فارقُ الحمائم عن الصقور فى إسرائيل، أنهم يقتلون بصوتٍ خفيض. البلدُ بكامله مُقيمٌ فى عُمق اليمين، ومُبرمَجٌ على التطرُّف، ولطالما اتَّخذ من تفاوت مستويات الخطاب أداةً للخداع وتمرير الوقت، ومُرتكَزًا فى لعبة توزيع الأدوار بين قاتلٍ حاضرٍ وآخر مُؤجَّل. الطيِّبون غادروا إسرائيل منذ سنوات، أو لم يحضروا إليها أصلاً، أمَّا الذين استحلّوا أرضَ الآخرين وبيوتهم؛ فإنهم جميعًا على الأجندة نفسها، ربما تخفُت أصواتُهم حِينًا وتعلو أحيانًا، وقد يختلفون على جرعة البطش وحدود استعراض القوَّة؛ لكنهم يتَّفقون فى النهاية على الصِّفَة السرمديَّة المُقدَّسة لحروبهم، واقتلاع الفلسطينيين، أكان بالعنف أم بالحيلة، واستعداء المُحيط الإقليمى على حَرفٍ من الاستقرار الحَرِج، بحيث لا تُضطَرّ للسلام الشامل، ولا للصدام الكامل، ويبقى الأمرُ بين إحماءٍ وتبريد، واستنزافٍ للطاقة والمُقدَّرات، ووسيلتها لذلك إنما تتبعُ من داخلها بالأساس؛ لكنها تتساندُ أحيانًا على خِفَّة بعض الأطراف، وسوء حساباتها فى التهدئة أو التصعيد.
جَرَّبنا الصهيونيَّةَ لثمانية عقودٍ تقريبًا، وما نزال نتعثَّر فى فهمها، ونخوضُ المعاركَ معها على شَرطها فى المكيدة والخداع. لقد بالغت فى لَطميَّاتها بعد «طوفان الأقصى»؛ لتلفيق مَظلمةٍ لا أساسَ لها، وانساق خلفَها طابورٌ طويلٌ من المُؤدلجين أو حَسِنى النيَّة، لا سيَّما إعلام المُمانعة وبعض المنصَّات الرديفة للأُصوليَّة الإخوانية، فبالغوا فى تصوير الحادثة على صِفَة الهزيمة النكراء، واحتفوا بالهجمة ومقاطعها المُصوَّرة، وخطابيَّات مُتحدِّث القسَّام المُلثَّم «أبو عبيدة»؛ ما أتاح تمريرَ بعض السرديَّات المُخلَّقَة من جانب الاحتلال، وسَوَّغ له فى عيون حلفائه على الأقل أن يأوى إلى القوَّة العارية، ويُمعِن فى البطش والتنكيل بالقطاع وساكنيه. كان من المُفارقات مثلاً أن يخرُج المرحوم صالح العارورى، قيادى حماس المقتول فى ضاحية بيروت الجنوبية لاحقًا، على إحدى الشاشات العربية نافيًا مسؤوليَّةَ الحركة عن أيَّة خُروقاتٍ أخلاقيّة وقعت فى غلاف غزَّة، ومُفسِّرًا المسألةَ بأنَّ عوامَ أهل القطاع تدفَّقوا على المُستوطنات لمَّا رأوا السياج مفتوحًا، فوَقَع منهم ما جاء فى الفيديوهات؛ كأنه كان يتبرَّعُ بتثبيت خطاب الوَصْم الصهيونىِّ لأكثر من مليونى غَزِّى، وأنهم كما يذهبُ غُلاة التوراتيِّين يستحقّون جميعًا العقابَ عن الطوفان، ويجب أن يكونوا هدفًا للإبادة بغَضِّ النظر عن التصنيفات؛ إذ لا فارقَ بين كبيرٍ وصغير، ولا بين مَدَنىٍّ ومُقاتل.
من علامات الرداءة فى الفكر والمُمارسة أيضًا، وابتلاع الطُّعم من سِنّارة العدوِّ بتلذُّذٍ واستمتاع غَبيِّيَن، أن حوَّلت بعضُ القنوات مشاهدَ الحرب إلى مُباراةٍ يوميَّةٍ يتنازعُها الفخرُ والتحليل، والمُبالغة فى بطولات القسَّام مُقابلَ الحَطِّ من فاعليّة الاحتلال، وبينما يبدو ذلك سلوكًا أقربَ للمُقاومة وتثبيت الأفئدة؛ فإنه كان يُنتجُ أثرًا عكسيًّا فى الدعاية، إذ يُثبِتُ صلابةَ الفصائل وهشاشةَ المُحتلّ على خلاف الواقع، ويُبرِّرُ للقاتلِ الاستمرارً فى جريمته، بينما يزعمُ الضحايا أنهم أكثرُ بأسًا وأعلى كَعبًا. وامتدَّت الخِفَّةُ أيضًا للتركيز على حالة الذُّعر فى إسرائيل، وعشرات آلاف النازحين من مُحيط غزَّة والجوار اللبنانى، وأضعافهم ممَّن غادروا الدولةَ بتذكرة ذهابٍ دون عودة. كما لو كان المقصود تحصيل المكاسب فخرًا، والاكتفاء بالمعنوىِّ عن المادىِّ، دون مراعاة انعكاسات ذلك على دعائيَّة «الخطر الوجودى» التى يتلطَّى وراءها نتنياهو وعصابته، وبإغفالٍ كاملٍ لأنَّ نازحينا أضعافُ نُظرائهم على الجانب الآخر، ومُعاناتنا أكبرُ من معاناتهم، وبينما تعلو وحشيَّتُهم على الخطاب المُرافق لها؛ تعلو أصواتُ مُسلَّحينا على آهات مَوتانا، فكأننا نرقصُ مع القاتل فى حفلة الدم وعلى رُكام الطلل والأشلاء.
كلُّ ما فاتَ تَوطئةٌ لِمَا أُريدُ التوقُّفَ أمامَه الآن، وبعد عشرة أشهرٍ من حربٍ غير مُتكافئة، ما أحرزت فيها فلسطينُ مكسبًا يُذكَر، ولا جَنَت منها إلَّا نكبةً تُضاف لسوابق نكباتها. يشيعُ بين الطيِّبين من ذوينا أنَّ المُشكلةَ الكُبرى فى نتنياهو، وأنه يقفُ بمُفرده على رأس الميدان رافضًا التهدئة، ومُعتصمًا بخيار القتال المفتوح لأغراضٍ شخصيَّة. جانبٌ من المسألة قد يكون صحيحًا، بالنظر إلى أنه يُراهن بماضيه السياسىِّ كاملاً على مُستقبلٍ غامض، ولا يُريد أن يُغادرَ المشهدَ مهزومًا ليسكُن صفحةً سوداء من كتاب الذاكرة العِبريَّة، بعدما كان يُمنِّى نفسَه أن يتقدَّم الغلاف، أو يصير آخر ملوك اليهود وأبقاهم أثرًا؛ ولو فوَّتته التوراةُ فى تأريخها لأُسطورةٍ يبدو أنها ما تجسَّدت يومًا، أو كانت أقلَّ كثيرًا ممَّا تطوَّع به الحاخاماتُ والمُؤرِّخون؛ لتحقيق التوازن النفسىِّ لأُمَّةٍ وُلِدَت فى أزمة، وعبرت من استعبادٍ لسَبىٍ وتشريد، كما تُوثِّقُ أدبيَّاتُهم عن نفسهم، وخاضوا صراعَهم الأوَّلَ مع نبيِّهم، أى مع الله نفسه، وفيما بين عائلاتهم الكُبرى، ولم يُجرِّبوا الوحدةَ المزعومةَ اليومَ فى أيَّةٍ مرحلةٍ من ماضيهم المنحول. المهمُّ أنَّ زعيمَ الائتلاف لديه حساباتٌ فعلاً؛ لكنّه ليس استثناءً من الذهنيَّة الصهيونية الجارحة، وغرامها بالصراعات الدائمة، وحياتها على حَدِّ السِّكِّين؛ حتى أنها تخترعُ الحروبً إذ لم تُولَدْ من تلقاء نفسِها أو بخَطَايا المُناوئين.
ذهبنا بعيدًا فى افتراض أنَّ عُقدةَ النزاع مربوطةٌ على رأس رئيس الحكومة، وتلقّفنا كلَّ ما يُمرِّره الإعلامُ الصهيونىُّ عن انتهاجه مسارًا شخصيًّا مُتشدِّدًا، يخصُّه وحدَه، أو على الأكثر مع دائرة ائتلافه التوراتىِّ. لقد نجحَ فى الاختزال والتنميط عبر حَصرِ مسألة غزَّة فى حماس، والحركةَ نفسَها فى «السنوار» وطبقته القيادية، ثمَّ أخفقنا من جانبنا عندما أعدنا إنتاجَ طريقته فى التسطيح، وصارت المشكلةُ فى شخصِه لا مع دولةٍ قامت على الدم، وتفتنُها الحروبُ بأكثر ممَّا يُغريها السلام. وأثرُ التنميط المُتبادَل كان سيئًا من ناحيتين: الأُولى تسييدُه لفكرةِ أنه لا أملَ فى التهدئة والاستقرار طالما بقيت رايةٌ حماسيَّة واحدة، والثانية أنَّ التوحُّشَ له صِفَةٌ مُؤقَّتة تحسمُها فُرَصُ التغيير السياسىِّ مع أوَّل موعدٍ مع الانتخابات. كأنَّ القطاعَ المخطوفَ قد صارَ إرهابيًّا بكامله مع هيمنة الحماسيِّين، بينما لدى الدولة العبرية من البدائل العاقلة ما يُوجِبُ الصبرَ؛ لحين إزاحة حاكمها المجنون، ثمَّ تنفتحُ الخياراتُ على باقةٍ عريضة من معروض الجنرالات وأحزاب الوسط.
أحدثُ العطايا على طريقِ المَكر والتضليل، ما أُذِيعَ قبل يومين عن نزاع نتنياهو مع وزير دفاعه يوآف جالانت فى اجتماع الكابينت المُصغَّر، ورَفضِ الأخير لخرائط رئيس الحكومة عن الانتشار فى محور فيلادلفيا على حدود مصر. لطالما كان الجنرالاتُ أكثرَ تعقُّلاً من السياسيِّين؛ لكنه الانضباطُ الناتجُ عن حساباتٍ عسكرية، وليس عن مَيلٍ حقيقىٍّ للسِّلم والاستقرار. عساكرُ الصهيونية ليسوا حمائمَ إطلاقًا، وجالانت نفسُه قال سابقًا إنه سيُحارب غزَّة بالحصار والتجويع، ويرى ساكنيها مُجرَّد «حيوانات بشرية»، بل كان رافعةَ الإحماء والأكثرَ تشدُّدًا فى شَنِّ حربٍ استباقيَّةٍ ضدَّ حزب الله فى لبنان، وإذا تبدَّلت مواقفُه اليومَ عمَّا كانت عليه؛ فإنه ينطلقُ من أرضيَّةٍ تحكمُها اعتباراتُ الجيش وملاءتُه فى القوَّة والأفراد، والحاجة إلى وَقفةٍ لالتقاط الأنفاس وترتيب الأوراق، والاستعداد لجولةٍ جديدة من القتال. فضلاً على أنَّ المُنازعة لا تنفصلُ عن أجواء المُناكفة السياسية داخل الحكومة، وبين رئيسها ومُعارضيه، لأغراضٍ تتَّصل بواقعِ الإدارة ومُستقبلها، وبدء النظر لمَوسمِ المُساءلة والحساب، وما يستتبعُه من البحث عن تحالُفاتٍ مُؤهَّلَةٍ لأيَّة انتخاباتٍ مُحتمَلَة. والمعنى أنّه عِراكُ المصارين داخل البطن الواحدة، وليس اختلافًا عميقًا فى الرُّؤى والأفكار، ولا صورةً بديلةً عن إسرائيل كما نعرفُها منذ ولادتها الحرام.
والقَصدُ أنَّ الحربَ الدائرةَ فى غزَّة كانت ستتَّخذُ الصِفَةَ الإباديَّة التى هى عليها، بنتنياهو ومن غيره، ومع أىِّ رئيس حكومةٍ آخر؛ ولو من أبعد نقطةٍ عن اليمين بجناحيه، القومى والتوراتى. إسرائيلُ ابنةُ الصهيونية كحركةٍ سياسيَّة علمانية، وقد بُنِيَت على أكتاف اليسار، وكلُّ حروبها التأسيسية والتوسُّعيّة الكُبرى جرت وفقَ أجندة التقدُّميِّين وتحت رعايتهم؛ هذا لو صحَّ توصيفُ فكرةٍ استيطانيَّةٍ إحلاليَّة بالتقدُّميَّةِ أصلاً. لم يجد «بن جوريون» غضاضةً فى استعارة فكرة «الجدار الحديدى» من رائد الحركة التصحيحية زئيف جابوتنسكى، ومَنحَها جسدًا ماديًّا لا تتعارضُ فيه أفكار المُبادأة والحروب الخاطفة والرَّدع بالرعب، مع دعايات البحث عن إقامةٍ هادئة لليهود بعد قرونٍ من القهر والتشريد. ويُؤثَرُ عن جولدا مائير قولُها الساخرُ بجدّيةٍ مُفرطة: «يُمكن أن نُسامح العربَ على أىِّ شىءٍ؛ إلَّا أنهم اضطرُّونا لقَتل أطفالهم». وهكذا ترتحلُ القِيَمُ وتتزحزحُ لتأخُذَ قالبًا مَلهاويًّا يُخَلِّط المعانى ويُشوِّهها، فيجلسُ اليسارُ على أبراج الدبابات وفُوّهاتها، ثمَّ ينتقدُ الإفراطَ فى القَصف والقتل. والمُنطَلَقُ نفسُه كاريكاتورىٌّ بائس؛ إذ الغلافُ العام للتجربة مُغرِقٌ فى اليمينيَّة المُتوحِّشة، بدءًا من القُدوم لسرقة أرض الآخرين، ثمَّ حَصر الخلاف فى القَدرِ المقبول من التنكيل والفَصل العُنصرىِّ. باختصارٍ؛ كلُّ إسرائيل تُقيم فى حظيرةٍ يمينيَّة شديدة الأُصوليَّة والمُحافَظة، وما تفاوتُ الأصواتِ فيها إلَّا تنويعة على اللون الواحد، وليست أطيافًا لألوانٍ عِدَّة. وهكذا يتساوى الجنرالات مع ساسة اليمين والوسط، ومع الحركات الحقوقية والأخلاقية؛ لأنَّ البناءَ نفسَه يقومُ على حجر الإحلال والإلغاء.
تتربَّحُ تلُّ أبيب عَمليًّا من تمرير حديث الصراع فى أروقة الحكومة، ومن حَصرِ مُسبِّبات الانسداد فى نتنياهو وقبيلته. يضطلعُ هذا الخطاب بدَورٍ محورىٍّ فى لعبة توزيع المهام، وفى أنشطة الدعاية وغَسْل السُّمعة. والواقع أنَّ الخلافَ عليه داخليًّا نشأ عن نزاعاتٍ مصلحيَّة عابرة، منذ الاشتباك بشأن خطَّة الإصلاح القضائىِّ، وليس على نظرةٍ مُغايرةٍ لصلاحيَّته، أو لتمثيله المشروعَ الصهيونىَّ فى شوفينيَّته المُسيَّجة بالعنف والفرز العِرقىِّ. وأحدثُ استطلاعات الرأى تضعُه فى مُقدّمة الكُتَل لو أُجرِيَت الانتخاباتُ فورًا، بينما تتصاعدُ شعبيَّتُه مُجدَّدًا بعد اغتيال إسماعيل هنيَّة وفؤاد شكر، وإحماء الجبهة مع «محور المُمانعة» من جنوب لبنان إلى داخل طهران. يُمثِّلُ زعيمُ الليكود جوهرَ إسرائيل الراسخَ فى قَعر جُمجمة كلِّ واحدٍ منها؛ لكنه يُعبِّرُ عنه بلُغَةٍ حادّةٍ قد يختلفُ عليها بعضُ شُركاء الفكرة. الاشتباكُ هنا فى تجلّيات الصورة لا حقيقتها، واختلافُ الرؤى بشأن الصالح والأصلح لفائدة دولة اليهود النهائية. وإذا كانت تلك الحقيقةُ تُغيِّبُ كلَّ التأثيرات المُمكنة لمُهادنة الاحتلال؛ فإنها فى الوقت نفسِه لا تُبرِّرُ مُقارعتَه بخشونةٍ ظاهرة، ولا مُلاقاته على باقة أهدافه الحارقة. إذ يظلُّ الرهانُ الأخيرُ قائمًا على تفكك السرديَّة من داخلها؛ وآخر ما يُحقِّقُ ذلك أن يُتيحَ مُعارضو الصهيونية، لأسوأ مُعتنقيها، الأرضيَّةَ المُناسبة لترصيص الصفوف فى الجانب الأكثر حماوةً وتبجُّحًا من خطابها؛ لأنَّ تفاعُلات ذلك مع حركيَّة الأُصوليَّات الإسلامية فى المنطقة؛ ترفعُ منسوبَ الإجماع فى تل أبيب، وتُبطِئ فاعليَّة تناقُضاتها البينيَّة، وما يُمكن أن تُفضِى إليه مع الوقت من إزاحةٍ فى الخطاب والسلوك.
عندما نشأت دولةُ العصابات كانت تسعى لموطئِ قَدمٍ فحسب، وبأثر الإدارة الخفيفة من الحزامِ العربىِّ وقتَها توسَّعت فى الأرض والطموح. الارتدادُ الانكماشىُّ الأوَّلُ عندما اخترقت مصرُ سياجَ النار فى حرب أكتوبر، وأجبرَتْها على التراجُع فى المكان والزمان. أزمةُ الانكسار بدَّلت وعىَ الصهاينة تمامًا، لا فى الظاهر الحركىِّ الذى أنهى مسيرةَ اليسار ومَهَّد لحقبةٍ من سيادة اليمين فحسب؛ بل فى استشعارها للحاجة الماسَّة إلى تنويع الخطاب مع دول الطَّوق، وعدم التشدُّد فى اعتماد لُغَةٍ واحدةٍ لعلاقتها بالمُحيط الإقليمىِّ. وبأثر أكتوبر كانت اتفاقيّة السلام فى كامب ديفيد، بل واتّفاق وادى عربة مع الأردن لاحقًا، وربما الاتفاقات الإبراهيمية نفسها بعد خمسة عقودٍ من الحرب. أمَّا المُشكلة الراهنة فيما بعد «طوفان الأقصى»، فتتأتَّى من ارتداد الفصائل فى الزمن لخطايا التجربة الافتتاحية. كانت مُجابهة المشروع الصهيونى تحت سحابة القوميَّة ممَّا يسَّر له لَضْمُ الجبهات ببعضها والتوسُّع فيها جميعًا، وإعادةُ إنتاج المُقاومة على صِفَةٍ أُمميَّة دينيّة، لن تُنتج غيرَ نكبةٍ إضافيَّةٍ يتَّسع ميدانُها عمَّا كان فى زمن التقسيم. ونرى عَمليًّا اليومَ أنَّ نتنياهو يتحرَّشُ بمحور الممانعة فى كلِّ نطاقاته، من سوريا والعراق ولبنان واليمن، إلى قلبه فى العاصمة الإيرانية. وإذا كانت حرب 1948 بروفةً شجَّعت الصهاينةَ على العدوان الثلاثى ثمَّ نكسة يونيو؛ فالطوفان قدَّم الشرارةَ نفسَها تمهيدًا لسَحق الداخل، وتفكيك المَظلَّة الجديدة للعداء المُقدَّس. كانت القوميَّةُ فى زمنها فكرةً أُصوليَّةً ناشئةً عن إرث الإمبراطوريات الساقطة، وليست على صيغة التكامل كما فى التجربة الأُوروبية الراهنة، وتديينُ القضية مع «حماس» والممانعين أُصوليَّةٌ جديدة لا تختلفُ فى الأثر عن سابقتها. تزدهرُ إسرائيلُ فى مناخات العداوة الكُبرى، فتضربُ فى خمس جبهاتٍ وتحتلُّ عدَّةَ دُوَل؛ أمَّا عندما تتفكَّكُ الساحاتُ تصيرُ المسألةُ أعقدَ، كأن تفقِدَ سيناء وجنوبَ لبنان وتُسَالِمَ الأُردن، ولعلَّها لهذا تستميتُ فى الإخلاص لشعار «وحدة الساحات» اليومَ، بأكثر من إخلاص الشيعيَّة المُسلَّحة.
نزاعُ نتنياهو وجالانت خلافٌ فى الترتيب لا على المبدأ. الأوَّلُ يصِلُ الساحات ببعضِها ليكسِرَها دفعةً واحدة، والثانى يُريدُ استبعادَ غزَّة بعدما دُمِّرَت تمامًا؛ ليتحضَّر لبقيَّة الأطراف فى حزام المُمانعة. لقد لعب اليمينُ الصهيونىُّ لسنواتٍ على رقعة الشطرنج، من أجل إعادة ترتيب القطع بالطريقة التى تُحقِّقُ الفرزَ الكامل وتُشوِّه القضيَّة وأُصولها. البدايةُ كانت من محطَّة الانقسام، ورعاية نزوع «حماس» السُّلطَوىِّ، ثمَّ هَندسة منظومة علاقاتها لتؤول بكاملها إلى المحور الشيعىِّ. وقد تربَّحوا من إذكاء صراعات الفصائل بأكثر ممَّا تُربِّحُهم الحرب، والآنَ يقفون أمامَ السَّلّة بعدما جمعوا البيضَ كاملاً؛ ليتنازَعوا على ترتيب التكسير وإيقاعه. وما يَفوتُ الفلسطينيِّين أن ينظروا للمسألة من زاويةٍ شُموليَّة. أوسلو كانت فَخًّا كما يرى البعض، لكنها حقَّقت الوجودَ الرمزىَّ ومنحته الشرعيّة؛ حتى لو تأخَّر تجسيدُ الدولة. والأُصوليَّةُ أنجزت خطابًا مُقاومًا يتحلَّى بالمَبدئيَّة والصلابة؛ لكنها فكَّكَت البيئةَ الداخلية وأضرَّت بالتحالُفات الخارجية، لا سيّما الحاضنة القريبة. والفخرُ الدعائىُّ يُلهِبُ العاطفةَ ويُحصِّنُ حظيرةَ الداعمين؛ إنما لا يُغيِّرُ حقائقَ الأرض عن الهزائم الثقيلة والمسارات المسدودة. والحال أنَّ فلسطين فى حاجةٍ لبَعثٍ جديد؛ على ما كان فى افتتاحية مُنظَّمة التحرير دون ظِلالها القوميَّة، وما فى انتفاضة الحجارة دون نتاجِها العَقَدىِّ، وباستفادةٍ من التجربة المصرية فى تجزىء الكُلّيات والضغط على عَصَب البيئة العبرية وتناقُضاتها. لن تتبدَّل فلسفةُ إسرائيل، ولن ينحلَّ الدعمُ الغربىُّ عن رأسها، والمُمانعون يلعبون القضيَّة بين جُملة أوراقٍ، وحالما يتوصَّلون لصفقةٍ سينصرفون عنها. مُلاعبةُ العدوِّ بأدواته يتعيَّنُ ألَّا تكون خارج الخيارات، فى القوَّة والسياسة والدعاية وتثمير المَظلوميات، وفى وَضع قُواه السياسية والمجتمعية فى امتحاناتٍ بَينيَّة تُبرِز شِقاقَهم المحسوبَ، وتُرقِّيه إلى أقصاه. ربما لا يتحقَّقُ هذا بالهُدنة، وليس بانكسار «حماس» قطعًا؛ إنما بأن تعودَ خطوةً عن فردانيَّتها لصالح الإجماع، وأن تتواضع للقضية وناسِها، وتُيسِّر مهمَّة إنتاج سُلطةٍ وطنيَّة لا تُطوِّقُها التحالُفات ولا تُشقِّقُها الأطماع. العدوُّ واحدٌ بأطيافٍ مُركَّبة، والقضيَّةُ أيضًا يجبُ أن تكون واحدةً، لا قضايا عِدّة تتصارعُ فى بطن فلسطين، وتتسابق على تقطيع أوصالها مع المُتسابقين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة