الفصل بين الأحداث فى عالم السياسة والاقتصاد لا يُمكن أن يؤدى إلى نتائج وتحليلات دقيقة، فجميعها جنبًا إلى جنب من شأنها أن تؤدى إلى نتائج منطقية، تمامًا مثل قطع «البازل» التى نعمل على ترتيبها حتى تكون الصورة متكاملة وصحيحة أمام الجميع.
ربما تلاحُق الأحداث من حولنا يُصيبك كمتابع بارتباك أحيانًا، فأنت تنظُر إلى الأمور؛ كل حالة بحالتها، دون ربطها بعضها مع بعض، فى حين أن ما يحدُث فى الشرق الأوسط، منذ أحداث غزة فى أكتوبر من العام الماضى من تداعيات، بالتأكيد يرتبط كُليًا بخيط واحد سيصل بالطبع إلى نتيجة واحدة، تصُب فى صالح أطراف بعينها دون غيرها، إلا فى حالة حدوث تحولات دراماتيكية لا يُمكن أن نغُض البصر عنها، فدائمًا فى عالم السياسة هناك من يُمكنه أن يُدير الطاولة فى اللحظات الأخيرة.
وتأتى أحداث الشرق الأوسط الأخيرة، وما يشهده من تصعيد إسرائيلى إيرانى، خاصة بعد اغتيال رئيس المكتب السياسى لحماس، إسماعيل هنية؛ ليأخذ الأنظار بعيدًا عن مسار الانتخابات الأمريكية، فى حين تأثُر الأخيرة بشكل مباشر بهذه الأحداث وتداعياتها؛ فعلى مدار تاريخ الانتخابات الرئاسية بالولايات المتحدة الأمريكية، تأتى العلاقات الأمريكية الخارجية ولا سيما بالشرق الأوسط، فى مقدمة العوامل المؤثرة على فوز أو هزيمة مُرشحها، وذلك على الرغم من تأثير الملف الاقتصادى بشكل كبير على نتيجة تلك الانتخابات فى كثير من الأحيان، على توجُهات الناخب الأمريكى، إلا أن السياسة أصبحت فى السنوات الأخيرة مؤثرًا مُهمًا يُلقى بظلاله على الرأى العام الأمريكى، فقد أصبح العالم قرية صغيرة بفضل الإنترنت والسوشيال ميديا التى تُساهم فى نقل الأحداث بسرعة البرق، بما يؤثر على الصورة الذهنية للأحداث لدى الرأى العام، وفى حالة المأساة التى يعيشها الفلسطينيون الآن، ساهمت وسائل الإعلام البديلة فى كسب تعاطف وتأييد عالمى معهم من خلال نقل الأحداث أولًا بأول دون تجميل، وفضح السياسات الإسرائيلية وداعميها.
وأثارت المأساة الإنسانية التى يعيشها أهالى غزة جراء ممارسات الاحتلال الإسرائيلى الهمجية تجاه القطاع والضفة الغربية، حفيظة كثير من شعوب العالم، ولا سيما الشعب الأمريكى، فعلى مدار الشهور الماضية شهدت عدد من الجامعات الأمريكية احتجاجات طلابية ضد النهج الأمريكى تجاه الحرب فى غزة، فما أشبه الليلة بالبارحة فى مشاهد قلب الموازين بنتائج الانتخابات الأمريكية، ولكن ليس بالضرورة أن تؤدى المقدمات لنفس النتائج؛ ففى عام 1968 تسببت احتجاجات طلابية شهدتها أمريكا قبيل الانتخابات، كانت ضد أحداث حرب فيتنام فى فوز ريتشارد نيكسون، حيث استغلال الجمهوريون لهذا الرفض الشعبى فى الحشد ضد المرشح الديمقراطى فى ذاك الوقت جون كينيدى. وفى انتخابات 1979 كان لإيران تأثير فى مسار نتائج الانتخابات الأمريكية، بعد أن فشلت سياسات المُرشح الديمقراطى حينذاك، جيمى كارتر، فى احتواء ما أدت إليه سياساته تجاه شاه إيران، محمد رضا بهلوى، بعد اندلاع الثورة الإيرانية، وإزاحته لصالح آية الله الخمينى، فقد كانت واشنطن والشاه على وفاق سياسى إلى حد كبير، قبيل تغير السياسات الإيرانية تجاه واشنطن فيما بعد، حيث رفض الإيرانيون ولا سيما المُتواجدين على الأراضى الأمريكية فى ذاك الوقت، دخول الشاه لتلقى العلاج فى أمريكا.
وبشكل عام يؤكد تاريخ الانتخابات الأمريكية على أهمية كسب أصوات الناخبين اليهود، والداعمين لإسرائيل، ومؤيديها من جماعات الضغط، إلى جانب الاهتمام بالاقتصاد الأمريكى والقدرة على الدفع به إلى مزيد من الازدهار، فهو العامل الأهم والأكثر تأثيرًا بالنسبة لقاعدة كبيرة من الناخبين الأمريكيين، خاصة فى ظل ما يشهده العالم من تحديات اقتصادية تؤثر بشكل مُباشر على طبيعة الحياة المعيشية للمواطن.
ولعل دخول الأزمة المتصاعدة بين إيران وإسرائيل على خط الحرب الإسرائيلية على غزة، يُوجه دفة الناخبين إلى المُرشح الجمهورى، دونالد ترامب، فالرأى العام الأمريكى كان مؤيدًا بنسبة كبيرة لسياساته تجاه طهران، وما فرضته واشنطن من عقوبات عليها فى عهده، يراها عدد من المحللين السياسيين الغربيين أنها نجحت إلى حد كبير فى تقويض عدد من الممارسات الإيرانية فى الإقليم عبر أذرعها فى مناطق مختلفة، وبالأخص حزب الله اللبنانى والحوثيون فى اليمن، فهما الأذرع الأكثر تأثيرًا فى الشرق الأوسط، حيث التصعيد بينهما وإسرائيل بين الحين والآخر، إضافة إلى التأثير بشكل مباشر على المصالح الاقتصادية لدول العالم، بسبب هذه المناوشات، التى تسببت بتهديد الحوثيين لأمن وسلامة الملاحة فى البحر الأحمر.
وربما يسعى الحزب الديمقراطى خلال الفترة المُقبلة فى محاولة احتواء أزمة الشرق الأوسط، لصالح مُرشحته، كامالا هاريس، والتى دخلت السباق الرئاسى الأمريكى بعد إعلان الرئيس الحالى جو بايدن، انسحابه، فى ظل ما تعرضت له سياساته من انتقادات، وظهور مؤشرات واضحة بتراجع شعبيته عن الدورة الانتخابية السابقة، وهو ما ساهم بشكل كبير فى تراجع شعبية الحزب الديمقراطى، الذى يُحاول الآن بكل قوة استعادة ما يُمكن استعادته من تأييد قبيل حسم مصير الانتخابات فى نوفمبر المقبل.