مثلما كان «قميص عثمان» حجَّةَ الأُمويِّين لانتزاع السُّلطة فى الدولة العربية الناشئة حديثًا، اتُّخِذَت مظلَمَةُ الحسين وسيلةً لتأبيد صراع الهيمنة على الجغرافيا والاعتقاد. كان الفرزُ فى الأُولى قبائليًّا تحت عباءةٍ دينية، صارت مذهبيَّة فى الثانية. وبعيدًا من الظلال الروحيَّة للمسألة؛ فقد كان انتصارُ القَبَليَّة بالسيف دافعًا لتفكيك الأيديولوجيا وانقسامها على نفسها. وفق هذا المعنى؛ يُمكن النظر للتشيُّع باعتباره عنوانًا مُبكِّرًا على الهزيمة، ومُقاومةً رمزيَّة تحدَّت هاجسَ الذوبان فى سرديَّة المُنتصِر. المذهبُ هُنا لم يُولَد ولادةً طبيعية من رحم تشاحُن الفقه وسِعة التأويل؛ بل استولدَته السياسةُ قسرًا، وعبَّر عن وجيعته باختصام التيَّار العام فى كلِّ أُصوله، على النصِّ المركزى، وفى السُّنّة وسيرة الشيوخ الأوائل. والموقفُ المُتشدَّدُ ضدَّ السيدة عائشة والخُلفاء الثلاثة قبل علىّ؛ إنما يُعبِّرُ عن رواسب الميدان لا انحيازات العقل المحض. وازداد السياقُ تعقيدًا بعدما اختلط العِرقُ بالدين، وفتَّشَت بقايا الروح الفارسيّة عن تمايُزاتٍ تمنعُ امتزاجَها بالعروبة تحت ظلٍّ مُقدَّس. فإذا لم يكُن بمقدور الحضارة الإخمينية أن تتصدّى للبداوة الناهضة بما لديها من ميراثٍ كامنٍ فى ذاتها، لا سيما أنَّ الغريمَ يتسلَّحُ بشرعيَّةٍ سماوية شقَّت طريقَها إلى الأفئدة؛ فليس أصلحَ من الردِّ عليها بمادَّتها، واستحداث فرعٍ جديد عن النهر الهادر؛ ليكونَ الدواء من أصل الداء نفسه، وتتحصَّن السرديَّةُ القديمة من الوافدين الجُدد بالعباءة ذاتها؛ وإن حوَّرَت العمامةَ لصورةٍ أُخرى فى الشكل والجوهر.
لقد جرى تسليحُ الفكرة الإيمانية من أوَّل صِباها وفُتوَّتها. بنو أُميَّة مَرَّروا كلَّ مشاعرهم تجاه الهاشميِّين من قناة الدين، وفى حِمَى النصوص المُؤسِّسة، وشِيعةُ عَلىّ مزجوا حصَّتَهم من العقيدة بميراثهم فى الثقافة والتعالى العرقىِّ، وترسَّخت العداوةُ بينهما فى الوعى والأدبيَّات الدينية؛ ولو حالت شروطُ السياسة بينها والتفعيل على الأرض قرونًا تالية. والحال أنَّه لا يُمكن استيعابُ جوهر الفلسفة الإيرانية اليومَ تحت راية الثورة الإسلامية؛ إلَّا باستقراء حاضرِها المُعقَّد على مُرتَكَزٍ من النظر العميق فى التاريخ. إنه الثأرُ القديم لحضارةٍ تعتدُّ بنفسها، مع ما اعتبرته غزوًا بربريًّا جرَّدَها من الأفضليَّة الثابتة بالتراكُم، واستتبَعَها لمشروعٍ صحراوىٍّ بلا جذور، والثأرُ أيضًا من الهزيمة التى طالت نُسختَها المُعدَّلَة من باب التشيُّع لآل البيت، وكلاهما ماثلٌ فى قَعر الجُمجمة الفارسيَّة لا يخفُت ولا يتقادم. ولعلَّه يُفسِّر أنَّ أوَّل ما افتتحته الخُمينيَّةُ بعد تمكينها كانت حربًا مع العراق، البيئةِ الشاهدة على انتكاسة مشروع السعى للسُّلطة تحت عباءةٍ عَلويَّة، وعلى المركزية العباسيَّة لاحقًا، بكلِّ ما أنزلته بها من نوازل، وما أحدثته من انقلاباتٍ فى الفكر ومُساواة الرؤوس على مقياس التمدُّن والحضارة. ثمَّ طالت نارُ المُرشد وثورتِه الخواصرَ العربيَّةَ الهشَّة، ولو لم تكُن فى حال أزمةٍ رُوحيَّة وخصوماتٍ مع عدوٍّ من خارج حظيرة الدين. لقد عاثت فسادًا فى لبنان واليمن وسوريا، قبل أن تُلقى بكامل ثِقَلها على أثمن الأُصول التعبويّة للمنطقة، أى قبل أن تتلطَّى وراء المحنة الفلسطينية، أو تُطلِقَ رصاصةً واحدةً، جادَّةً وخالصة النيّة، فى اتجاه القدس.
عبءُ الذاكرة المُترَعة بالانكسارات، والمفتوحة على ثغرةٍ من الحنين لمجدٍ غابر، هو ما يقودُ العقلَ الفارسىَّ فى صورته المذهبيَّة المُعاصرة، منذ تجسيده سُلطويًّا فى دولةٍ يحكمُها رجالُ الدين، وهُم بطبيعتهم البطريركيَّة خَزانةُ أسرار الحقدِ المُقدَّس، والمُتوارَث تجاه المَلَكيَّة الأُمويَّة، وقد اختُزِلَ المشهدُ السُّنِّى بكامله فيها.
والذاكرةُ نفسُها تتسلَّطُ على الصهيونية وتُمسِكُ بزمامِ أمرها؛ ليس فى استعادة فكرة الدولة اليهودية من بين الأنقاض المطمورة تحت طبقات عريضة ومُركَّبة من الزمن فحسب؛ بل فى الاستناد إلى صراعيَّةٍ دينيَّةٍ؛ لتمرير المادىِّ والسياسىِّ بصِفَة إلهيَّةٍ تتجاوزُ إرادات البشر. لم يكن «هرتزل» والذين ساروا معه، ومن بعده، يحصرون المسألةَ فى تقليب الدفاتر القديمة بحثًا عن صِلَةٍ بالأرض الموعودة؛ إنما أرادوا أن يبتعثوا معها رواسبَ الماضى ونزاعاته، وقد بدأت عرقيَّةً ثمَّ تبدَّلت مع الوقتِ لتأخُذَ هيئةً دينيَّة. التعمُّقُ فى البئر يكشفُ عن راكدٍ كبير مع الكنعانيين، ثمَّ البابليين، وكلاهما تأسيسٌ أَوَّلىٍّ للعدوِّ، انتقل بالتبعية إلى العروبة التى تمدَّدت فى أوصال المنطقة، ثمَّ للإسلام الذى منحَها صِفَةً قوميَّةً بديلةً عن العِرق. لقد سقط العربُ فى الفخِّ اليهودىِّ نفسِه دون وعى؛ فتحوَّل الدينُ لديهم إلى حاملٍ اجتماعىٍّ وأنثروبولوجى، مثلما صارت اليهوديّةُ ديانةً وجِنسيَّة. والفُرس فى ولادتهم الجديدة تنافسوا مع الطرفين فى خطايا التأصيل الهُويَّاتى، وجعلوا من المذهب رابطًا عُنصريًّا يتخطّى الدينَ والجُغرافيا والوشائجَ المُواطَنيَّة، وهكذا يُحاربون بعضَ العرب فى البيئات المُستتبَعَة، ويدعمون بعضَهم، ومعيارُ الفَرز الوحيد أن تكون الأجندةُ الماضويَّةُ فوقَ الواقع، والخصومةُ الراديكاليَّةُ تسبقُ حسابات الظَّرْف والمَنفعة.
عداوةُ الصهيونية مع العرب مفهومةٌ تمامًا؛ باعتبارهم فروعًا من الجذور الإقليمية التى تشابكت معها أو استأصلت بذرتها الأُولى، وكذلك عداءُ الفُرس؛ إنما الأمرُ فيما يخصُّ عداوتهما لبعضهما يظلُّ محلَّ نظرٍ. لقد لعب الإخمينيِّون دورًا فى تحرير اليهود من السَّبْى البابلىِّ، وشجَّعوا عودتهم لاحقًا إلى أرض فلسطين، وتحتفظُ ذاكرتُهم البعيدة بمكانةٍ عالية لمَلكِهم كورش. هنا قد يبدو التاريخُ عاجزًا عن تفسير الاشتباك الراهن؛ إلَّا لو افترضنا، بمَدِّ الخطِّ على استقامته، أنهما فى مُنازعةٍ جانبيَّة على شرفِ النزاع الأصلىِّ. بمعنى أنَّ كُلاًّ منهما يختصمُ أعداءه المُباشرين فى الميدان نفسه، ولأنَّ المسألةَ ليست فى مُجرَّد هزيمة الغريم المقصود، والثأر الرمزىِّ والعاطفىِّ منه؛ فإنَّ اكتمال حلقة التصفية للإِحَن العتيقة كُلِّها؛ يتطلَّبُ الوقوفَ على أطلاله، ووراثتَه فى مِلكِه الذى يُمثِّلُ أحدَ أُصول انتصاره القديم، ويُجسِّدُ العِلَّة النفسيَّة الموصوفة للطَّرَف الآخر كُلَّما بَقِيَت الخريطةُ على حالها، أو نجحت فى ترميم الشقوق وإعادة إنتاج نفسها تحت عنوانٍ جديد، ومن هنا تتأتّى الخصومةُ الظاهرة بين الشيعيَّة المُسلَّحة والصهيونية المُتوحِّشة؛ إذ يسعيان معًا إلى النَّيْلِ من عدوٍّ مُشترك، لكنهما يختلفان على أيِّهما يضعُ رايةَ نصرِه مُنفردةً على كومةِ الركام والأشلاء.
فى أسابيع العدوان الأُولى على غزَّة، استعاد نتنياهو «نبوءة أشعياء»، وتحدَّث عن جيش النور فى مُواجهة جيش الظلام. ولم يكُن مُراده وصلَ الحاضر بالماضى، وتأكيدَ العلاقة العضوية بين الوجود اليهودىِّ وتُربة الصراع فحسب؛ بل إعادة تحرير القضيَّة على وجهٍ دينىٍّ خالص، ووَصْم الغزِّيين عبر ربطِهم بالعماليق، وما لهم من رمزيَّةٍ فى المخيال التوراتىِّ والمَسِيْحانىِّ. والسياسىُّ العلمانىُّ لم يكُن فى حاجةٍ للأماثيل الأُصوليَّة لو تقصَّدَ التوصيفَ المُجرَّد؛ إذ لديه من أدبيَّات الكولونياليّة والمركزيَّة الأوروبيَّة وتنظيرات «هنتنجتون» عن صِدام الحضارات ما يكفى ويزيد؛ لكنه أراد اللعبَ فى حركيَّة التاريخ، وتوقيعَ النصوص المَيِّتة على الراهن المَعيش. إنه تفريغٌ للمَظلَمَة الإنسانيَّة العادلة من مضمونها؛ فلا يعودُ الأمرُ صراعًا بين غاصبٍ ومغصوب، ولا بحثًا عن التحرُّر والاستقلال وفقَ اعتباراتٍ قانونية وأخلاقيَّة نابعةٍ من زمنِها؛ بل حلقة فى سياق الخصومات العقائدية وحروبها المُقدَّسة. وعلى هذا المعنى؛ لا يصيرُ القتلُ تغليبًا للسرديَّة الحَقَّة فقط؛ إنما يأخذُ صِفَة التعبُّد وإنفاذ إرادة الخالق على رقاب البشر. ولعلَّ هذا ما تُحقِّقُه الأُصوليَّةُ المُضادَّة من دون وعىٍ؛ إذ بتديين القضيَّة وتَطييفِها تتلاقى مع العدوِّ على سرديَّةٍ واحدة، وتُعلِّقُ الحَسم فى رقبة النصوص وتأويلاتها، وما يتسلَّحُ به كلٌّ منها من قوَّةٍ عارية، ومن إمكاناتٍ لتسييد رؤيته وتسويقها فى بيئةٍ دوليَّة مُختلَّة، وأكثر ميلاً ضدَّ الرجعيَّة الإسلامية لأسبابٍ عدّة، وحساباتٍ سياسية وثقافية ومَصلحِيَّة مُعقَّدة.
التلاقى حاضرٌ فى خطاب حماس، ودعايات حزب الله وبقيَّة أذرُع الشيعيَّة المُسلَّحة؛ لكنَّ حضورَه من رأس المحور نفسِه أكثرُ مُكاشفةً وإزعاجًا. فى ذكرى أربعينيَّة الحُسين أوائل الأسبوع الجارى، كتب المُرشِدُ الإيرانىُّ تغريدةً تُعادِلُ «نبوءة أشعياء» بظلالٍ مذهبيَّة إسلامويَّة، إذ قال إنَّ «الحرب بين الجبهة الحُسينيَّة والجبهة اليَزِيديَّة مُستمرَّة ولا نهاية لها». والمعنى بعدما قُبِر يزيد بن معاوية قبل أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، ولا يتجسَّدُ سِلسالُه فى تاجٍ سُلطوىٍّ أو عمامةٍ دينيَّة، أنه يختصمُ البيتَ لا أحدَ ساكنيه/ الفكرةَ لا بعض ظلالِها الذابلة فى التاريخ. لا حكوماتُ العراق ولبنان واليمن تُمثِّلُ إرثَ الأمويين، ولا دولُ الاعتدال العربىِّ عاكفةٌ على سرديَّات الفتنة الكبرى ومُشاحناتها، كما أنَّ الصهيونيةَ لا تصِحُ مُعادلاً للشِّقاق مع السُّنَّة، ونتنياهو ليس امتدادًا لخلافتها ولا من نسل أبى سفيان.
الرمزيَّةُ على ما فيها من وُضوحٍ للرسالة؛ تبدو شديدةَ الانحراف فى الاستشهاد والتأويل. فإمَّا أنَّ العِمامةَ الأكبرَ فى طهران تضعُ العربَ فى العداوة قبل إسرائيل، أو تُساوى بين الطائفة المُغايرة والدين المخالف، على معنى تكفير الأُولى أو تشويه جوهر الصراع مع الثانية، والاحتمال الثالث أنها لا تنظرُ للصهاينة إلَّا من مِنظار اللطميَّات والثارات المُعلَّقة، وهكذا فإنهم مُبرِّرٌ عَمَلانىٌّ لإبقاء العواطف مُتأجِّجةً، واستدامة المُناكفة دون إسنادٍ حقيقىٍّ للغزِّيين، مثلما تقاعسوا عن نُصرة الحُسين عليه السلام، ويبكون من يومِها على قبره؛ راضين بالحُزن المُلطَّخ بدماء التطبير عمَّا سُواه. لا يُمكن أن تكونَ جُملةً عابرةً، ولا مُجرَّد خِفَّةٍ فى التأصيل واستخفافٍ فى الصياغة؛ لكنها تكشفُ عن وعىٍ شُوفينىٍّ عميق، على طريقة الفِرقة الناجية، أو ثُنائيَّة «المُختارين والأغيار». كأنَّ الفارقَ بين نتنياهو وخامنئى، عِمامة أو قُلنسوة.
خصومةُ إسرائيل مع الفلسطينيين واضحةٌ لا لَبْسَ فيها؛ إنها معركةُ وجودٍ لا حدود، مهما كانت الدعاياتُ وما يُسبَغُ عليها من توصيفاتٍ مُغايرة. لم يُجرِّب الصهاينةُ منطقَ السلام بصدقٍ وإخلاص؛ ليكون غرامُهم بالحرب الدائمةِ مفهومًا، ناهيك عن التبرير والإقناع. تنصرفُ إرادتُهم بكاملِها إلى تطهير الأرض من ساكنيها، ولو افترضنا جدلاً أنْ يتقدَّم ضَامِنٌ مُقتدِرٌ ليُؤمِّنَ لهم تفريغَ الجغرافيا من الحياة بكلِّ صُورِها فلن يقبلوا، كما لن يقبلوا المُساكنةَ الوديعةَ أيضًا، فالغايةُ إزاحة البشر واستيطان بيوتهم ومزارعهم. وفى المقابل؛ فإنَّ القلبَ الصُّلب لفكرة المُمانعة لا يُركِّزُ على تحرير فلسطين كعنوانٍ مُطلَق؛ إنما أن تلتحقَ بالشيعيَّة المُسلَّحة، مُحرَّرةً كانت أم مُحتلَّة، وهكذا فإنها تُفضِّلُ الوضعَ القائمَ مع استتباع حماس والجهاد، على أيَّة مُقترحاتٍ تَحِلُّ قبضتَها عن الخريطة؛ ولو مع احتمالٍ للخلاص من الاحتلال. ولبنانُ مَشهدٌ مُستقبلىٌّ لحاضر غزَّة، كما أنَّ سوريا صُورةٌ عن الدولة المأمولة لو اكتمل تجسيدُها. اختُرِعَ الحزبُ ليكون حصَّةَ الثورة الإسلامية من المُقاومة، وبعد جلاء الصهاينة ظلَّت النقاطُ الحدوديَّةُ العالقة «مسمارَ جُحا»، وتعلَّق عليها بقاءُ الميليشيا وتسلُّطُها على شرعيَّة الحُكم وميثاقيَّة التعايش، ولو حُسِمَت سيخترعُ «نصر الله» بإملاء السيِّد خامنئى دامَ ظِلُّه حجَّةً جديدة، أمَّا دمشق فقد صارت ستارًا عَلَويًّا يتلطَّى وراءه الحرسُ الثورىُّ، وميليشيات «فاطميون وزينبيون» ممَّن لا يعرفون العربيَّةَ، ولا الفارسيَّةَ على الأرجح، وينوبون عن الذاكرة الحُسينية الموجوعة، فى القصاص من حاضرٍ عربىٍّ أكثرَ توجُّعًا وأصخبَ فى طِيبته ومآسيه.
ما تجمَّد بالأمسِ لن يُحسَم اليومَ. ومن المستحيل العودة فى الزمن؛ لتصفية الخلافات الآسنةِ لصالح أحدِ الغُرماء على وجهٍ قاطع. هكذا يبدو أننا إزاء فصلٍ فى سيرة الحروب المُؤبَّدة، وبينما يتعذّر تغييرُ المسارات فى الماضى؛ فالحلُّ أنْ يتغيَّر الحاضرُ أو تتبدَّل مساراتُه. والخياراتُ بين ثلاث: أن ينزل الفريقان عن الشجرة معًا، أو يمتصَّ أحدُهما باللين ما فى الآخر من شِدَّة، أو يظلان على حالهما وتتجدَّدُ المَلمَّات بين وقتٍ وآخر. وهامش التغيير أن تعودَ الشيعيَّةُ المُسلَّحة لِمَا كان فى ماضى إيران البعيد من تحضُّرٍ وإبداع، أو تتقدَّمَ الصهيونيَّةُ كالحةُ الوجه إلى زمنِ التمدُّن والحداثة فعلاً، فتصير دولةً مَدنيّة على الوصف الدقيق، لا كما لفَّقت صورتَها فى غيبةٍ من نقدِ الخارج وتقويم الداخل. وبينهما لا سبيلَ للمنكوبين فى فلسطين؛ إلَّا أن يستردُّوا القضيَّةَ من الدوَّامة التى يتنازعُها أشعياء ويزيد، لتعودَ مسألةً وطنيَّةً صافية، لا تخصُّ الإسلام إلَّا بقدرِ ما يتمثَّلُ بعضُ معتنقيه بين أصحابها، كما لا تنقطعُ عن المسيحية الحاضرة فى صُلب المأساة، ولا عن اليهوديَّة؛ حينما يتيسُّر لبعض مُؤمنيها الصادقين أن يقترفوا قدرًا من الإنسانية والمنطق.
إذا كان التوراتيِّون يُسدلِون ستائرَ الهيكلِ لتغطّى ما بين النهر والبحر؛ فإنَّ الأُصوليّةَ الإسلامية تُعينُهم من حيث توهَّمت أنها تُعادِلُ تطرُّفَهم. كان انقلابُ «حماس» فى غزَّة دفقةَ وقودٍ فى شرايين التطرُّف الإسرائيلى، وتعبيرًا صارخًا عن تفضيل قسمة المُقَسَّم؛ طالما أنه سيظلُّ فى خزانة الأيديولوجيا، ولن يُغادرَها إلى مُنافِسٍ عقائدىٍّ أو بديلٍ سياسىٍّ. والصورةُ فى جوهرها البائس أقربُ إلى التخادُم بين الفريقين؛ إذ تصيرُ النصوصُ اليهوديَّةُ المُستدعَاة مُسوِّغًا لاستحضارِ نصوصٍ إسلاميَّةٍ مُقابلة، والعكس بالعكس، وبينهما تضيعُ الحقيقة فيما يخصُّ الاحتلال الذى لم يُغلِقْ عقدَه الثامن، ونشأ على أطلال الحرب العالمية الثانية وتداعيات تفكيك التركة العثمانية فى المنطقة. وبعيدًا من تفتيش النوايا؛ فالحال أنَّنا إزاء عداءٍ مُعلَن بين الشيعية والصهيونية؛ لكنه لا يخلو من غرامٍ مكتوم؛ كأنهما يتحاسدان على اعتماد الآليَّة نفسِها، أو يطمعُ كلٌّ منهما فيما لدى الآخر من حَصَّالةٍ نُصوصيَّةٍ وذاكرةٍ نضّاحة بالدم.. لا أشيعاء هُنا بنبوءته، ولا مكانَ ليزيد فى جُغرافيا تجاوزت تاريخها القديم بلا عودة. إنها سيرةُ الأُصوليَّات المُتصارعة؛ وكلُّها فى خصومةٍ مع العصر بالتساوى، وبالدرجة ذاتِها من الحِدَّة والخيال العقيم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة