سرعان ما تحول دورى كمساعد ثان فى «وداعا بونابرت» إلى مساعد حركة ومساعد موقع وحتى ممثل أدوار ثانوية.. هكذا كان يوسف شاهين..أصابنى الخوف من فكرة تحريك «جيوش» كاملة وهو ما لم أمارسه فى كل أفلام خان الاجتماعية ناهيك عن الاختلاف الكامل بين الأسلوبين.. فالتصوير فى الشوارع والشقق غير الإعداد الكامل للموقع ليناسب «قرن» مضى و«التلقائية» غير التحسب الكامل لكل الظروف وبين «تقدير» ظروف الإنتاج فى ضرورة «الإنجاز» اليومى الذى يصل إلى حساب عدد علب الخام المصور إلى الحرية الكاملة فى التصوير فى الوقت والظروف المناسبة.. بشكل أدى إلى امتداد التصوير لأكثر من 13 أسبوعا كان يوسف يجرى « بروفة» تصوير على مشهد يشترط أن يتم فى ساعة الغروب أو ما نسميه مهنيا «magic hour» ثم يتم تأجيل ببساطة إلى اليوم التالى كى «نمسك» بنفس اللحظة الضوئية وهى حالة رفاهية لم نكن نملكها على الإطلاق فى أفلام «السوق» التى كان محمد خان وغيره حريصين على عدم استبعاده منها.
طبعا كان الدعم الفرنسى لأفلام شاهين يعطيه هذه الحرية، كما أن يوسف شاهين كان يستغل كل جنيه من هذا الدعم من أجل تحسين ظروف العمل.. ورغم أن كان مشهورا «بالبخل» فى أجور الممثلين لأن العمل مع «جو» يكفيهم ولا يجعلهم يطالبون بأجورهم المعتادة إلا أنى أشهد أن مسألة «البخل» هذه لم تكن أبدا مطروحة فى ذهنه حين يصل الأمر إلى المستوى التقنى والفنى والديكور وكل عناصر الفيلم الأخرى.
كان ضمن تكليفاتى بالفيلم مرافقة «ميشيل بيكولى» قبل وبعد التصوير وبالطبع كانت فرصة عظيمة للقاء نجم من نجومى المفصلة منذ شاهدت فيلم «كلود سوتيه» العبقرى «أشياء الحياة» مع رومى شنايدر وهو الفيلم الذى كان له أكبر تأثير على نفسى وعلى قرارى بدراسة السينما أصلا فكانت متعة الحديث مع ميشيل ومراقبة سلوكه ومدى احترافيته من أهم تجارب العمر على المستوى المهنى.. كان يأتى منذ بداية التصوير إلى نهايته بصرف النظر عن موعد تصوير مشاهده.. يختار أى موقع هادئ ويقرأ فى كتاب يصاحبه مسترخيا تماماً مرتديا شبشب وشورت منتظرا دون أى إلحاح دعوته للتصوير .. كنت كمساعد «سوق» أحاول الاعتذار عن «تأخير» التصوير ولكنه اندهش كثيراً وقال إنه مكرس للعمل لمدة 8 ساعات كاملة ولا يهمه كيف وأين يحدث ذلك تبعا لظروف الفيلم، كان مطيعا لكل تعليمات المخرج ويحفظ دوره جيداً مهما كان «الحوار» طويلا ويحرص على الوقوف خلف الكاميرا حين يكون الممثل المقابل وحده أمام الكاميرا لكى يساعده و«يأخذ» منه الانفعال المناسب لكل لقطة..وكان مندهشا من مهارة «المصريين» وخبرتهم وخاصة عباس صابر «وهو الرجل الذى يستحق مقالا منفرداً» ..كان عباس مسئولا ضمن مسؤولياته الكثيرة عن تركيب «القدم الصناعى» لميشيل الذى كانت شخصيته تقتضى كونه أعرج ..كان عباس يفعل ذلك بمهارة لافتة وخبرة متنوعة..لديه ماكينة خياطة وورشة نجارة وحدادة .. وكل شىء يمكن أن يطلبه منه «جو» المجنون كما كان يسميه كل العاملين معه بسبب طلباته الغريبة والمفاجئة.. ولكن ما فعله عباس فى مشهد فلاش باك عند تحويل الإضاءة من ليل إلى نهار وبالعكس عبر شمعة كان مذهلا وهو أمر يستحق أن نشرحه بالتفصيل فيما بعد.
وعندما شاهد ميشيل ما فعله عباس أصر بعدها أن يسميه (الإله الصغير ) إذ قال إن عملا مثل الذى فعله عباس على الهواء كان لا بد من إعداده بفرنسا فى زمن لا يقل عن شهور ولذلك ظلت علاقة عباس وشاهين شديدة القرب فكان يمكنه الاستغناء عن أى شخص إلا عباس صابر كما أن عباس كان أيضا مسؤول المفرقعات فكان هو من يجهز البنادق والمدافع الفرنسية وتلك التابعة المماليك، ولا بد من ذكر طرفة هنا كانت بمثابة كارثة كنت أنا أحد المتسببين بها، كان المشهد عبارة عن تقديم جيوش تقف على بعد وتتحرك عند إشارة معينة نحو الكاميرات المنصوبة وهى تطلق النيران ولما لم يكن متاحاً فى هذا الوقت أى وسيلة اتصال عن بعد سوى «وكى توكى» قليل الكفاءة فقد اتفقنا مع حسام على الذى كان يرافق الجيوش على الأمر بالتحرك عندما أرفع الكاب الأحمر وألوح به كإشارة للحركة.
ومع البروفات المتعددة وكثرة التعديلات والحر الشديد سهوت ورفعت الكاب الأحمر عن رأسى فاذا بالجيوش تتحرك فى اتجاه الكاميرا..هرع يوسف شاهين «رولم» آمرا بدوران الكاميرا.. ولكن الأمر كان متأخرا وفشل تصوير المشهد بكل تكلفته الهائلة.. نظر نحوى شاهين ببساطة ودهشة «معلش» ثم نظر لعباس..عايز قد إيه وقت يا عباس علشان نعيد المشهد؟!..وغرقت فى الخجل..لكنه ابتسم قائلاً بتحصل كتير هخصمه من أجرك!