطرحُها الآخرون، أكانوا من السلطة أو الحاضنة العربية اللصيقة، وخُلاصةُ هذا الخيار أن تبقى الحربُ مُشتعلةً دون مكاسبَ ميدانيَّةٍ أو سياسيّة، ولا يُصارُ إلى أجندةٍ مُنشَّطةٍ يلتقى عليها الفلسطينيون جميعًا؛ إذ الفكرةُ أنَّ القضية اُمِّمَتْ لصالح وجهٍ واحدٍ من وجوهها، والباقون ليسوا ممنوعين من اقتراح الخيارات فقط؛ بل مُلزَمون أيضًا بالموت الصامت، وتكبُّدِ الأعباء الماديَّة والنفسيَّة، دون أن يكون لهم حَقُّ التداول على القرارات، والمُفارقةُ أنَّ ما يُمنَعونَ مِنه هُنا، يُعطَى بكاملِه إلى شُركاء عقائديِّين فى الخارج، لم يُقدِّموا للقضيَّة فى الحاضر أو الماضى ما يُبرِّرُ تسلُّطَهم عليها، وتلك المأساةُ نابعةٌ من التديين والتطييف؛ بدلاً من الصفة الوطنية الخالصة.


فاعليَّةُ النضال أن يكون بصيرًا، والوعى الجاد فيه أهمُّ من اليَدِ الثقيلة. النزاعاتُ الوجوديَّةُ لا تُحسَمُ بالصدام؛ إنما بالكَرِّ والفَرِّ وطُولِ النَّفَس. وما حدث فى «الطوفان» أنَّ حماس افتتحَتْ حربًا، ولم تذهب إلى جولةِ استنزافٍ محدودة. الهُدنةُ صارت مَطلبًا عاجلاً لإدامة القُدرة على المُقاومة، بدلاً من إعانة العدوِّ على تكسيح البيئة الفلسطينية وإخصاء وَعيها النضالىِّ. ومِقدارُ الصلابة اليومَ ستُسدِّدُه القضيَّةُ غدًا، وعلى مُفاوضى الحركة، وصاحبِ القرار من قبلهم، المُوازنةُ بين التكتيكىِّ والاستراتيجىِّ، ومعرفة أنهم يُنفقون فى الحاضر من رصيد المُستقبل. يُمكِنُ أن يثبُتَ الغزِّيون فى مُقارعة نتنياهو إلى ما بعد الانتخابات وتحديد خصمهم الأمريكىِّ الجديد؛ لكنهم سيكونون أكثر هشاشةً فى مُواجهة أىِّ بديلٍ تال لزعيم الليكود. إنه الاختيارُ بين السيِّئ والأسوأ؛ لكنه واقعٌ لا فائدةَ من القفز عليه، ولا التهرُّبِ منه تحت ستارِ معنىً زائفٍ عن البطولة. ربما لهذا ذهبَ عرفاتُ إلى مدريد، واحتملَ الحصارَ فى المُقاطعة، ومات مقهورًا أو مسمومًا؛ لكنه استبقَى الجمرةَ مُتِّقدةً تحت الرماد، و»السنوار» قد يُزعِجُ نتنياهو اليومَ بحياته الآمنة فى الأنفاق؛ لكنه يُغامِرُ على المدى الطويل بانطفاءِ جمرته، وبإضعاف القضيَّة نفسِها للأسف.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة