تتناسلُ الحوادث من بعضِها؛ أَوَعَينا لذلك أم جهلناه. وأثرُ الفراشة الذى قد يخلقُ عاصفةً من رَفَّة جناح، يعملُ فى السياسة والتاريخ بالكيفيَّة نفسِها. يُمكن الإيغالُ كثيرًا فى مُقدِّمات الحرب العالمية الأُولى، وتَوافُر كلِّ الشروط الموضوعيَّة الكافية لإشعالها، من واقع الاختناق الدولى وقتها؛ لكنَّ الشرارةَ حملتْها رصاصةُ اغتيال ولىِّ العهد النمساوى فى سراييفو، وعلى النار ذاتِها طُبِخَت الحربُ الثانيةُ؛ بأثر ما أسفرت عنه سابقتُها فى الميدان وغُرَف التفاوض، تَغليبًا لطرفٍ وتنكيلاً بالآخر، ومنهما أُعِيْدَ تكييفُ التوازُنات بين القوى الكُبرى، ابتداءً بانحلال سطوة الإمبراطورية السوفيتية، ووصولاً إلى الولادة المُتعسِّرة حاليًا لنظامٍ أُمَمىٍّ جديد.
إنّه التتابُعُ الخَطِّى الذى يُبقِى رابطًا بين الأُمور؛ مهما تباعدتْ بها سياقاتُ الجغرافيا والزمن. وفيها قد يتساوى الخطأ اليابانىُّ باستفزاز الولايات المُتَّحدة فى بيرل هاربر قبل ثمانية عقود، مع خطيئة الأُصوليَّة الإسلامية عندما حرَّكت ذئابَها فى طائراتٍ أمريكية قبل أكثر من عقدين؛ فهَدَّمَت بُرجين فى نيويورك، وأسَّست لحقبةٍ مُغايرة من انفلات القوَّة وإعادة ترسيم الخرائط والتحالفات.
ثلاثٌ وعشرون سنةً مرَّت على الحادث وما تزال آثارُه باقيةً، ومفاعيلُه تتسلَّط على نظرة واشنطن للشرق الأوسط، وخصومتها الثقافية التى نصَّبَت الإسلامَ عدوًّا وحيدًا. لعلَّها لم تُصرِّح بالطابع الدينى للنزاع، ولا استهلكت تنظيرات هنتنجتون عن «صدام الحضارات» فى بِنية خطابها الرسمىِّ؛ لكنّها تحرَّكت طوالَ الوقت وفقًا لهذا الاعتبار. أطلَّتْ الأيديولوجيا بوجهِها الصريح حينًا، واتَّخذت صُوَرًا استعاريَّةً تنسحب على العِرق أو التشابكات الجيوسياسية أحيانًا. وحتى مع افتراض أنَّ الإدارات الأمريكية المُتعاقبة اختزنت طموحًا لاختراق الحزام الآسيوىِّ المُتاخم لروسيا، أو تصفية حسابات ما بعد غزو الكويت مع العراق، ومُعاقبة «صدَّام» على جرأته بإطلاق بضعة صواريخ باتجاه إسرائيل، أو مساعيه لترقية قُواه العسكرية وأن يكون شوكةً فى حَلق القُطب الأوحد؛ فإنَّ التَّكِئَة التى ارتقاها جورج بوش الابن كانت من رُكام مركز التجارة العالمى، ثمَّ من صياغة عقيدة سياسيَّةٍ وأمنيَّة مُنحازةٍ لإعادة هندسة الإقليم؛ وما بلادُ الرافدين إلَّا خاصرة هشّة تَقرَّر النفاذُ منها. سقطَ البعثُ؛ فانحلَّ التركيبُ الاجتماعىُّ المحكوم بقبضةٍ حديديّة، وتمدَّدت إيران، واستفحل الفِكرُ الجهادىُّ، وانتعشت الرجعيَّاتُ بامتداد المنطقة.
انفجر الربيعُ العربىُّ، وتداعت أحجارُ الدومينو من تونس لمصر وليبيا واليمن، ودُفِعَت سوريا إلى المحرقة. وما وردَ على خاطر الناظرين فى الدراما المُتسارعة؛ أنَّ المشهدَ الأوَّلَ ربما جَرَتْ وقائعُه فى كهوف «تورا بورا» أواخر السبعينيات أو مطالع الثمانينيات، وتقاسَمه جنرالٌ أمريكىٌّ مع أُصولىٍّ إسلامىٍّ مُعَمَّم.
لَعِبَت الولاياتُ المُتَّحدة على ورقة الاعتقاد فى مُواجهة الشيوعية، وبعيدًا من السياق المُبكِّر لتوظيفها فى الأحلاف والدعايات، كانت «طالبان والقاعدة» وغيرهما نتاجَ الاستثمار الأمريكىِّ فى فائض الهُويَّات الصاخبة. ومثلما استُخدِمَت الأُصوليَّةُ تجاه الآخر، جرى توظيفُها لاحقًا ضِدَّ نفسِها وحواضنها الماديّة والمعنويّة.
وعلى ثِقَل الضربة فى 11 سبتمبر، واشتداد وطأتها على الاقتصاد والسياسة وكرامة سَيِّد العالم المُنفرد؛ فإنها قدَّمَت لواشنطن هديَّةً ما كانت تحلُم بها، وإلى اليوم ما تزال تتحصَّلُ على منافعها، وتستثمرُ فى أُصولها. وبمعنىً من المعانى؛ فإنَّ حضورَها المُباشرَ فى العراق وسوريا، وابتزازَها للخليج، ورقصتَها المحسوبة مع إيران، وصولاً لتمكين إسرائيل وتقوية مراكزها الصلبة والناعمة فى مُحيطها، كُلّها من ثمار الاشتغال الطويل على بناء سَرديَّةٍ صِراعيّة بديلةٍ عن ثُنائيَّة الديمقراطية والشمولية مع السوفييت، وكلّها ممَّا أحدثَتْه هجمةُ مركز التجارة العالمىِّ.
لم يكُن طرحًا عابرًا، ولا استدعاءً خفيفًا وهَزلِيًّا كما رآه البعض. عندما وقفَ بنيامين نتنياهو أمام الكونجرس زاعمًا أنهم عاينوا تجربتَهم الخاصة مع 11 سبتمبر فى «طوفان الأقصى». لقد قالها منذ اللحظة الأُولى بعد السابع من أكتوبر، وفى ذلك فإنّه بقَدرِ ما يخلطُ الأوراقَ؛ يسيرُ على دربِ الحليف الأكبر فى تلبيس الصراعات عباءةً دينيَّة، وإخراجِها من السياسىِّ إلى الثقافى والهُويَّاتى، على صورة المُواجهة بين المَدنيَّة والبداوة، وبين التحضُّر والرجعيَّة. إنه يعرفُ تمامًا أثرَ «الثلاثاء الأسود» على الوعى الأمريكى، وأنه صار تمثيلاً عَمَلانيًّا للمُقابلة التوراتيَّة بين جيش النور وجيش الظلام، كما جاء فى نبوءة أشعياء واستشهد به زعيم الليكود أيضًا. والاستعارةُ هُنا لها وظيفةٌ مُركَّبة؛ إذ تُجَيِّشُ عواطفَ الأمريكيِّين وتُجنِّدُهم فى معركةِ الدولة الصهيونية، كما تنزعُ عن الفلسطينيِّين صِفَة الحقِّ والمشروعية، وتجعلُ من الحرب فى غزَّة صُورةً عن كل عدوانٍ أطلقته واشنطن تحت راية «الحرب الرساليَّة». ولأجل هذا؛ فإنه كان مَعنِيًّا بإخراج الحادثة من سياقها المكانىِّ الضيِّق، ومَنحِها غلافًا إقليميًّا تحكمُه الأيديولوجيا، لذا فلعلَّه أسعدُ الناس بانخراط حزب الله فى اللعبة مُبكِّرًا، وللسبب ذاته فقد جرَّب كلَّ الوسائل لاستنفار طهران وسَحبِها إلى الجبهة. إنه السَّعىُ الحثيثُ لصناعة أُمثولةٍ مُطابقةٍ لأحداث سبتمبر؛ على الأقل فى المخيال الغربى، بما يكفى لتنسيب مُغامرته للجانب الحضارى من العالم، وإلحاق «حماس» بقافلة القاعدة، وهو لم يُقصِّرُ فعلاً فيما هو أكبر؛ إذ أضافها بالتلميح والتصريح والممارسة العمليّة إلى لائحة داعش.
ما وقعَ فى 11 سبتمبر لم يكُن خَرقًا أَمنِيًّا يستدعى الردَّ العسكرىَّ فحسب، أيًّا بلغ مُستواه؛ إنما كان فاصلاً بين حقبتين من نظرة واشنطن لخصومِها فى مرحلة ما بعد الانفراد بقيادة العالم. وإذا كانت المسألةُ قد نشأت أصلاً من قلب مُؤسَّساتها العميقة، عندما انتدبت من الشرقِ ما يخدمُ أجندتَها تجاه الشيوعية، واختزلَتْ الثقافةَ الإسلاميَّةَ فى أسوأ إنتاجاتِها الحركيَّة والتنظيمية، فإنَّ تلَّ لبيب قد اعتمدت اللُعبةَ نفسَها، ولم يكُن ذلك فى سياقٍ بعيدٍ من الحادث. الفورانُ الأمريكىُّ فى أفغانستان انعكَسَتْ حرارُته على فلسطين، تصاعدت اللوثةُ الصهيونية تجاه الانتفاضة الثانية، وتلاها حصار عرفات فى المُقاطعة ثمَّ تسميمه لاحقًا، على الشائع عن وفاته المأساوية الغامضة، وبعدها أُدِيرَت مرحلةُ خلافته بما يسمحُ بشَقِّ الصفّ، واستثمر اليمينُ ونتنياهو ذاتُه فى حماس؛ لتكونَ الصِفَةُ العقائديَّةُ بديلاً عن الطابع الوطنىِّ، وامتداداتُ الحركة الخارجيةُ وسيلةً لتشويه الصراع، وتعريتِه من نكهته المحليَّة الخالصة. وإذا استوعبنا أنَّ الصهاينةَ لا يرتجلون الأحداثَ ورُدودَ الفِعل؛ فإنهم حينما عَملوا على تقوية مركز الأُصوليَّة الفلسطينية بين خليط الفصائل، كانوا فى واقع الأمرِ يُجَهِّزون الفَخَّ على أمل الاصطياد المُؤجَّل. وبصراحةٍ أكبر؛ فقد وفَّروا كلَّ الظروف الموضوعيّة لإنتاج نُسختهم الخاصة من أسامة بن لادن؛ ولعلَّهم كانوا يتصوَّرون فى عملية اغتيال إسماعيل هَنيَّة قبل شهرين تقريبًا، أنهم يفتحون الطريقَ لإنتاج الوريث الطبيعى على مسار التدرُّج الصاعد، ليصير «السنوار» هُنا مُعادِلاً للبغدادى فى الحكاية الأُمّ.
غلافُ غزَّة ليس أبراجَ نيويورك، والقضيَّةُ مع الاحتلال مُختلفةٌ تمامًا عن صِدام واشنطن بحُلفائها وأدواتها القديمة. إنما ما يسمحُ لنتنياهو وعصابتِه باستعارة جريمة سبتمبر لتوقيعِها على مُغامرة أكتوبر، أنَّ الأخيرة أُعِدَّتْ بنَفَسٍ عقائدىٍّ ظَاهر، ولم تكُن مَعزولةً عن العدوِّ الأُصولىِّ الجديد، مُمثَّلاً فى الشِّيعيَّة المُسلَّحة. ورغم كلِّ ما يُمكن أن نَسوقَه من حججٍ عن أسباب الانسداد، ويأسِ الفلسطينيين بعدما تقطَّعت بهم سُبلُ السياسة والقانون؛ فإنَّ الآخرَ المُتسلِّطَ على فضاء الصراع استطاع تكييف سَرديَّته كما يُحب، وأقنعَ بها الرُّعاةَ الغربيِّين، وهى وإن لم تظهر فى خطابهم المُعلَن؛ فإنها تبدو حاكمةً لأفكارهم ومُمارساتهم. لقد توافَقَتْ واشنطن مع تلِّ أبيب منذ اللحظة الافتتاحيّة على وُجوبيَّة الحرب، ومَشروعيَّة النداء بإفناء حماس، وهذا ممَّا لا ينسجمُ مع أىِّ تصوُّرٍ يضعُ المسألةَ فى سياقِها الطبيعىِّ، بوَصفِها نِزاعًا بين مُحتَلٍّ ومُقاوِم؛ وعليه فإنَّ كلَّ ما تَرشَّح عن مواقف الإدارة الأمريكية لاحقًا، يشى بأنها تتعاطى مع غزَّة مثلما تعاطت مع كابل والرقّة والموصل، حتى فى مُقاربتها لموضوع الهُدنة الإنسانيّة أو التهدئة الدائمة؛ فإنها تنطلقُ من موقفٍ راديكالىٍّ يُعاقِب القطاعَ بجَريرة الحركة، ويترُكُ المُستقبلَ غامضًا لتحكُمَه الترتيباتُ التى يُقرُّها زعيمُ الليكود وطبقتُه المُتطرِّفة، دون تسويةٍ ناضجةٍ تُعيدُ وَصلَ المُنقطع فى الجُغرافيا، وتنتدبُ السُّلطة الوطنيَّة لمَوقعها الطبيعىِّ والشرعىِّ من السياسة. أى أنها لم تتجاوز وَعيَها العتيقَ فيما يخصُّ تصفية النزاعات الصاخبة؛ حتى بعدما تأكَّدت خِفَّتُه بالرحيل المُتعَجّل عن أفغانستان، وتسليمها لطالبان من جديد.
خاض الجُمهوريِّون حربَهم على الأُصوليَّة الإسلامية دونَ تفرقةٍ فى المذاهب؛ لكنَّ أوباما أعادَ بناء الاستراتيجية الأمريكية بصورةٍ تُهادِنُ التشيُّع، وتختزلُ المخاطرَ كُلَّها فى الطَّيف السُّنِّى حَصرًا؛ دون إغفال التناقُض فى استخدام الإخوان سياسيًّا. هكذا سَمحَ بتمكين إيران من العراق وسوريا، وصَمَتَ على تغلغُلِها فى اليمن وإمساكِها بخِناق لبنان، بل تمادى لتوقيع الاتِّفاق النووىِّ بكُلِّ ما فيه من مآخذ، ضَغَطَتْ على أعصاب الخليج ومَكَّنت طهران بأكثر ممَّا كانت عليه. أمَّا الصهاينةُ فقد استوعبوا هذا التفاوتَ فى رحلتهم لإنتاج نُسختهم الخاصّة من 11 سبتمبر، وإذا كانوا يُحاربون «حماس» جنوبًا على ما يُفضِّل الديمقراطيون فى عداوتهم؛ فقد فتحوا جبهةً شَمالِيَّةً مع الحزب وجمهورية الملالى بما يُناسِبُ ترامب وميوله، فى حال أنه اقتنص بطاقةَ العبور إلى البيت الأبيض بعد شهرين. لقد أَضَرَّ محورُ المُمانعة بفلسطين وفصائلِها الفاعلة من زاويتين: الأُولى أنّه لم يكُن الحليفَ الصُّلبَ والمُخلِصَ كما يزعُم، والثانيةُ أنه جعلَ القضيَّة هدفًا للتصويب الدائم، من المحافظين والتقدُّميِّين، وبحسابات الداخل والخارج على السواء، وطالما ظَلَّت الأجندةُ الشِّيعيَّةُ نَشِطَةً فى ساحات الإقليم؛ فإنَّ الجبهةَ الفلسطينية ستظلُّ فى مرمى النار، أكان بمُقامرةٍ من «السنوار» كما فى الطوفان، أم بمُبادرةٍ من «نتنياهو» لتوحيد الساحات، وهو شعارُ المُمانعين الذى تخلَّوا عنه خارج الدعايات العاطفية، ويُطبِّقُه الصهاينةُ عَمليًّا فى ميادين القتال.
الظاهرُ أنَّ خطَّة إسرائيل لاستفزاز إيران فشلَتْ تمامًا؛ لكنَّ الواقعَ أنَّ غزَّة سَدَّدت فاتورتَها كاملةً، بالإبادة ثمَّ بالوَصْم والتعرية من قُوَّة السلاح أو قُوَّة الشرعيَّة والقانون. وما يحدثُ اليومَ أنَّ المحورَ الشِّيعىَّ يرتدُّ على عقبيه، بعيدًا من صَخَب حسن نصر الله الذى يُنجِزُ فى الخُطَب الشعبويَّة أضعافَ ما يُحقِّقُ على الأرض. ومُؤخَّرًا قال المُرشدُ الإيرانىُّ صراحةً إنه «لا ضيرَ فى التراجُع التكتيكىِّ أمام العدوِّ عسكريًّا أو سياسيًّا»، وهو القائلُ قبل أيَّامٍ قلائل إنَّ المعركةَ بين الجبهتين الحُسينيَّة واليَزيديَّة دائمةٌ ولا نهايةَ لها، وهكذا ننتقلُ من الصبر الاستراتيجىِّ تجاه الغطرسة الصهيونية، إلى الانسحاب وإخلاء طريقها، ما يعنى مزيدًا من التنكيل بالمنكوبين بعدما استبدَّتْ بهم دعاياتُ العَمائم السوداء. وإذا كانت طهران تتمسَّكُ بأُصولها فى العراق وسوريا واليمن ولبنان؛ فالمعنى المُباشر أنَّ التنسيب إلى «يزيد» ينسحِبُ على العرب، لا الصهاينة ولا الأمريكيين، وأنَّ المُهادنةَ التى تمنحُها صِفَةَ التكتيك من قبيل المُواراة والتجميل، ستكون فى غزَّة حَصرًا؛ فكأنَّ القطاعَ بعدما اعتُمِدَ «رأسَ حربةٍ» للمحور فى نُسخةٍ مُحدَّثة من 11 سبتمبر، يُترَكُ فريسةً كاملةً لعَدوِّه، وقد أسفرت التجربةُ عن تفاهُماتٍ بين الشيطان الأكبر والثورة الإسلاميّة، وعن قرارٍ من الأخيرة بإرجاء معاركها المُقدَّسة، فى انتظار فُرصةٍ أُخرى، وبحثًا عن حَطبٍ جديدٍ ينوبُ عنها فى المحرقة.
إنْ صَحَّ أننا ذاهبون لنُسخةٍ مُطابقة لِمَا بعد سبتمبر؛ فإنَّ السيناريوهات المُستقبليَّة المُحتمَلة قد لا تكون وَردِيَّةً على الإطلاق. الفارقُ الكبير أنَّ إسرائيل تنجرفُ بكلِّ قوَّةٍ ناحيةَ لونٍ واحد من اليمين، ولن تشهدَ لُعبةَ «كراسى موسيقيّة» بين طيفين سياسِيَّيْن كما فى واشنطن. أى أنَّ المرحلةَ المُقبلةَ ستكونُ أقربَ لصراعٍ مع الأُصوليَّة الإسلامية من وجهة نظر الجمهوريِّين حَصرًا؛ باعتبارهم المُعادِلَ الأقربَ للحظيرة القوميَّة والتوراتية فى تل أبيب. وهذا التصوُّر إنما يقودُ لتَوسِعَة الحروب لا احتوائها، وفَتحِ الجبهات على بعضِها بدلاً من تجزئة المعركة الكُبرى إلى معاركَ طَرَفِيَّةٍ صغيرة. هكذا يصحُّ القولُ إنَّ لبنانَ مُقبلٌ بالضرورة على صِدامٍ مع دولة الاحتلال، ولن تتوقَّف مُحاولات استنفار رأس المحور المُمانع واستدعائه لحَلبة النِّزال، وقد يتطوَّرُ الأمرُ إلى التحرُّش بالبيئات الإقليمية الآمنة، بالتعدِّى المُباشر أو بالتهييج العاطفىِّ؛ لا سيَّما مع استمرار التصعيد فى الضفَّة بما يُكثِّفُ الضغطَ على الحدود الأُردنيّة الطويلة. إنه مخاضٌ أشبَه بما عاشته المنطقةُ قبلَ عقدين، وإذا كانت قد خرجت منه بجَسَدٍ مُثخَنٍ وعِدَّةِ أطرافٍ مَبتورة، فربما لا تقلُّ الكُلفة فى التجربة الجديدة عمَّا كانت عليه فى سابقتها؛ بل يُخشَى تضاعُفُها أصلاً لأنها تنطلقُ من أرضيَّةٍ سائلة، وفى مرحلةٍ تقلَّصت فيها المَناعةُ إلى الحدِّ الذى لا يسمحُ بالتشافى، ولا يمنعُ انتقالَ العدوى.
الصِّفَة الكَونيَّة للجولة طلبَتْها الفصائلُ مثلما يطلبُها الاحتلال. لقد استعارت «حماس» خطاب الفُسطاطين المُغلَقين، ووصَّفَت طوفانَها بما يجعله خطوةً أُولى على طريق الحسم النهائى، وفى مفهومِها الاعتقادىِّ والسياسى يعنى ذلك إلقاءَ إسرائيل فى البحر، ثمَّ نادَتْ من اليوم الأوَّل بالتحاق بقيَّة الجبهات بالحرب، وسَعَت لتأجيج الحواضر العربية المُحيطة بالدعاية أو العمل النظامى المُباشر، وقد سجَّلت عَمّان واقعةً أمنيَّة فى هذا السياق. والحال أنَّ أثمَنَ ما يُقدَّمُ لليمين الصهيونىِّ فى تلك الجولة وغيرها، أن تُنَحَّى فلسطينُ جانبًا لصالح اختزالٍ عقائدىٍّ عابرٍ للحدود، وعلى الفصائل ومَنْ يرعونَهم من الخارج أن يستوعبوا المأساةَ التى يُخلِّقونها بعنجهيَّةٍ واستكبار، ويحشرون فيها القضيَّةَ بقَضِّها وقضيضها، وسلسالها النضالىِّ السابق على موجةِ الصحوة واحتدام الأُصوليَّات، والذى لا سبيلَ الآن أو فى المستقبل إلَّا بالعودة إليه، خالصًا من الحُمولات النصيَّة والتاريخية، وصافيًا من الاستتباع والتوظيف الحارق للقرآن فى مُقابلة التوراة.
حتى اللحظة، يبدو أنَّ نتنياهو نجح فى دَفعِ التقويم شهرًا للوراء؛ حتى ليَتَشبَّه السابعُ من أكتوبر فى الذاكرة الأنجلوساكسونية بالحادى عشر من سبتمبر؛ إنما يظلُّ طريقُ العودة مفتوحًا؛ لو أفاق المَعنيِّون واستوعبوا الدروسَ والمخاطر، وأُولى خُطاه تصفيةُ الخطاب من النكهة الأُصوليَّة فى مستويين: الطابع الدينىِّ لأجندة حماس، والتحاقها المُفرِط بالشيعيَّة المُسلَّحة؛ ثمَّ أن تُبعَثَ مُنظَّمة التحرير على ميثاقيَّةٍ مُحدَّثة؛ لتتولّى تصفيةَ التركة وتجفيف مُستنقع الدعايات، وإعادة تسييج فلسطين بخطابها الوطنىِّ حصرًا، وحتى لو فُهِمَ ذلك على معنى الهزيمة الحماسيَّة؛ فالفارقُ عريضٌ بين الاستدراك والانكسار، وبين الانسحاب الناعم والطَّرد الخَشِن من الميدان. تحييدُ المَرجعيَّة الدينية عن احتكار مُدوَّنة المُقاومة سيكنِسُ كثيرًا من التشابُه بين الحدثين، والنأىُ عن دائرة التقاطُعات الإقليمية المُمانعة سيحرِمُ نتنياهو من تلفيق المُقابلة المزعومة بين الغرب والشرق/ التحضُّر المسيحىِّ والرَّجعيَّة الإسلامية. إنها حروبُ الوعى والسرديَّات أوَّلاً وأخيرًا؛ تتجسَّدُ على الأرض بين وقتٍ وآخر، لكنها قائمةٌ فى الثقافة والذاكرة دائمًا، وبينما لا يحسمُها السلاحُ؛ فإنَّ الإقامةَ فى الماضى وتكرارَ الأخطاء وإعادةَ إنتاج الإخفاقات الكُبرى، تتضافرُ معًا فى كلِّ جولةٍ؛ لتزيدها اشتعالاً عن الجولة السابقة.