عادل السنهورى

قاهرة الأربعينيات في رواية "أنا وعمي والايموبيليا"

الأحد، 25 أغسطس 2024 03:11 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

في روايته الجديدة (أنا وعمي والايموبيليا) يعيدنا الصديق الروائي ناصر عراق إلى فترة زمنية مهمة في التاريخ السياسي والفني والاجتماعي لمصر، القاهرة في الأربعينيات من خلال مكان بات الأشهر والأهم في قلب القاهرة الخديوية، وأصبح رمزا للفخامة والتحضر والرقي منذ الأربعينيات، وسكنا لمشاهير الفن والسياسة والاقتصاد والرياضة، وهو "عمارة الايموبيليا" التي كانت ومازالت مرادفا للوجاهة الاجتماعية، ومصدرا لإلهام كثير من الأفلام السينمائية والمسلسلات التليفزيونية والأفلام الوثائقية والروايات الأدبية وآخرها رواية ناصر عراق.

اسم الرواية وحده كفيل بالانجذاب إلى الرواية وقراءتها مرة واحدة من الصفحة الأولى وحتى الصفحة 243- وهو عدد صفحات الرواية – وعبر ثلاثة فصول يحمل كل فصل اسم امرأة، وهو ما يوضح منذ البداية الأهمية الوجودية للمرأة والنساء عموما في حياة بطل الرواية " فكري" الذي عاش في عمارة الايموبيليا في شقة الخواجة الألماني روبرت شارفنبرج – أحد أهم صناع الديكور في سينما الأربعينيات – والذي تولى تربيته بعد وفاة والده – والد فكري- الذي ساعده في دخول عالم السينما المصرية، ولذلك اعتبره بمثابة "عمه" الذي تولى رعايته وتعليمه وعمله في استوديو مصر بعد ذلك.

ناصر عراق في هذه الرواية – وكعادته- وبعض رواياته السابقة ليس مجرد روائي يسرد تفاصيل وحكايات العلاقات الشخصية بين أبطال روايته بدقة متناهية، وإنما هو مهموم وشغوف بتفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية والفنية، وخاصة السينمائية لسنوات خصبة وزاخرة بالإبداع، وأسهمت في ترسيخ معنى "قوة مصر الناعمة" وقدرتها على التأثير فيما حولها بالفن والعمارة، والقدرة على احتواء واستيعاب كل لاجئ أو ضيف يرسو على ضفافها، ويستقر بين ناسها، ويبدع ويتألق ويتعلم لغتها ويعيش في شوارعها وأزقتها وحواريها دون تمييز.
وهنا لا يخفي على قارئ الرواية الشغف والحنين اللذين يتملكان ناصر عراق لتلك السنوات وهي أقل من 5 سنوات من الانتهاء من بناء "الايموبيليا " وسكن عمه "شارفنبرج" الألماني فيها والهارب من مطاردة المخابرات الألمانية – الجستابو- وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية وانتحار القائد الألماني أودولف هتلر.

فشارفنبرج يصبح أشهر مهندس ديكور للعديد من الأفلام المصرية منذ فيلم "سلامة" للسيدة أم كلثوم ومعه الكثير من صناع السينما المصرية من الأجانب مخرجين وممثلين ومصورين ومهندسي ديكور، من الأرمن والألمان والنمساويين والإنجليز والأتراك واليهود وغيرهم، وهو ما يرصده بحنين طاغ وإعجاب وفخر لا حدود لهما.
ناصر عراق في روايته بوقائع وأسماء حقيقية في إطار الخيال الروائي والسرد البديع والمشوق.


أما اختيار الايموبيليا فهو اختيار ذكي جدا من المؤلف، فالعمارة التي تقع عند نقطة التقاء شارعي شريف وقصر النيل بقلب القاهرة الخديوية هي أحد أشهر وأضخم بناية مصرية منذ الأربعينيات وحتى الآن شاهدة على التاريخ، ودارت فيها أحداث فنية وسياسية كثيرة. وكانت مثار اهتمام ودهشة الناس داخل وخارج مصر باعتبارها أعجوبة من أعاجيب العمارة والبناء في ذلك الوقت، حتى أن بعض الصحف والكتابات أطلقت عليها "هرم مصر الرابع" وسكنها مشاهير الفن والسياسة والاقتصاد.
ومازالت أيقونة العمارة المصرية في القاهرة الخديوية ويتردد عليها كثير من الزوار.
كانت العمارة إحدى ممتلكات رجل الأعمال والملياردير المصري أحمد عبود باشا (1899-1964) الملقب بملك السكر والصناعات الهندسية والسفن والنقل وغيرها في العهد الملكي واشترى الأرض من القنصلية الفرنسية، وبدأ العمل فى الإنشاء فى 30 أبريل 1938، وتكلف بناؤها مليون و200 ألف جنيه مصري، وكانت ثروته في ذلك الوقت تقدر بحوالي 30 مليون جنيه مصري، أي حوالي 100 مليون دولار. وتم الانتهاء من العمل فيها عام 1940.

وتتميز بأربع واجهات وكانت أول عمارة بها جراج تحت الأرض يسع حوالي مئة سيارة، بالإضافة إلى نظام تدفئة خاص كان يتم وضع نفايات الشقق فى مواسير ضخمة تصل إلى بدروم العمارة تحرق وتمد كافة الشقق بوسائل تدفئة عبر مجموعة مواسير ضخمة.
تتكون العمارة من برجين أحدهما بحري، ويتكون من 11 طابقا، والآخر قبلي ويرتفع ل 13 طابقا ويضم البرجين 370 شقة. بها 27 مصعدا – أسانسير- كانت تقسم إلى ثلاث فئات «بريمو» للسكان، و«سوكندو» للخدم، وآخر للأثاث.

العمارة عند بنائها كانت مكانا جاذبا للسكن من كبار الفنانين والسياسيين والاقتصاديين والرياضيين، ويقال أن أحمد عبود باشا المعروف بانتمائه الشديد إلى النادي الأهلي والذي تولى رئاسته حوالي 15 عاما في الفترة من 1946 إلى 1961. فاز فيها كلها بالتزكية، اشترط من شدة تعصبه أن لا يسكن فى عمارة "الايموبيليا" أى ساكن غير أهلاوي، وكان يجتمع باللاعبين فى مدخل العمارة اللى تتوسطه حديقة كان فيها نافورة، وكان يسكن فى احدى شققها بالطابق الثانى وفي نفس الطابق كان هناك مكتب لإدارة شركاته، ومع ذلك سكنها عدد من الزملكاوية مثل الموسيقار محمد عبد الوهاب وماجدة الصباحى.!

أشهر من سكن بها من أهل الفن نجيب الريحاني، ومحمد فوزي، وأنور وجدي، وليلى مراد، ومحمود المليجي، ومحمد عبدالوهاب، وماجدة الصباحي، وكاميليا الشهيرة بعشيقة الملك فاروق الذي كان يحضر إليها متخفياً من غير حراسة، ومحمد عبدالوهاب، والمخرج محمود ذو الفقار والمخرج الكبير هنري بركات، والمخرج كمال الشيخ، والفنانة أسمهان، والفنان أحمد سالم، والمنتجة آسيا داغر، وكمال الطويل، وعبد العزيز محمود، والأديب توفيق الحكيم، بالإضافة إلى عدد من السياسيين مثل فؤاد سراج الدين باشا، وإبراهيم باشا عبدالهادي رئيس وزراء مصر الأسبق، والبرنس إسماعيل باشا حسن رئيس الديوان الملكي وابن عم الملك فاروق، وأحمد باشا كامل، وإسماعيل باشا صدقي، والدكتور عزيز صدقي رئيس وزراء مصر الأسبق، وأيضاً كان بها مكتب نقيب المحامين أحمد الخواجة ومن الأطباء الدكتور محمد عطية طبيب الأطفال الشهير ومن أثرياء اليهود الخواجة سلفادور شيكوريل صاحب المحلات الشهيرة.


لم تكن مصادفة عابرة من ناصر عراق لاختيار الايموبيليا – الرمز المكاني - ووضع اسمها على غلاف الرواية ليضمن دون عناء إقبال عدد ليس بالقليل على قراءة الرواية واسترجاع زمن ينظر إليه البعض بأنه زمن الجمال والرقي والتحضر وارهاصات الإبداع. ناهيك عن عشق وشغف ناصر نفسه – الذي أعرفه عنه- بمنطقة وسط البلد وحواديتها التاريخية والفنية والاجتماعية وعمارتها المبهرة التي تنافس أقدم العمارات والشوارع في مدن العالم الأوروبي. ويجعل من شقة عمه مرفأ يرسو فيه رموز ونجوم وأساطير الفن والصحافة في ذلك الوقت من نجيب الريحاني إلى عبد الوهاب وأم كلثوم وصلاح ابو سيف ونجيب محفوظ.


أما اختياره لأسماء النساء للفصول الثلاثة – الزا الألمانية، وسنابل العاهرة، أو سوسن فكري، وراجية السكرتيرة – علاوة على شخصية زوزو المهدي أو سميحة كاظم الذي وقع عمه شارفنبرج في غرامها ثم اكتشف حقيقة تلك المرأة الغامضة في النهاية، ففي رأيي أن ناصر لديه يقين راسخ بدور النساء الكبير والمحوري في الحياة الاجتماعية والسياسية وفي العلاقات الانسانية عموما، وهو ما يبرز دائما في جل رواياته السابقة. لكن في هذه الرواية يخوص ناصر من خلال بطله "فكري" في عالم النساء المثير والغامض كثيرا ويحاول فك طلاسمه لكن في كل محاولة يواجه الفشل لأسباب بعضها خارج عن إرادته أو لخوف ظل يعتريه ويغشاه حال بينه وبين جرأة المصارحة والمكاشفة لحب البائس والمحروم الأول لالزا ابنة شقيقة عمه شارفنبرج التي سكنت معه الشقة، ونافسه في حبها الممثل الشاب الصاعد يحيي شاهين، والطبيب الأنيق المتوهج شاكر صدقي وقصة زواجها المرتبك من رجل ألماني. والثانية هي سنابل العاهرة في شارع كلوت بك، حي اللذة المسروقة والمتعة الحرام في القاهرة حتى نهاية الأربعينيات والذي قاده اليه منذ العام الدراسي الاول بكلية الأداب صديقه القاهري ابن حي عابدين "جودة الزناتي" ليتعرف إلى سنابل ويتعاطف معها ويحاول انقاذها – بأسلوب برنارد شو في سيدتي الجميلة- من مستنقع الحرام والبلطجية فيستأجر لها شقة بعيدا عن كلوت بك مع أطفالها وينفق عليها ويصحبها بالمصادفة الى حفل سينمائي ليلتقطها أحد المخرجين لتصبح فنانة مشهور باسم "سوسن فكري" وتتخد من حياتها الجديدة سربا عجبا بعيدا عن فكري. والثالثة هي راجية السكرتيرة في شركة عشيقة عمه زوزو المهدي أو سميحة كاظم ابنة الطبقة الفقيرة في حي شبرا المتسلحة بالعلم والثقافة والمؤمنة بالمستقبل الأفضل – إشارة إلى الجيل الصاعد بعد الحرب العالمية الثانية- والذي يعجب بها ويحب عقلها الناضج ووجدانها المثقف وهي الوحيدة التي يصارحها بحبه ويعرض عليها الزواج.

رواية "أنا وعمي والايموبيليا" جديرة بالاهتمام والقراءة للاطلاع على كثير من الحقائق والوقائع الاجتماعية والفنية بشخوصها وأبطالها الحقيقيين داخل مكان مازال ملهما وجاذبا وشاهدا على تاريخ مدهش لقاهرة الأربعينيات وعماراتها وشوارعها العتيقة التي لم يفت على المؤلف ذكرها وذكر أشهر معالمها من المقاهي والمسارح والسينمات والمساجد.


الرواية مليئة بالكثير من الحقائق المدهشة والمثيرة والكثير أيضا من الخيال بعبارات أدبية رشيقة وأنيقة تسرد بامتاع سيرة مكان وزمان مشوق وأناس مازالوا يفوحون بعطر الذكريات في حياتنا الفنية والسياسية والاجتماعية.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة