«أريد أن أقرأ فى التاريخ، لكننى لا أعرف كيف أفعل ذلك، وما الذى ينبغى أن أراعيه فى قراءته؟ وكيف أتعامل مع تناقض واختلاف بعض رواياته؟ وهل سأستفيد أصلا من قراءة التاريخ؟».
كثيرا ما تطرح على هذه الأسئلة، سواء من قراء كتاباتى أو متابعى برنامجى أو حتى المتابعين لى على مواقع التواصل الاجتماعى، والمفرح أن أكثر أصحاب الأسئلة من الشباب حديث السن.
أحب دائما أن أبدأ بالإجابة عن سؤال «ما فائدة قراءة التاريخ؟»، فإدراك السائل تلك الفائدة هو ما سيشجعه على الإصغاء لباقى الإجابات واستيعابها.
الإنسان كائن تاريخى بطبيعته، فعلى حد علمى لا يوجد كائن آخر لديه نفس درجة الحرص على الاحتفاظ بخبراته وتجاربه - من مرحلة الرسم على جدران الكهوف ثم التناقل الشفهى ثم التدوين، فتسجيل الخبرات بوسائل التسجيل المتنوعة التى أنتجها التقدم العلمى - ونقلها للأجيال التالية التى تحرص بدورها على النظر فى تلك التجارب والخبرات وتحايلها ومحاولة تطويرها وتكييفها مع متغيرات العصر.. وهكذا.
حاول الإنسان، عبر رحلته الطويلة مع الحضارة، أن يضع تعريفا صريحا أو ضمنيا للتاريخ يعكس أهميته له، من ملوك حضارات الشرق القديم - مثل مصر والعراق - الذين حرصوا على تسجيل أعمالهم وإنجازاتهم لتخليد ذكراهم، وكتاب سير الشخصيات العظيمة لأديانهم - كالأنبياء والقديسين والصالحين فى المسيحية والإسلام - الذين أرادوا تقديم نماذج دينية يرون أنها تستحق أن تحتذى من المؤمنين لتيسر وصولهم للصلاح الدنيوى والخلاص الآخروى، أو من اعتنوا بسير القادة العظماء والانتصارات المجيدة لتوظيفها فى حشد الجماهير وبث الحماس فيها - كما كان يقول ويفعل الخطيب الرومانى شيشرون - أو من أرادوا إثبات رفعة شأن قبائلهم وإثبات قوة شوكتها - كنسابة وشعراء العرب قبل الإسلام - أو من سعوا لجعل التاريخ يتمحور حول قوميتهم لإثبات قضية خاصة، كالقراءة اليهودية القديمة للتاريخ.
لكن علم التاريخ مدين للرحالة والمؤرخ الإغريقى هيرودوت 484 ق.م - 425 ق.م الذى قدم المحاولة الأولى لعرض التاريخ بشكل موضوعى مجرد مما كان يشوبه من أساطير، كبداية لأن يأخذ التاريخ تدريجيا شكل العلم.
فى رأيى أن خير من قدم تعريفا دقيقا للتاريخ هو المؤرخ والفقيه ومؤسس علم الاجتماع العلامة عبدالرحمن بن خلدون 1332م - 1406م فى مقدمة كتابه «العبر وديوان المبتدأ والخبر» المعروفة منفصلة بـ«مقدمة ابن خلدون»، عندما قال عن علم التاريخ:
«أعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين فى الأمم فى أخلاقهم، والأنبياء فى سيرهم، والملوك فى دولتهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء فى ذلك لمن يرومه فى أحوال الدين والدنيا، فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكبان به عن المزلات والمغالط».
ويقول كذلك:
«التاريخ فى باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل فى الحكمة عريق، وجدير أن يعد فى علومها وخليق يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم فى أخلاقهم، والأنبياء فى سيرهم، والملوك فى دولهم وسياستهم».
اسمحوا لى أن أبسط قول العلامة ابن خلدون، فأفسره لكم أن التاريخ فائدته هى توظيف المعرفة والتحليل والفهم لأحداث الماضى، لنستطيع فهم وتحليل الأحداث المعاصرة فى الحاضر، ولمكتسب القدرة على استقراء المستقبل ومحاولة توقعه والاستعداد له.
وهو شىء نمارسه فى حياتنا اليومية بالفعل، فأغلب قراراتنا- سواء على المدى القصير أو البعيد- تكون بناء على اطلاعنا على تجارب سابقة لآخرين، أو حتى تجاربنا الشخصية، وبناء على تلك التجارب والخبرات نتخذ قراراتنا من أبسطها- كاختيار الطريق أو المواصلات المناسبة لسفر أو مشوار قريب- إلى أكثرها خطورة، كاختيار تخصص دراسى أو عملى أو تأسيس مشروع تجارى..
«ولكن كيف نقرأه؟ وكيف نتعامل مع تناقض وتعارض الروايات؟».
الحقيقة أن مسألة التعارض والتناقض كثيرا ما تؤدى بالبعض لعدم الاطمئنان لقراءة التاريخ، وبالتالى الإحجام عنها.
دعونى أقول لكم إن التناقضات والتعارضات هى أمور طبيعية جدا، فنحن حين نصف التاريخ بأنه من العلوم الإنسانية، فإن ذلك ليس فقط لأن بطله الأساسى هو الإنسان، وإنما أيضا لأن هذا الإنسان، بكل ما فيه من تقلبات وانفعالات وانحيازات وتأثر بالأحوال والنشأة والظروف المحيطة واختلاف لزوايا النظر لها، هو من يكتبه ويحلله ويقرأه.. ولأن بنى الإنسان يختلفون فى رؤيتهم وقراءتهم لنفس المشهد، فمن الطبيعى أن تختلف طرق تناولهم له.
سأضرب لكم مثلا: فى طفولتى كنت أمارس مع زملاء الدراسة لعبة أجنبية تحمل اسم «Téléphone cassée/ الهاتف المكسور» فكنا نجلس متحاورين فى صف طويل، ويهمس أولنا لثانينا بقصة قصيرة جدا، فينقلها الثانى للثالث همسا فى أذنه، وهكذا تباعا، ثم نطلب من آخرنا أن يقول بصوت مرتفع ما الذى بلغه من القصة؟ ودائما كنا نجد اختلافات تتفاوت فى كثرتها أو قلتها فى تفاصيل القصة، بل ربما كنا نسمع من زميلنا الأخير قصة مختلفة تماما عن تلك التى قالها الأول!
هل يعنى هذا أن أحد زملاء الصف أو بعضهم قد كذب؟ ليس بالضرورة، وإنما تأثرت القصة بإدراك وفهم بعضنا لها، كل حسب تفكيره وزاوية نظره للأمور.
لهذا أنبه دائما المقبلين على قراءة التاريخ أن يراعوا بعض الأمور، فأولا التاريخ يشبه لعبة «puzzle- تركيب الصور المفككة»، فلا تتعامل مع أحد مصادره باعتباره يملك كل الحقيقة المطلقة - فلا أحد يملكها فى الواقع - بل انظر فى مختلف المصادر وعاملها معاملة القاضى لأوراق القضية، بتحليل واستعراض الروايات وإعمال العقل فيها، لتصل لتكوين صورتك وقناعتك الخاصة عما وقع بالفعل.
ثانيا، فإن الإلمام بخلفية المصدر/المؤرخ هو أمر بالغ الأهمية، فشخصية المؤرخ وخلفيته الفكرية والعلمية، وموقعه من الأحداث لا بد أن يكون له تأثير فى تناوله الواقعة، فالمقريزى مثلا- من العصر المملوكى - كان قد تولى وظيفة المحتسب - أى القائم بمراقبة الأسواق والخدمات وقوانين الأعمال والآداب العامة - مما يعنى أن له خبرة عملية وعلمية بأحوال وتغيرات الحياة الاقتصادية، فهذا يعطى تاريخه لموجات الغلاء قيمة كبيرة، وتلميذه ابن تغرى بردى كان لصيقا بدوائر الحكم المملوكى، فهو أكثر اطلاعا على كواليس صراعات السلطة.. وهكذا.
ثالثا، فإن ثمة مسألة يختلط فيها الأمر على القارئ، هى التمييز بين «الحياد» من ناحية و«الموضوعية » من ناحية أخرى.
بصراحة أنا لا أؤمن بـ«الحياد»، فالمؤرخ أو الباحث فى التاريخ إن استعرض القراءات والآراء فرجح بعضها فقد إنحاز، وإن قدم رأيا جديدا فقد خلق انحيازا، ولا بأس بذلك.. وأما «الموضوعية» فهى ألا يكون انحيازه لرأى أو إتيانه رأيا جديدا عن مخالفة لضوابط الأمانة العلمية أو عن إرضاء لحكم مسبق أو هوى فى نفسه أو مجاملة ومحاباة لهذا أو ذلك أو انتقاء لمعطيات دون الأخرى ليصل لنتيجة معدة مسبقا.
وهذا ما أنصح به قارئ التاريخ، أن ينتبه لأن التاريخ ليس المطلوب منه أن يجامل أحدا، فلا يقع القارئ فى خطأ البعض ممن يكونوا فكرة جاهزة عن حالة تاريخية وينتقون فقط ما يخدم ويؤكد تلك الفكرة.. فهؤلاء «يخادعون أنفسهم»، فراقب نفسك جيدا، وكلما استشعرت أنك تحوم حول ذلك الخطأ، ذكّر نفسك بسبب اتجاهك لقراءة التاريخ وبالفائدة المنتظرة من قراءته جيدا.