تأتي أهمية بناء مجتمع المعرفة باعتباره ضرورة تفرض نفسها في اللحظة الراهنة في المجتمعات العربية لتحديد وضع الدول من النجاح أو الفشل في مدى تحول المعرفة بمكوناتها العلم والتكنولوجيا وتطبيقاتهما الفعلية إلى نمط جديد يصبح معه تحصيل المعرفة ضرورة حياتية متجددة باستمرار تواكب إمكانات التقدم والتنمية المستدامة التي يطرحها الانتقال إلى مجتمع المعرفة وتستدعي بالتبعية مقاربات مجتمعية جديدة ومبتكرة.
لذلك فهناك العديد من التحديات التي يطرحها مجتمع المعرفة على العرب لا ينبغي اختزالها في مجرد السعي نحو تحديث مجالي التعليم والبحث العلمي، بل تتخطاها إلى إعادة تنظيم حياة الأفراد وقطاعات المجتمع ككل لتعبر عن مركزية العلم والتكنولوجيا وتطبيقاتهما الفعلية في الحياة المعاصرة والبحث في تدابير فعالة لدفع المجتمعات العربية تدريجياً نحو عصرنة شاملة تتعامل مع مجتمع المعرفة كمنظومة كاملة لا تقتصر على الجامعات ومراكز الأبحاث، بل تطال الاقتصاد والسياسة والثقافة وغيرها.
عرَّف مجتمع المعرفة (تقرير برنامج الأُمَم المُتَّحِدة الإنمائيّ) على أنّه: "ذلك المجتمع الذي يقوم أساساً على نشر المعرفة، وإنتاجها، وتوظيفها بكفاءة في جميع مجالات النشاط المجتمعيّ: الاقتصاد، والمجتمع المدنيّ، والسياسة، والحياة الخاصّة، وصولاً لترقية الحالة الإنسانيّة وهو ما يحمل ربط صريح بين مجتمع المعرفة كشرط رئيسي لإقامة التنمية الانسانية.
وهنا تتولد الحاجة الي إنشاء نموذج معرفيّ عامّ، بحيث يكون مُنفتحاً، ومُستنيراً، وأصيلاً مع الاهتمام ببناء المقدرة الذاتيّة على البحث، والتطوير التكنولوجيّ في الأنشطة المجتمعيّة جميعها، وتوطين العلم وتشخيص التحديات التي تواجهه عملية بناء الانسان العربي المُستندة على إقامة مجتمع معرفة حديث يأخذ بنظر الاعتبار التحولات العالمية في المجالات كافة.
أن إنتاج المعرفة وامتلاك المعلومة وحسن استثمار الرصيد الثقافي والحضاري من أهم مقومات الانخراط في مجتمع المعرفة، الذي يعتبر بدوره ركنا أساسيا لتحقيق شروط التنمية الانسانية.
وكي نرسم خريطة لأبعاد هذا النموذج المعرفي المأمول لمجتمع المعرفة الذي نحلم به جميعا لمجتمعنا العربي، يجب أن نعترف أن هناك عددا من المكونات التي يجب العمل على بنائها وتعزيزها لبناء هذا النموذج، وفي مقدمتها اللغة العربيّة باعتبارها بوّابة الإنسان العربيّ لاقتحام مجتمع المعرفة في تصالح واع بين هويّته وبين الانفتاح على المعرفة الإنسانيّة الشّاملة وللنّهوض باللّغة العربيّة لا بدّ من ترقيتها بمبادرات عمليّة من قبيل إحياء حركة التّرجمة وتعميمها على سائر المعارف واستثمار اللغة العربيّة في نقل التّكنولوجيا واستعمالها في البحث العلمي من خلال إثراء المحتوي الرقمي العربي.
وقد ظلت الترجمة بوابة عبور إلى كل الضفاف الغريبة، كفعل ثقافي يقتضي من المترجمين العرب العمل بجدية أكثر على نقل الأعمال الأدبية العربية إلى اللغات الحية من أجل نشرها والتعريف بمجتمعنا العربي بصورة مميزة وواعيةً دون المساس بمنظومة القيم الأخلاقية للمجتمع العربي.
كذلك فإن من أكبر العقبات التي تواجه بناء مجتمع المعرفة العربي، غياب المنهج العلمي النقدي في قراءة التاريخ وتدوينه، وتداول القراءات الناقصة للتاريخ لذلك تأتي أهمية نشر وترسيخ المعرفة التاريخية، التي تهدف إلى تعميم وإشاعة الوعي التاريخي، الذي يؤدي بالنتيجة إلى تصحيح مسارات الثقافة بكل أبعادها السلوكية والإبداعية والمجتمعية وتشجع كسب المعرفة ونشر الحريات الاكاديمية وربط الدراسات الاكاديمية في العلوم الانسانية لاسيما علم التاريخ والاثار بالتطورات العلمية الحاصلة من اجل الابداع والابتكار، وهذا يستلزم التركيز على الطرق التي تساعد الدراسات التاريخية لمواكبة التحول الرقمي الهائل في ظل الثورة التقنية الحديثة، عبر تسخير مختلف التقنيات للوصول إلى الهدف الاسمى المتمثل بمجتمع معرفي حر يلبي طموحات المجتمع العربي.
كذلك يجب حث المنظومات التربوية في العالم العربي على الاضطلاع بوظائفها والحرص على بناء مجتمع مواكب لتطورات العصر دون اغفال المواطنة العربية من خلال التنشـئة الاجتماعية الجيدة والتربيـة الصحيحة وتحديث وإعادة هيكلة وبناء بعض الأساليب والمناهج بهدف إغناء الخبرة التربوية، وذلك بالبحث في مناهج تعليمية متطورة في جميع المواد الدراسية وتستجيب للاتجاهات المعاصرة.
ومن اهم ما يجب العمل عليه في السعي لبناء مجتمع المعرفة هو التربية على القيم كمدخل من مداخل تقدم المنظومات التربوية والارتقاء بجودة التعليم، وللنهوض بهذه المنظومات التربوية لا بد من الانفتاح على المقاربات العالمية والمساهمة في بناء فكر قوي منفتح على الآخر وقائم على المبادئ والقيم العربية والإنسانية.مع تعزيز واحترام الإنسان العربي وحقوقه القانونية والسياسية وحريته الفكرية وحرية التنقل العربي بما يعزز مكانة الإنسان العربي والمشاركة السياسية ونشر الاندماج الاجتماعي في البلدان العربية والشعور بالانتماء الوطني والقومي والعربي.
كذلك يجب الاهتمام بتجديد الخطاب الديني كعملية أصيلة في التاريخ والتشريع الإسلامي والتحصين الفكري المبكر للشباب، وذلك لغرس القيم والأفكار والأخلاق الدينية الأصيلة، مما يحول دون وقوع الشباب ضحية للأفكار المتطرفة.
والتحول الى اقتصاد المعرفة كأولوية للدخول في إطار الثورة الصناعية
من خلال رفع الإدراك والوعي بأهميّة الاقتصاد المعرفي على مستوى الأفراد والمؤسّسات وأثره في تحقيق الرفاهيّة الاقتصاديّة والمادّيّة الحديثة. والاهتمام الواسع بالبحوث والتطوير بما يعمل على استغلال المعارف العالمية وتنمية القدرات الابتكارية والتكنولوجية المحلية، مع ضرورة إنشاء مؤسسات تختص بتبنى الأفكار الجديدة وتطويرها حتى تصل لمرحلة التطبيق الفعلي والعمل على توفير بيئة ممّكنة للتحول الهيكلي نحو اقتصاد المعرفة على صعيد سياسات الاقتصاد الكلي وبيئة الأعمال وأسواق العمل والمنتجات والتمويل، من خلال: السياسات الاستثمارية والمالية و النقدية … وغيرها.
ويحتاج بناء مجتمع المعرفة الي العمل على إبراز أهمية ودور الثقافة، بمختلف تجلياتها، واعتبارها ضرورة أساسية وملحة في سبيل بناء مجتمع المعرفة على اسس متينة ومحصنة ضد عمليات التشويه والتزييف والتفاهة والتسويق الاستهلاكي التي تهيمن في المجتمعات العربية. واستحضار الأبعاد القيمية والثقافية المرتكزة على مبادئ المعرفة والوعي، والمحفزة على الإبداع والابتكار، مع إفساح المجال للمثقفين العرب المخلصين والمؤمنين بقضايا المعرفة والتجديد، بالإضافة إلى الاهتمام بدور وفعالية الشباب العربي من خلال احتضانهم وتشجيعهم قصد إبراز طاقاتهم ومواهبهم والمساهمة في بناء مجتمع معرفي عربي.
واكتساب المهارات الرقمية والتقنيات الحديثة والابداع في الحث على مجالات الاختراعات وتصنيع البرامج، فضلاً عن تقديم برامج توعوية مخططة ومتنوعة ومستمرة تسهم في تحقيق الاستخدام الإيجابي والآمن لشبكة الإنترنت والتقنيات الرقمية في المجتمعات العربية.
وهنا يأتي أهمية دعوة وسائل الاعلام العربية الي ضرورة الاهتمام بتقديم أبعاد مجتمع المعرفة المختلفة من أجل تعزيز أهداف التنمية الانسانية وذلك من خلال استخدام كافة الوسائط الإعلامية والاستفادة من تكنولوجيا الاتصال الحديث وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في تحقيق ذلك.
ودعوة مؤسسات التأهيل الاعلامي العربية إلي تطبيق مناهج ومقررات التربية الاعلامية والتربية الرقمية في كافة مراحل التعليم من آجل رفع مستوي الوعي للمواطن العربي بمهارات إدارة المعلومات والمعرفة من خلال استخدام رشيد لها بما يسمح بالاستفادة منها.
والعمل على إنتاج اعلامي يساهم في تكوين حالة ذهنية عربية بإعمال العقل وترتيب المعلومات والتفكير كأسلوب حياة.
إن ملامح هذا النموذج المعرفي الغربي يحتاج الي مزيد من الحوار حوله وهنا أطرح دعوة الي تشكيل مجموعات حوار متخصصة في مجتمعاتنا العربية لتعزيز التبادل العلمي والآراء والنقاشات البنائية في مختلف المجالات والأبعاد ومنها مجال الإعلام والإتصال تسعي الي طرح أبعاد النموذج وصولا الى الترابط العربي والعمل على انتاج محتويات رقمية للقضايا العربية تسهم في تعزيز وعي المجتمع العربي بمجتمع المعرفة
وذلك في ضوء قوانين وتشريعات تؤسس لسيادة أحكام القانون في ظل مجتمع المعرفة .
والتأكيد على ضرورة أن لا تكون الابحاث والدراسات حبيسة ادراج بل أن ترى النور من توزيعها على الجهات المعنية والجامعات ومتخذي القرار من أجل ان يحدث هذا الربط بين المؤسسات اﻻكاديمية وخدمة المحيط المجتمعي من اجل بناء مجتمع المعرفة الذي أصبح ضرورة واجبة لمن يريد ان يستمر في مقعده في الخريطة العالمية بعد ان تبين ان المعرفة أصبحت هي المورد الرئيسي للاقتصاديات الجديدة، التي انبتقت من ثورة المعلومات، والشبكات الرقمية والثورة الإعلامية بمعني أن المعرفة باتت هي العامل الرئيس لإحداث النمو وتغيير نوعية الحياة نحو الأفضل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة