حازم حسين

تاريخ يستعير أقنعة الجغرافيا.. لعبة الحرب وألاعيب الذاكرة من كورش إلى نتنياهو

الثلاثاء، 06 أغسطس 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

صراعاتُ الأُصوليّة مُلتبسةٌ دائمًا، ظاهرهُا الجغرافيا وباطنُها التاريخ. إنها فى جدليَّةٍ عميقة مع الزمان؛ ولو بدا أنها مَعنيَّةٌ بالمكان بدرجةٍ أكبر.. فالمُبتغَى أن تفرضَ وصايتَها على العقل وسرديَّاته الموروثة؛ لكنها تتَّخذ المجالَ الحيوىَّ مَوضوعًا شكلانيًّا للنزاع؛ لسهولة الحَسم فيه، ولأنّه يفتحُ الطريقَ لاستدعاء الماضى وفَرضِه قهرًا على الحاضر. وبهذا التصوُّر يُمكن أن نُحدِّث رؤيتَنا للخُصومة الشيعيَّة الصهيونية، ومُمارسات الطرفين على امتداد الخريطة العربية، وضدَّ قُواها الفاعلة. فما يقعُ فى فلسطين محاولةٌ لبَعث المملكة اليهودية على معنىً إثنىٍّ توراتىّ، والردُّ من جانب «محور المُمانعة» إنما يطمحُ لإعادة إنتاج الزمن الفارسىِّ؛ ولو بهيئةٍ مُغايرة. وكلاهما يُؤسِّس فرضيَّتَه على هُويَّاتٍ صاخبةٍ وانتماءات قبائليّة؛ لهذا فالعداوةُ بينهما أقربُ إلى محبَّةٍ خَشِنة، أو تحالُفٍ مُضمَر، بينما عداؤهما الحقيقىُّ يُوجَّهُ صوبَ المَدنيَّة، ومشاريع تحديث المنطقة وإخراجها من سجون القوميَّة والاعتقاد، والرهان على وطنيَّاتٍ ديناميكيّةٍ قادرةٍ على الاتِّصال والانفصال وفقَ اعتباراتٍ قِيَميَّة ونَفعيّة ناضجة. والحال أنّهما يمضيان فى لُعبةٍ خَطِرة؛ إذ كُلّما تسيَّدَ أحدُهما على نطاقٍ من الأرض والبشر، أعاد جُزءًا من ذاكرة الإقليم للإقامة فى ماضيه البائس.


غطرسةُ الاحتلال فى غزَّة ناشئةٌ عن صدمة «الطوفان»، وقسوة الصفعة التى تلقَّتها الدولةُ العبرية من فصائل القطاع؛ لكنها تعودُ فى أحد جوانبها إلى ثأرٍ شخصىٍّ يخصُّ رئيسَ حكومتها. إذ يعتقدُ نتنياهو أنه خُدِعَ من الحماسيِّين بعد كلِّ ما قدَّمه لتثبيت سُلطتهم، بدءًا من رعاية الانقسام الفلسطينى، إلى تدبير ملجأ بديلٍ لهم عن دمشق، والوساطة من أجل التمويل الشهرى المُنتظم من إحدى العواصم العربية، فضلاً على أنّه فى مُواجهةٍ مُباشرة مع يحيى السنوار، الرجل الذى أخرجَه بنفسه من السجون فى «صفقة شاليط»؛ فذاقَ الهزيمةَ المُرَّة على يديه. والمسألتان يُجسِّدان وجيعةَ الوقت، بجانب أنَّ منطقَ الحركة يقوم على ثابتٍ نُصوصىٍّ وتاريخى، وبهذا فإنها لا تتمسَّكُ فقط بالوَقفيَّة الإسلامية من النهر للبحر؛ بل تستدعى معها تأصيلاً عقائديًّا لقِصَّة التِّيه والعقاب الإلهى لليهود، ثمَّ لقُرونٍ من الهيمنة منذ دخول القُدس، مُرورًا بإحباط الحملات الأوروبية المُتمسِّحة بالصليب. وإذا كان خيارُها الإلغائىُّ يتساندُ على حربِ الوعى، بأكثر ممَّا يملكُ مفاتيح الواقع؛ فإنه يلعبُ دورًا مُضادًّا فى الآن ذاته، لناحية أنه يُسوِّغُ السرديَّةَ الصهيونيَّة ويُبرِّرُ نُزوعَها إلى الإلغاء نفسِه. وهنا تقعُ المُفارقة العميقة واللعينة أيضًا؛ لأنَّهما وفقَ تلك المفاهيم أعداءٌ فى الكُتب وميادين القتال، وأصدقاءٌ فى التأسيس الفَجِّ لصِفريَّة الصراع وديمومته الأبديّة.


المَنطقُ ذاتُه ينسحبُ على المحور كلِّه. فجبهةُ المُمانعة بهواها الشيعىِّ تسبحُ فى اتجاهين مُتصادمين: الأوَّل واضحٌ للعيان ويتأسَّس على دعائيَّة الدفاع عن فلسطين، مع ما يتفرَّع عنه من اختصامٍ للاحتلال، وتعريضٍ بالعثمانيين والعرب لأنهم فرَّطوا فيها، والثانى مَطمورٌ تحت طبقاتٍ من النزاعات والحروب الإقليميَّة، ربما تعودُ إلى زمن الأُمويِّين وعداوة الأمين والمأمون. كأنها تسيرُ تحت وَهج القضيِّةِ العادلة لتحشِدَ قُوى المنطقة معها فى مهمَّة التحرير؛ لكنها تنظرُ للأرض السَّلِيبة باعتبارها خاصرةً رُخوة، يُمكن اختراق ذاكرة المنطقة منها؛ تمهيدًا لإعادة بناء الامبراطورية الصفويّة. ويتبدَّى هنا أثرُ الدعاية بالنظر إلى الجبهة كلِّها من زاويةٍ واحدة؛ فما أحدثَه التمدُّد الميليشياتىُّ فى العراق وسوريا واليمن ولبنان، قد لا يختلف كثيرًا عمَّا جناه الاحتلال على الفلسطينيين؛ لكنَّ اختلافَ العقيدة يرخى ستارَ الضلالة المطلوب، ويُشوِّه المعايير لدرجةِ إيهام العوام بأن الظالمَ فى ناحيةٍ قد يصيرُ عادلاً فى غيرها، وأنَّ من خَرَّب بيروت وصنعاء ودمشق يُنتَظَر منه عمران رام الله وغزَّة والقدس!


هكذا يترقَّبُ الطيِّبون وحَسِنو النِّيّة ما ستُسفرُ عنه مُداولاتُ طهران بشأن الردِّ على اغتيال إسماعيل هَنيّة. والانتظارُ بميقاتِ الراهن؛ بينما التدبيرُ والتنفيذ لن يكونا إلَّا على ساعة الماضى. والارتدادُ الزمنىُّ هنا له مَعنيان مُتعاضدان: إعادة تسخين الجبهات الرديفة من المنطقة، بما يُضيف لنكباتها مواجعَ أكبر، وسرقة الشهور العشرة الماضية بكلِّ ما فيها من دمٍ ونار؛ على أمل العودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر، وتأمين مكاسب العاصمة الأُمِّ للمحور، أو رأس الأخطبوط، دون تضحيةٍ بما راكمته فى العقدين الأخيرين؛ ولو المُقابل أن تُعيدَ ذِراعًا أو أكثر من أذرُعها عُقودًا للوراء. إنها تتحرَّكُ ماديًّا للانتشار فى الجغرافيا، وترتدُّ دعائيًّا لتسرق الوعى والذاكرة، وهى إذ تقفزُ على حقيقة أنَّ إيران كانت الدولة الإسلامية الثانية بعد تركيا فى المُبادرة بالاعتراف بإسرائيل؛ فإنها تُمارسُ الانتقائيَّةَ التاريخيّةَ لسَدِّ الثغرات فى حكايتها المُلفَّقة؛ فالعربُ السُّنّة مُدانون اليومَ ولو دفعوا دَمًا فى التصدِّى للعصابات الصهيونية سابقًا، ومُدانون فى الماضى أيضًا لأنهم اغتصبوا ولاية «علىِّ» أو قُتِلَ الحُسين فى أحضانهم.. إنها حربٌ على المَذهب والعِرق بمُمتلكاتهما، ومن داخلهما؛ بالضبط مثلما تُتَّخَذُ فلسطين الآنَ رايةً للخروج على حواضنها الأصيلة.


ربّما قرأ نتنياهو التاريخ أو يتحرَّكُ ارتِجالاً؛ لكنه فى النهاية يرقصُ على الحبل المشدود بين المذاهب والعواصم. ويعلمُ يَقينًا أنَّ التناقضات بين الأُصوليَّات المُضادَّة له تفوق أحيانًا تناقضاتها المُباشرة معه.. لقد اختار الاستثمارَ فى الرجعيَّة لأنه لا يملِكُ ما يصدُّ به أيَّة مُعالجة حداثيّة للصراع؛ والخلاصةُ أنّه يعيشُ فى علاقة تخادُمٍ عميقة مع أَلَدِّ أعدائه، أو بالأحرى مَن يزعمون أنهم أعداءٌ مَبدئيّون، بينما يعملان معًا على تحييد خطاب التعقُّل الذى يخصمُ منهما بالتساوى، وإنْ عَجَز عن استعادة الأرض المُحتلَّة؛ فإنَّه لن يُساعد على الأقلِّ فى مَنح الحرب صِفةً دينيَّة حضارية، ولن يُمرِّر عمليّةَ النَّحْر اليومية تحت ظِلٍّ من الخُطَب النارية والنصوص المُقدَّسة. الزمن هُنا حيلةٌ لتسويغ الانقلاب على الجغرافيا، والعكس بالعكس، وبالضرورة لن يقودَ مسارٌ كهذا إلَّا للربح فى جانبٍ والفَقْدُ فى آخر؛ فكأنَّ تيَّارَ المُمانعة فى قِسمته مع ذئاب الصهيونيَّة يرتضى «من الغنيمة بالإياب»، على قول امرئ القيس، إذ سيعود غالبًا خالىَ الوِفاض من الأرض أو السرديَّة المُتسيِّدة، أو منهما معًا.


مثلما ينثرُ التاريخُ الشوكَ فى الطُرقات؛ فإنَّ له مُفارقاته الرومانسية الرخيصة أيضًا. لدى اليهود ذاكرةٌ ساخنة تجاه سوريا والعراق، بأثرِ السَّبْى الآشورىِّ ثمَّ البابلى، ولن يَعدَموا الإحنَ ومُثيرات الصراع مع شرق الأردن ولبنان الكبير وغيرهما؛ لكنَّ الإخمينيين «إيران حاليًا» بعدما تورَّطَ فريقٌ منهم فى المأساة، عَقَّب آخرون بالتعويض؛ فحرَّر كورش الثانى اليهودَ المَسبيِّين ورَدَّ لهم مُمتلكاتهم، وأعادهم لأرض فلسطين وعَمَّر المعابد والهياكل مُجدَّدًا. العداوةُ المُدَّعاة اليومَ ناتجةٌ عن ميراثٍ مُشتركٍ تجاه العرب، لا عن خصومةٍ ثُنائيّةٍ مدفوعة بالدِّين، أو محكومةٍ بالقوَّة وكَراهة أحدهما للآخر، والمَلهاةُ أنَّ ثأرَ الصهاينة المُحدَثِين من الشام وبلاد الرافدين أنجزَه الفُرس المُعاصرون؛ بأكثر ممَّا تحصَّل عليه نتنياهو وعصابته فى كلِّ مُغامراتهم. وإذ يُؤسِّسُ المحورُ الشيعىُّ أجندتَه على شعار «وحدة الساحات»؛ فالمقصود أنها جبهاتٌ عربيّة تتَّحدُ ضِدّ نفسِها قبل الآخرين، ويُوحِّدُها العدو أيضًا بجنونه واستهدافاته الحارقة، ومن هنا فإنها عَمليًّا تحضرُ على معنى التفرقة لا التجميع، وتفتيت القوَّة الواحدة؛ لصَرفها إلى خزَّانات خصومها بالتساوى: فالصفويِّون يضعون قَدمًا فيها، والصهاينةُ يُرسِّخون انفصالَها عن تاريخها العضوىِّ المُشترك مع بقيَّة الجسد الواحد.


الردُّ المُرتَقَب من إيران راهنًا دفاعٌ عن المكان والزمان معًا. لقد كان الصراعُ مع إسرائيل محكومًا بأسقُفٍ مُحدَّدة، أهمّها أنْ تنحصرَ المُناكفات فى الجبهات الرديفة، وألَّا يتجاوز أحدهما على على الآخر فى بيئته. ويبدو أنَّ الاتفاق غير المُعلَن قد اختُرِقَ فى طوفان الأقصى، أو هكذا حكومة القوميِّين والتوراتيِّين. ومثلما تشتغلُ على إحداث إزاحةٍ زمنيَّة فى الوعى ونزاع السرديَّات، فقد عَمِلت على زحزحة الجُغرافيا أيضًا. بدأت باستهدافٍ مُباشرٍ وصريح لإيران فى سوريا، وللحزب جنوبىِّ نهر الليطانى، ثمَّ انتقلت مع تعاظُم المُثيرات إلى طهران وقلب الضاحية، وصار الاكتفاءُ بالتعقيب فى مزارع شبعا وهضبة الجولان وعلى أطراف الجليل لا يكفى، وفكرةُ الاستعراض الدعائىِّ بالمُسيَّرات والصواريخ فقدت وَهجَها بعد واقعة أبريل، ولا بديلَ اليومَ عن الإيلام المقصود والوصول إلى العُمق، فى حيفا وتلِّ أبيب وغيرهما. والأرجحُ أنَّ المُمانعين لن يذهبوا لهذا المستوى من المُغامرة؛ لكنهم يعلمون أنَّ أيَّة ضربةٍ دون المَساس بأعصاب الصهاينة لن تغسل عارَ الكرامة المُهدَرَة، ولن تُرمِّم مُعادلةَ الرَّدع وتستعيدَ توازُن الرعب بين الجانبين؛ وهكذا فإنها بين خيارين: أن تخرُجَ على الجُغرافيا فتصدمها تقلُّبات الزمن، أو تخضعَ للحدود المرسومة سَلفًا فتتآكل الأرضُ تحت قدميها، وتنزف السرديَّةُ التى أنفقت عليها كثيرًا؛ بما لا تعودُ صالحةً معه للإقناع أو التجنيد. فإمَّا أن تنجرفَ مع تطلُّعات الشعبيَّة واجتذاب المُتحمِّسين من العرب وتخسر أرضًا ولوجستيَّات، أو تحافظ على ما فى حوزتها وتُضحِّى بالعاطفة والتشجيع.


باستثناء التوغُّل البرىِّ فى لبنان لخمسة أسابيع خلال حرب العام 2006، سارت الأمورُ بين الجانبين خلال آخر عَشريِّتين فى نطاق تسخين الزمان وتبريد المكان، على معنى المُناوشات المحسوبة دون خروجٍ على الخطوط الحُمر. وبعد «الطوفان» ثمَّ جَولة المُشاغلة والإسناد الحزبيَّة، بَدَا أنَّ المُمانعة وفَّرت للاحتلال شرطَ التجاوُز على الأُطر الراسخة. وهكذا عاد للتوسُّع بدءًا من اجتياح غزَّة والتخطيط للبقاء فيها طويلاً، وبعدها دحرجة كُرة النار من خَطِّ التَّمَاس إلى حارة حريك، ومن دمشق إلى طهران. هكذا وصل نتنياهو إلى نقاطٍ لم يكُن يحلُمُ بها، وتحميه مَظلَّةٌ غربيَّة احتشدت سريعًا فى مياه المُتوسِّط، ونَشَّطَت كلَّ تمركُزاتها فى أنحاء الإقليم. وبينما يستحيلُ الردُّ بالمنسوب نفسِه من الجنون؛ فالظاهرُ أنَّ قواعدَ الاشتباك أُعِيْدَ تحريرُها بيَدٍ عارية، والشِّيعةُ يعرفون أنَّ العينَ تتجاوزُ حدودَ إسرائيل وأمنَها بالمعنى البسيط، إلى البرنامج النووى وقُدرات الحزب المُتعاظمة، ومن جديدٍ يقفون أمام خيار الزمن: تعجيل الصدام وسط مجالٍ هائجٍ ومناخاتٍ مُرتبكة، أو إرجاء الصدام دون ضمانةٍ لإلغائه بالكامل ونهائيًّا. ما يعنى أنَّ الردَّ قد يتبعه تعقيبٌ ثقيل، وحتى لو أُجْبِرَ زعيمُ الليكود على ابتلاعه مُؤقَّتًا؛ فلن يرتدعَ عن تكرار المُحاولة فى مدى قريب؛ ساعيًا إلى المواجهة الشاملة، ومُطمئِّنًا إلى صلابة الظهير الأمريكى.


الماضى مثل ماردٍ فى قُمقم، لا أمان منه إلا بإبقائه حبيسًا؛ أمَّا تحريرُه فيستجلِبُ الأمراضَ القديمة ولا ينسفُ التوازنات الجديدة. والحادثُ أنَّ الإقليمَ يُعانى تحت الموجة الشيعيَّة كلَّ رواسب وتأثيرات الانقسام العرقىِّ والطائفى، ولا يُغيِّر مُعادلة القوّة والتفوُّق مع إسرائيل. هكذا تُمثِّل كلُّ رصاصةٍ مُغلَّفةٍ بدعايات المُمانعة خَصمًا من القضية وإضافةً لأعدائها، والردُّ على مَقتل هنيّة فى طهران، حالَ وقوعه على أيّة صورة، سيكونُ تمرينًا صهيونيًّا على مزيدٍ من التصعيد، والصمت أيضًا، وتلك ملهاةٌ ومأساةٌ فى آنٍ واحد.. الثغرةُ ليست نتاج التمدُّد الإيرانى بما يتجاوز قوّة الملالى وطبيعة الظرف الراهن؛ بل تنبع من أنها تُحارب على جبهتين مُتعاديتين بالأدوات نفسها، وتتعشَّم أنْ تربحَ فيهما معًا؛ بينما يتعيَّنُ عليها أن تقبلَ الخسارة فى إحداهما على الأقل، واستقامةُ المواقف هُنا تفرضُ التراجُعَ لصالح فلسطين، بدلاً من التشدُّد لخدمة إسرائيل.


سيكونُ الردُّ بدايةً لجولةٍ مُحدَّثة ومنقطعةٍ تمامًا عن سوابقها؛ وليس استكمالاً لمعركةٍ جارية أو تصفيّةٍ للملفات القديمة. أُزيحَت غزّة من صدارة المشهد، وتراكم غُبارُ الأيديولوجيا مع رُكام القطاع على واجهة القضيَّة، وما أراده الصهاينةُ أن تُزاحَ فلسطينُ من المُعادلة وتحلَّ الجبهةُ الشيعيَّةُ بدلاً منها، وقد تحقَّق لهم هذا بالفعل. الحديثُ اليومَ عن نِزالٍ حامٍ فى لبنان واليمن وسوريا وأطراف العراق وصولاً لقلب إيران؛ والحضور الأنجلوساكسونى بنكهته المسيحانية ينبنى على مُستجدَّات الصراع العقائدى، لا على ثوابت الأزمة الناشئة من زمن النكبة والتقسيم. إنه تاريخٌ يستعيرُ أقنعةَ الجُغرافيا، وتناقضاتٌ ثقافيّة وهُويَّاتية تتوسَّلُ بالشعارات والنصوص؛ لحَرف الأنظار عن العُقدة الحقيقة لصالح انتحالاتٍ بديلة. لقد حرَّر «كورش» يهودَ السَّبْى قبل خمسةٍ وعشرين قرنًا تقريبًا بالقوّة المُنحازة إليهم، ويُحرِّرُهم أحفادُه الآنَ بالقوّة المضادّة لهم؛ تحريرًا على معنى إزاحة المَتن وتقديم الهوامش، وإرخاء الحجج والمُبرِّرات الكافية لاستمراء الولوغ فى دماء فلسطين والقَضم من لحمِها.. لا يهمُّ كيف سيكونُ الردَّ؛ فالخُلاصةُ أنّه إحماءٌ بين غريمين فى مُباراةٍ استعراضية، واستبقاءٌ مقصود لسخونةِ الحَلَبة طَمعًا فى المنافع المُؤجَّلة، أمَّا القضيةُ العادلةُ فلا بواكىَ لها، وتتمزَّعُ عمليًّا بين عدوِّ شرس وصديق مُغرِض، أو جهولٍ فى أحسن الأحوال والافتراضات.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة