الرهان المشترك الذي يتبناه دونالد ترامب ومنافسته كامالا هاريس، خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة، يتجسد بوضوح في حالة الانقسام التي تضرب المعسكر الآخر، وهو ما يبدو في مشاركة وتأييد رموز بارزة من الحزب الجمهوري للمرشحة الديموقراطية، على غرار الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، ونائب الرئيس السابق مايك بنس، وذلك لما اعتبروه خطرا على الإرث الأمريكي، بينما زايد ترامب على منافسيه بتصعيد عناصر ديمقراطية منشقة بارزة أعلنت دعمه، منهم روبرت كينيدي وتولوسي جابارد، ليكونوا أعضاء في فريقه الانتقالي، وهو ما يعكس جزءً هاماً للغاية من طبيعة الصراع الانتخابي الذي تشهده الولايات المتحدة، في ضوء حرب تكسير العظام، والتي تجاوزت المنافسة الشخصية بين مرشحين اللذين يطمحان في الجلوس على عرش البيت الأبيض، إلى ما يمكننا اعتباره استهدافا مؤسساتيا للأحزاب، عبر توسيع فجوة الانقسام في الداخل.
ولعل الحديث عن فكرة الانقسام داخل المؤسسات الحزبية في الولايات المتحدة، ليس بالأمر الجديد تماما، في ضوء الجدل الدائر حول صناعة القرار داخل كل حزب، وهو ما بدا أولا في الحزب الديمقراطي، مع بزوغ نجم بيرني ساندرز، وما حظى به من تأييد كبير في قواعد الحزب رغم فشله لمرتين متتاليتين في الترشح للجولة النهائية من الانتخابات الرئاسية، في عامي 2016 و2020، بينما تكرر الموقف بعد ذلك مع الجمهوريين، وإن كان بشكل مختلف نسبيا، مع صعود ترامب وسيطرته على قواعد الحزب، إلى الحد الذي فشلت معه مراكز القوى في الصمود أمامه.
تلك الحالة المتعارضة، بين تمرد قاعدة الحزب الديمقراطي، على الحفنة المسيطرة على مقاليد الأمور داخل الحزب، من جانب، وغضب مراكز القوى داخل الحزب الجمهوري، أسفرت عن انقسام متعادل ظاهريا، بينما يحمل اختلافا جوهريا، يتجلى استقرار القاعدة المؤيدة للحزب الجمهوري، وهو ما يبدو بالنظر إلى المنشقين عليه، ومناصبهم السابقة، على عكس الديمقراطيين، خاصة في قطاع الشباب، وهو ما حاولوا علاجه، من خلال خطوات متواترة، أهمها تصعيد مؤيدي ساندز للمشاركة في الانتخابات التشريعية تارة، بالإضافة إلى تصعيد كامالا هاريس، والتي اختارت نائباً متوافقا مع الرؤى اليسارية التي سبق وأن تبناها ساندرز.
طبيعة المنشقين عن كل حزب تكشف حقيقة الانقسام، ولكنها تعكس في الوقت نفسه اختلافاً ملموسا في طبيعة التمرد، بين قواعد الحزب ومراكز القوى، إلا أنه في نهاية المطاف ربما تتولد من تلك الحالة تيارا جديدا يمكننا تسميته "الديموجمهوريين"، قد يشكل فوضى أيديولوجية في السياسة الأمريكية، خلال المرحلة المقبلة، بعيدا عن الفائز في الانتخابات المقبلة، ربما تتمخض عن حزب جديد لديه القدرة على المنافسة، وذلك بالنظر إلى الطبيعة المتغيرة للسياسة والمواقف التي يتبناها الساسة.
وإرهاصات تلك الحالة تجلت مع بزوغ نجم ترامب، وهو ما يرجع في جزء منه إلى وصوله إلى البيت الأبيض في 2016، على حساب هيلارى كلينتون، وهي سياسية مخضرمة وتمثل جزءً أصيلا من مراكز القوى داخل الحزب الديمقراطي، مما خلق تمردا داخل قواعده، بينما يرجع من جانب آخر إلى خطابه الذي دشن هجوما على أسلافه الجمهوريين، ومن بينهم بوش الابن بالإضافة إلى خلافه مع بنس على خلفية رفض الأخير الإذعان لرئيسه فيما يتعلق بالإعلان عن فوز بايدن في انتخابات 2021، ليضعهم في المعسكر المناوئ له.
وهنا يمكننا القول بأن الانتخابات الأمريكية المقبلة، ستعكس تغييرات عميقة في المشهد السياسي في الولايات المتحدة، بغض النظر عن الفائز، ربما أبرزها التحلل التدريجي للأيديولوجيا الحزبية، لصالح حالة شعبوية، تحمل قدرا من الفوضى، ستفرض نفسها على الرئيس الجديد الذي سيبدو مضطرا لمجاراتها خلال السنوات المقبلة.