كانت ليلةُ السبت بروفةً أُولى لجولة الإحماء الجديد. تتابعت رسائلُ التهديد من جانبٍ، ونَشَطت الاستعداداتُ فى الآخر، ووقفَ الجميعُ على أطراف أصابعهم فى انتظارِ ما ستُفصح عنه الأجواء المُلبَّدة بالغيوم. وإذ طلعَ الصبحُ على المنطقة كبقيَّة الصباحات؛ فإنّه لم يكُن خاليًا من رواسب التوتُّر، ولا باعثًا على التهدئة والتفاؤل. ثمَّة صِدامٌ مُؤجَّل لم يعُد الخلاف فى وقوعه من عدمه؛ بل فى الحجم والمَوعد، والتكتيكات المُعتمَدَة على حافة الهاوية، بين امتلاك المُبادَأة وتحقيق عنصر الصدمة المُفاجئة، وأنْ تظلَّ الدراما فى نطاقٍ محسوب لا يُهدِّد بالانفجار الشامل. بينما لا يُمكن الجَزم بمآلِ التسخين الراهن، وهل يُفضى إلى حريقٍ واسع، أم يكون بدايةً لتبريدٍ مطلوب! سيُجرِّب كلُّ طرفٍ أوراقَه كلَّها، ويُعلِّق عينيه على الحُلفاء والوسطاء والمُحايدين، وقد لا تتغيَّر التوازُنات القائمة فى كلِّ الأحوال. فالمسألةُ تخطَّت نطاقَ الرقص على حبلٍ مشدود، وصارت أقربَ إلى مُلاكمة عاريةٍ من القواعد، وفى قفصٍ زُجاجىٍّ تُحوِّطه النار من كلِّ ناحية.
سدَّدت إسرائيلُ لَكَماتها القاسية فى كلِّ الاتجاهات، وتنتظرُ الردَّ من أركان الحلبة الواسعة. والحال أنها وضعَتْ الغريمَ فى امتحانٍ قاسٍ للشرف؛ وصار لِزامًا عليه أن يتحرَّك فوقَ الثأر ودون تأجيجِ الميدان. ربما يخشى نتنياهو كُلفةَ الحرب الشاملة؛ لكنه يطمعُ فيما وراءها من منافع وإسنادٍ وخَلطٍ للأوراق. أمَّا الجبهةُ المُضادَّة فخِياراتُها عند الحدِّ الأدنى؛ إذ لا تملكُ مفاتيحَ الصراع فى المنطقة كما تُسوِّق عن نفسها، ولا تتوافرُ لها قنواتٌ مفتوحة على الخارج كما فى الحالة الصهيونية، ولديها رواسبُ عدائيّةٌ قد تُحفِّز القُوى الكُبرى على قصِّ شريط المُغامرة فى أيَّة لحظة. بدأ الاستثمارُ فى فلسطين؛ لكنه الآن يُدَارُ على كامل الخريطة الإقليمية، ويطالُ محورَ المُمانعة فى معاقله الطَّرَفيَّة وفى مركزه البعيد، وأيَّة مُحاولة خفيفةٍ للاستعراض الواسع قد تنتهى إلى محرقةٍ عارمة، كما أن الصمتَ يُكلِّفُ الحاضنةَ المُباشرة خسائرَ أعظم؛ على الأقلِّ من زاوية انحلال السرديَّة وسقوط الشعارات، وإعادة تكييف مُعادلة الرَّدْع وتوازنات الرُّعب على وجهٍ ماحق، ينتهى إلى تثبيت حالة الاستباحة وتحييد فاعليّة الردِّ فى مستوييه المادىِّ والدعائى.
لم تكُن تلُّ أبيب ترتجلُ إطلاقًا حينما وسَّعَت زاويةَ التصويب، واختصمت المحورَ الشيعىَّ بغِلظةٍ وانفلات فى الضاحية وطهران. لقد تلطَّى نتنياهو وراء حادثة «مجدل شمس» لتمرير نواياه السابقة بشأن إعادة ترتيب المنطقة، ورسم حدود الانتشار وقُدرات التأثير والإزعاج. لم يكُن الغرضُ تصفيةَ فؤاد شكر وكأنه تعويقٌ للحزب، ولا تحييد إسماعيل هنيَّة لكَبْح اندفاعة حماس؛ إنما التلويح بأنَّ ما يصعُب استخلاصُه فى فلسطين المُحتلَّة، سيفتحُ البابَ للبحث عنه فى الجبهات الرديفة، وأنَّ كلَّ قواعد الاشتباك القديمة عُرضةٌ للنسف فى لحظةٍ واحدة، حتى أنه لن يُوفِّر هدفًا أو يستثنى أحدًا من الرؤوس الكبيرة.. ومَكمنُ الخطورة هنا أنَّ تيَّار المُمانعة يُوضَعُ أمامَ خيارين مُزعجين: أن يبتلعَ المرارةَ فتَنْحَلُّ دعايتُه ويدبُّ الوَهَن فى أطرافه، أو يشتعلَ غيظًا فيُلاقِى عَدوَّه على غايته الحارقة، بتضخيم كُرة اللهب ومَنحه مزيدًا من مُبرِّرات النفخ فيها، وطاقة دَحْرَجتها على خريطة الإقليم؛ بينما يقفُ الحُلفاء على مرمى حجرٍ، جاهزين للدفاع عنه، وعاجزين عن لَجْم أجندته الخَطِرة.
يعرفُ الصهاينةُ أنَّ خصومَهم يعيشون فى حربٍ دائمة، ولديهم بدائلُ حاضرةٌ دومًا للتعويض عن أيَّة انتكاسات طارئة. لقد اختبروا «حماس» منذ إزاحة الرنتيسى وأحمد ياسين، وتأكَّدوا أنها لا تذبُل بانطفاء القادةِ ولا تتعطَّلُ خُطاها على طريق استبدالهم؛ بل إنَّ الخشونةَ المقصودةَ من جانب الاحتلال قد تُعزِّز مواقعَ الصقور على حساب المُعتدلين، وتنتدبُ وجهًا أشدَّ شراسةً من أسلافه الراحلين. وهكذا لا تُفْهَمُ العمليّةُ ضدَّ الهدفين الأخيرين باعتبارها خَصمًا من سلسلة القيادة، أو سعيًا لإرباك ديناميّة صناعة القرار؛ بل استعراض للقوَّة على التيَّار فى عُقر داره، وربما تشجيع له على الذهاب يَمينًا. والمعنى أنّه لو كان الصراعُ المكتوم فى الحركة الغزيّة بين هنيَّة والسنوار؛ فإنَّ إخراجَ أحدهما من المشهد يُمكِّن الآخرَ من الصورة مُنفردًا. وما يُريده نتنياهو أن يُصَفِّى الجبهةَ المُقابلة من فُرَص التعقُّل والاعتدال مهما كانت خافتةً، وأن يُشجِّعها على اعتماد الخيارات الأكثر سخونةً واحتدامًا؛ لأنه يتربَّحُ من طلقات الحناجر بأكثر ممَّا يخشى البارود والقذائف.
دخل المحورُ الشيعىُّ فى أجواء التصعيد منذ اللحظة الأُولَى؛ لكنه كان معلومًا أنهم لن يُسارعوا إلى القصاص قبل دراسته واستكمال أدواته، وربما البحث عن تطميناتٍ فى الغُرَف المُغلقة بشأن احتواء الردِّ، وألَّا ينقلب عليه حربًا لا يُريدها ولا يحتملُ تكاليفها.. وما حدثَ مساءَ الجمعة أنهم أنذروا بليلةٍ غير اعتياديَّة؛ فأُغلِقَت الأجواءُ وترقَّب العدوُّ والصديق، ولمَّا آلَ الأمرُ إلى فُرجةٍ رتيبةٍ سَخَرَ فريقٌ وأُحبِطَ فريق، وظلَّ الصهاينة على أهبة الاستعداد، ولم يتوقَّف الأمريكيِّون عن أحاديث التلطيف والتهدئة والدعوة لاجتناب المُغامرات الطائشة. وربما ابتهجَ الإيرانيِّون بحالة الأعصاب المشدودة، وأثرِ التعبئة والانتظار، وخسائر الاقتصاد فى تلك المناخات الضبابية. والأرجحُ أنّهم قد يُكرِّرون الخديعة مُجدَّدًا، ويسعون من وراء ذلك إلى التوتُّر والاستنزاف وإعادة بناء إمكانات المُبادَأة؛ لكنَّ الأثرَ الجانبىَّ أنهم يستنزفون رصيدَ المَظلَمة التى طالتهم بجريمة الاغتيال، ويشحنون المنطقةَ والعالم ضدَّ سلوكيات الإحراق البطىء، وقد ينتجُ عن تلك الرخاوة رَدٌّ عَكسىٌّ من تل أبيب؛ فيذهب نتنياهو إلى ضربةٍ استباقيّة تردَعُ التهديدات وتُقلُّل حجمَها؛ لا سيِّما بعدما وفَّرت له حالةُ التصعيد الخطابىِّ أثرَ الخطر، وأكَّدت نِيَّةَ الخصوم، دون أن تُكبِّدَه أيَّة خسائر حقيقيّة، يُمكن أن تضغط على مركزه المادىِّ والمعنوىِّ فى بيئته وأمام الخارج.
ستَرُدّ إيران من دون أىِّ شَكٍّ. المنطقُ يقضى بأن تُوقِّع بالحضور، والسوابقُ تُؤكِّد المسألةَ؛ ولو على وجهٍ استعراضىٍّ خفيف. لقد ابتلَعَت اغتيالَ قاسم سليمانى فى العراق قبل أربع سنواتٍ بأقلِّ قدرٍ من الهياج، ورتَّبت مع الأمريكيِّين عمليّةَ قَصفٍ محدودةٍ لمُحيطِ قاعدة «عين الأسد» دون أضرارٍ لوجستيَّة أو بشريّة. وفى حال المُجمَّع القُنصلىِّ بالعاصمة السورية، وقد قُتِلَ فيه سبعةٌ من قادة الحرس الثورىِّ البارزين؛ فإنها نفَّذَت استعراضًا جويًّا مُبهرًا فى الشكل وخاليًا من المضمون، بإطلاق عشرات الصواريخ الجوَّالة والطائرات المُسيَّرة من حدودها إلى إسرائيل، وضَمَنَت بالإِخْطار المُسبَق وبُعْدِ المسافة أن تجنِىَ ثمارَ الهجمةِ دعائيًّا دون أن تنفَلِتَ العمليّةُ لمستوى إعلان الحرب أو استدعائها. والأمرُ قد يختلف كثيرًا فى تصفية إسماعيل هنيَّة؛ إذ إنّه حليفٌ سياسىٌّ يُمثِّل بلدًا ثانيًا، وليس جُنديًّا تنتهى «ولايةُ دَمِه» عند أقدام المُرشد، ناهيك عن مقتلِه فى قلب العاصمة الحَصين، وهُم بهذا مُطَالَبون بالانتقام لكرامة الدولة، والتعبير عن وَجيعتِهم فى الشريك الراحل، وتطمين بقيَّة الشُّركاء لأنهم لا يتدثَّرون بعباءةٍ بالية. ومن هنا يصيرُ الرَدُّ ضَروريًّا، ووُجوديًّا أيضًا؛ لكنّهم لن يُسقِطُوا تمامًا رغبتَهم فى إدارته ضِمنَ الحُدود الآمنة، أو عند أدناها خطرًا على الأقل.
العُقدةُ هُنا أنَّ الرَدَّ يرتبطُ وُجوبًا بطبيعة العملية أصلاً، وهى ما تزال غامضةً بعد خمسة أيّامٍ من وُقوعها. وتفسيراتها المُعلَنة ضائِعةٌ بين القصف من خارج الحدود، أو من داخلها، أو الاختراق الأمنىِّ بعبوّة ناسفة. ولم تنشُر جهاتُ التحقيق ولا السلطات الرسميّة بكل مستوياتها أيَّةَ صورةٍ من موقع الحادث، كما لا يُعرَفُ شَكلُ الجُثَّة بما يُوفِّره من شواهد ومعلومات، ولم تعتَرِفْ إسرائيلُ رَسميًّا بمسؤوليّتها عن الجريمة. والحال أنَّ فارقًا كبيرًا بين العمل العسكرىِّ والأمنى، إذ الأوَّلُ يَضَعُ المسألةَ فى نطاق العدوانِ الحربىِّ وانتهاك السيادة فى مُستوى الدول وعلاقاتها المُنظّمة بأُطرٍ واتفاقاتٍ مُلزمة، والثانى يستبقِى الواقعةَ عند حُدود «حُروب الظلّ» والأنشطة الاستخباراتيّة العَصيَّة على الإثبات أو الثأر المُعلَن. وفى كلِّ حالٍ تختلفُ طبيعةُ الرَّدّ، ولا تصِحُّ استعارةُ أُسلوبٍ للتعقيب على آخر، ما يشى باحتماليّة أنْ يأتى الثأرُ مُرتبكًا فى وجهته ومضامينه، أو أن تتأخَّر العمليَّةُ قليلاً، ومع كلِّ تأخيرٍ تتضاعَفُ الوَطأة على أولياء الدم، وتتعدَّلُ الموازين لصالح القاتل.
لقد قَرَأوا رسائل نتنياهو بوضوحٍ جارح، ولم يستفيقوا من هَول الصدمة حتى الآن. تبجَّحَ ذِئبُ تلّ أبيب بأعلى صُور الغطرسة والوقاحة، وقال لهم من دونِ مُواربةٍ إنَّه يُقِرُّ شُروطًا جديدةً للميدان، تتجاوزُ اعتبارات المكان والزمان، وتُعيد صياغةَ قائمة الأهداف المطلوبة والمشروعة. استَبَقَ تنصيبَ الرئيس الإيرانى الجديد، مسعود بزشكيان، بالوُلوغ فى دَم أرفع قيادةٍ عسكريّة لحزب الله، وأهداه بعد التنصيب رقبةَ أحد حُلفائه البارزين فى قَلب داره، والإشارةُ هنا أنَّ العواصمَ لم تعُد معصومةً، واليدَ العاريةَ تُجاهر بقُدراتها، ومن طالَ الحاج محسن والشيخ «أبو العبد» قادرٌ على الوصول لسماحة السيد حسن نصر الله، أو للمُرشد الأعلى نفسِه. وبهذا السلوك يبدو كما لو أنَّه يَخرجُ من ضِيق غزَّة إلى براح الإقليم، ويسعى لسَبْك مُعادلةٍ مُستجَدَّة لا تحصرُ المُنازعةَ فى القضيّة الفلسطينية كما يقولُ المحور، ولا تُغلِقُها بانغلاق أزمة القطاع كما يُبشِّرُ الأمينُ العام للحزب، وفى هذا إعادةُ تحريرٍ للأجندة المُعتمَدَة من الطرفين، وإنْ كانَ له أن يُبدِّلَ أهدافَه بقرارٍ فردىٍّ؛ فالجديد أنْ يختبرَ أهدافَ المُناوئين بخشونة، ويضربَ سرديَّتهم الكُبرى فى عُمق بِنيتها ومضامينها، ويُنفِّذَ من خطابِهم ما اجتهدوا هُم أنفسُهم لإبقائه فى مَوضع التعطيل.
يستندُ تيَّارُ المُمانعة على قاعدةِ المُشتَرَك العقائدىِّ، واتِّحاد الفَهم والرؤية ومجالات العمل. وقد منحَ فِكرتَه شعارًا شعبويًّا اسمه «وحدة الساحات»، قالوه بقُوَّة وحِدّة وبكلِّ النبرات المُمكنة، ولم يُطبِّقوه إطلاقًا. واليومَ يُنازعهم نتنياهو فيه، لا على شَرط تحييده أو إبعادهم عنه؛ إنما بغَايَةِ إجبارهم عليه، وامتحانه فى مِرآته الذاتيَّة سَعيًا إلى تفكيكه من الداخل. والواقعُ أنّه فيما بين قصف الحُدَيدَة اليمنيّة، واستهداف تمركُزاتٍ شِيعيَّة فى عدَّة مجالات سُوريّة، وتهديم مصنع مُسيَّراتٍ ومَعقلٍ بارزٍ لكتائب حزب الله العراقى فى «جرف الصخر» جنوبىِّ بغداد، وُصولاً إلى ذَبيحتى الضاحية وطهران؛ فإنَّ نيرانَ العدوِّ تُوَحِّدُ الساحات التى لم تُوحِّدْها دماءُ الأصدقاء ولا أوامرُ قادة المحور، وعليهم أن يستجيبوا لرغبته الجُنونيَّة، أو يُقرِّوا له بالهيمنة وتثبيت قواعده الجديدة.
مُفارقةٌ غيرُ هَيِّنةٍ وتدعو للتوقُّف، أنَّ أوَّلَ تطبيقٍ فِعلىٍّ وواسعٍ وذى أثرٍ مادىٍّ ملموس لشعار «وحدة الساحات» جاء من تل أبيب لا من طهران. صحيحٌ أنَّ كلَّ طَرفٍ ينظرُ إليه من زاويةٍ مُغايرة؛ إنما جوهرُ النظرة واحدٌ فى النهاية. فصاحبُ الرَّايةِ يرفعُها عنوانًا على اتِّساع المحور وتعدُّد أطرافه، وقُدرته على الإزعاج من نطاقاتٍ مُتعدَّدةٍ تُحكِمُ طوقَ النار حول إسرائيل، والأخيرةُ تتَّخذُه مَنصَّةً لتمرير سَرديَّة الخطر الوُجودىِّ، وتحوير نزاعات الجغرافيا والمصالح لتصيرَ صِدامًا دينيًّا مُقدَّسًا، وهكذا تُرفَعُ التوراةُ على رِمحٍ مُقابلٍ للرِّماح التى يعلوها القرآنُ، وبينما يرفضُ مُحورُ الاعتدال العربىِّ تلك الصيغةَ من التحريف المفاهيمى، والتوظيف الرخيص لمُشتركات الاعتقاد والنصوص فى تلويث قضيّةٍ إنسانيّة عادلة؛ فإنَّ ظهيرَ الاحتلال من الجانب الأنجلوساكسونى مُؤهَّلٌ لاعتماد الرواية المَغلوطة، ولديه من رواسبِ التاريخ وأدبيَّات الامبريالية القديمة، ومن سُخونة خطابات المسيحانية الإنجيلية، وإعادة تكييف اليمين القومىِّ لخطابه الاستعلائىِّ القديم، ما يكفى للسَّيْر مع زعيم الليكود وحُلفائه التوراتيِّين فى طريق الأشواك الإيمانية التى تُؤجِّجُها العاطفةُ وتستثمرُ فيها السياسة. وإزاءَ الساحات الأُصوليَّة المُتّحدة خَطابيًّا والمُنفصِلَة عَمليًّا لدى الشيعة وتابعيهم، ثمَّة ساحاتٌ غَربيّة صهيونية تتَّحد فِعليًّا على مُشتركٍ دوجمائىٍّ عَفِن، وتُقدِّمُ نفسَها على صيغةٍ قانونيّة وإجرائيّة تلتحِفُ بأُطرِ النظام الدولى، مُتعدِّد الأطراف والقائم على القواعد؛ فكأنها خصومةٌ فى القرون الوسطى على قضايا مُستجَدَّة، وتلك الحروب «القروسطية» يُديرُها طَرفٌ بالسيف، ويحسمُها الآخرُ بالبوارج والمُقاتلات الشَّبَحيّة.
استخفَّ نتنياهو بقُدرات حماس حتى أفاق على طوفان الأقصى، ولا يُريد تكرارَ مأساته من جهة لبنان. وبالمِثل فإنَّ دُعاةَ المُمانعة استهانوا كثيرًا بموجة الجنون الصهيوني، واعتبروها مُجرَّد جولةٍ من تجاربهم المُعتادة.. الصراعُ الآن على تثبيت مُعادلةٍ إقليمية «فوق فلسطينية»، بعيدًا من مُعادلة «رابح رابح»، وطمعًا من كلِّ طرفٍ فى هزيمةٍ كاملة للآخر. والحال أنَّ ضَبطَ إيران لفصائلها التابعةِ لم يُنتِج أثرَه المطلوب، وبدا قاصرًا عن مُعادلة لوثة نتنياهو أو الإفلات من كَمينِه الاستدراجىِّ. كان رَبطُ الجبهات ببعضها منذ البداية خطأ استراتيجيًّا، والسَّعْى لفَصلِها الآن لم يعُد مُتاحًا؛ إذ قرارُ التصعيد أو التهدئة فى قبضة يَمين تل أبيب لا يمين طهران، وعاملُ الحسم لا يتوقَّف على رَدِّ المحور، بل يحكُمُه الردُّ على الردِّ من إسرائيل. وفى هذا النطاق تنعَدِمُ فاعليّةُ كلِّ الأطراف تقريبًا؛ باستثناء واشنطن، مع عَجزها عن الدخول بكلِّ قوتها فى مناخ الانتخابات، وقد صار بايدن «بطَّةً عَرجاء»، وترامب يُلاقى الليكود على أهدافه، ولن يكون بوسع كامالا هاريس والديمقراطيِّين إلَّا مُجاراة السياق بمخاطره العالية، واحتمالاته المُتنامية للانفجار الطارئ.
عزَّز الأمريكيِّون حضورَهم فى المنطقة، وجدَّدوا التزامَهم الثابت بأمن الحليف رغم طغيانه.. وإذا كانوا لا يُريدون الحربَ؛ فإنهم مدفوعون إليها، ويخشون أخطاء الحسابات العارضة. ولا يُمكن إغفال أثر البيئات الداخلية ونزاعاتها؛ فالحكومة الإسرائيلية لديها تشقُّقات اجتماعية وسياسية قد تُداويها الحرب، بينما شقوق المُمانعة تزدادُ تحت النار، وقد تأكَّد أنَّ إجرام الصهاينة ينحصر فى الأغيار، بينما سلوكيّات مُنافسيهم تنسحب على دواخلهم، ويختطفون الدُّوَل وسيادتها، ويُمارسون ما يستنكفونه من الاحتلال على حواضنهم اللصيقة. وبهذا قد تصيرُ الحربُ حُفرةً للقتيل وطوقَ إنقاذٍ للقاتل. وتل أبيب تجاوزت الخطوطَ الحُمْرَ فِعليًّا، والخيار بين انصياع طهران أو سعيها لرَسم سَقفٍ جديد؛ وكلاهما يُهدِّد مراكزها الحاضرة ويُغذِّى شهوة نتنياهو.
كلُّ الاحتمالات واردة، من الرَّتابة المَيتة إلى الطَّيش المُميت. وإن كانت الشواهدُ الأقوى تُرجِّح ألَّا تنزلق المنطقة لحربٍ شاملة، على الأقل فى المدى المنظور. سيردُّ الشيعةُ ويُعقِّب الصهاينةُ، ومهمَّة الولايات المتحدة أن تمتصَّ الردَّ والتعقيب، وتُقنعَ كلَّ طرفٍ باحتواء حصَّته من نشوة الصفعات المُتبادَلة وآلامها. وربما تمتدُّ المُواجهة على صورة مُباراةٍ مُتعدّدة الجولات، أو يُعاد سريعًا لأسقف الاشتباك السابقة. ستظلُّ المُعضلة فى توحُّش تل أبيب، وفى قُدرات حزب الله، والبرنامج النووىِّ الإيرانى، وكلّها أمورٌ مُرجأة للحَسم أو تثبيت التوازنات وفقَ هُويّة الساكن الجديد للبيت الأبيض، لكنها جميعًا تتجاوزُ القضية الفلسطينية ونطاقها الراهن. على الحماسيِّين إخراج أنفُسِهم من دائرة النار، والبحث عن مسارٍ غير ما ثَبَتَ خَطؤه واستفحَلَتْ ارتداداتُه، وحتى لو تعطَّلت مُداولات الهُدنة فترة بأثر اغتيال أرفع المُفاوضين؛ فالحربُ بصورتها القديمة لم تعُد مُحتِمَلَةً ولا قابلةً للاستمرار؛ إذ الغزِّيون يعيشون نكبةً عصريَّة طازجة، ولن تفيدَهم حُروب القرون الوسطى ولا صِداماتُ الأُصوليَّات الجائعة.