تظل الانتخابات الأمريكية محط اهتمام العالم، حتى لو كانت الولايات المتحدة تسحب نفسها من العالم لتبقى جزءا من تحولات تتفاعل خلال عقود، ربما تكون الحرب فى غزة هذه المرة، هى الأولى التى يعجز الرئيس الأمريكى عن التدخل فيها، أو السعى لإيقافها، بل إن الرئيس الأمريكى جو بايدن تقدم بمشروع يتضمن اقتراحات إسرائيلية لمجلس الأمن وصدر القرار، لكن إسرائيل رفضت تنفيذه منذ نهاية يونيو الماضى.
وظهر الخلاف العلنى بين رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، وإدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن، وهو سابقة فى سجل العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، خاصة مع كل ما قدمته الولايات المتحدة ولولاه ما استطاع الاحتلال مواصلة حربه كل هذه الشهور، ومع هذا فقد استمر بايدن ومن خلفه كامالا «نائب الرئيس»، فى تأكيد دعمهما لأمن إسرائيل، ومع هذا تبقى الحرب واحتمالات اتساع الصراع علامات على غياب تصور أمريكى للسياسة الخارجية.
وحتى اتساع دائرة الصراع، فإنه توقف ليس فقط لمساع أمريكية ولكن بجهد إقليمى، وأيضا رغبة إيران فى عدم الدخول فى حرب تكون الولايات المتحدة طرفا فيها، فقد كان تحرك الأساطيل الأمريكية إلى المنطقة علامة على وجود الولايات المتحدة طرفا فى الصراع، مثلما كانت فى حرب روسيا وأوكرانيا، حيث كانت الولايات المتحدة طرفا ظاهرا، بل رأينا هى من جر أوروبا إلى صراع أثر وما زال على العالم كله.
وخلال المناظرة الأخيرة بين كامالا هاريس ودونالد ترامب، لم يكن لدى أى من الطرفين تصور للموقف من الحرب فى غزة، فقط قال ترامب إنه لو كان رئيسا ما اشتعلت الحرب، وقالت كامالا إنها تدعم أمن إسرائيل، فيما بدا نوعا من السباق بين الجمهوريين والديمقراطيين لتأكيد دعم إسرائيل، وليس هناك أى تصور لإحلال سلام، أو السير لإنهاء الصراع، وهو ما قد يعنى عدم الرهان من الجانب الفلسطينى على تغيير ما فى السياسة الأمريكية، والسعى لبناء مواقف تقوم على وحدة الفلسطينيين والكفاح طويل النفس سياسيا.
وقد كشفت مناظرة ترامب وكامالا عن تراجع واضح فى اهتمام الولايات المتحدة بدورها كقوة فاعلة، بعد الانسحاب من مناطق الغليان، وعدم وجود أى نية للاعتذار عن سياسات أدت إلى اتساع الإرهاب وانتشار الصراعات فى العالم وحتى على بوابات أوروبا، بل إن الولايات المتحدة ليس لديها توجه لمعالجة قضايا تغير المناخ، أو التعاون فى ملفات التهديدات المتنوعة للعالم من قبل تقلبات المناخ وغيرها.
والواقع أن تراجع الدور الأمريكى يظهر خلال عقدين على الأقل، خاصة أن التحولات والتفاعلات لم تتوقف فى السياسة الدولية منذ نهاية الحرب الباردة، تسعينيات القرن العشرين، وهى تحولات ترتبط بالمصالح والمنافسات الاقتصادية والتجارية، وتضع الدول الكبرى فى حالة دفاع وهجوم متبادل، ما يجعلها أكثر انشغالا بمصالحها واستراتيجياتها عن أى تدخل آخر فى القضايا الإقليمية، وهو وضع يحتم على التجمعات الإقليمية أن تسعى لتقوية وجودها وقرارها حتى يمكنها حل أزماتها أو مواجهة مصائرها من دون انتظار لقوى دولية تركز على مصالحها، وتسعى لحسم الصراعات والحروب الباردة.
فى فبراير المقبل تكمل الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثالث، وهى أكبر من أن تكون حربا ثنائية، وأقرب إلى إعادة ترتيب أوراق النفوذ، انتهت الحرب الباردة الأيديولوجية لكنها لم تنته على مستوى ترتيبات النفوذ والتنافس.. الصين بصعودها لا تزال تمثل منافسا قويا، يسعى ترامب لمواجهته، بينما أعلن بايدن عن احتواء الصين، وهو أمر لم يحدث، بل إن الصين كانت الطرف الذى قدم مبادرة لوقف وإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، بعد مرور العام الأول من الحرب، دعت الصين المجتمع الدولى لتسهيل هذه المفاوضات وتهيئة البيئة المناسبة لنجاحها، ورفض استخدام الأسلحة النووية أو التلويح باستخدامها، والتركيز على الجانب الإنسانى وضرورة حماية المدنيين، ودعم إدخال المساعدات الغذائية اللازمة إلى مناطق الصراع، والتركيز على تحييد الاقتصاد وعدم استخدامه أداة فى الحرب، ودعت المبادرة إلى احترام اتفاق تصدير الحبوب وعدم استخدام سلاح الطاقة ورفض فكرة العقوبات الاقتصادية التى تؤثر فى المدنيين.
الصين أيضا تحرص على بناء علاقات اقتصادية مع القوى الفاعلة بالعالم، وأيضا الإقليم، وتدخلت بين المملكة العربية السعودية وإيران، أو السعى لإقامة تحالفات اقتصادية تعالج اختلالات النظام القائم، مثلما جرى فى توسيع تجمع بريكس، وغيرها من التكتلات التى تمثل ردود أفعال ومحاولات لمعالجة خلل قائم، وتضع نظاما أكثر توازنا، وتعبيرا عن تحولات القوة والنفوذ فى السياسة والاقتصاد.